الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وروينا من طريق الترمذي: حدثنا الفضل بن سهل أبو العباس الأعرج البغدادي ، حدثنا عبد الرحمن بن غزوان أبو نوح، قال: أخبرنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي بكر بن أبي موسى ، عن أبيه، قال: خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت. قال: فهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله، ثم قال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال الأشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم على العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني لأعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاما، فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل. قال: أرسلوا إليه. فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه. قال: فبينما هو قائم عليهم [ ص: 108 ] وهو يناشدهم أن لا يذهبوا إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه. فالتفت فإذا سبعة قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم فقال: ما جاء بكم؟قالوا: جئنا، إن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس، وإنا قد أخبرنا خبره بعثنا إلى طريقك هذا. فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنما اخترنا خيرة بعثنا لطريقك هذا. قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا. قال: فبايعوه وأقاموا معه. قال: أنشدكم بالله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب. فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب، وبعث معه أبو بكر ، بلالا، وزوده الراهب من الكعك والزيت. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

قلت: ليس في إسناد هذا الحديث إلا من خرج له في الصحيح، وعبد الرحمن بن غزوان أبو نوح لقبه قراد، انفرد به البخاري. ، ويونس بن أبي إسحاق انفرد به مسلم. ومع ذلك ففي متنه نكارة وهي إرسال أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم بلالا. وكيف وأبو بكر حينئذ لم يبلغ العشر سنين فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسن من أبي بكر بأزيد من عامين، وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم تسعة أعوام على ما قاله أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وغيره، أو اثنا عشر على ما قاله آخرون، وأيضا فإن بلالا لم ينتقل لأبي بكر إلا بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاما، فإنه كان لبني خلف الجمحيين وعندما عذب في الله على الإسلام اشتراه أبو بكر رضي الله عنه رحمة له واستنقاذا له من أيديهم وخبره بذلك مشهور. وقوله: فبايعوه، إن كان المراد فبايعوا بحيرا على مسالمة النبي صلى الله عليه وسلم فقريب، وإن كان غير ذلك فلا أدري ما هو.

رجع إلى خبر ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره أنه قال: "لقد رأيتني في غلمان من قريش، ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد [ ص: 109 ] تعرى وأخذ إزارا وجعله على رقبته يحمل عليها الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال: شد عليك إزارك. قال: فأخذته فشددته علي ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي، وإزاري علي من بين أصحابي".

قال السهيلي: وهذه القصة إنما وردت في الحديث الصحيح في خبر بنيان الكعبة، كان صلى الله عليه وسلم يحمل الحجارة وإزاره مشدودة عليه، فقال له العباس: يا ابن أخي، لو جعلت إزارك على عاتقك، ففعل، فسقط مغشيا عليه. ثم قال: "إزاري إزاري" فشد عليه إزاره، وقام يحمل الحجارة. وفي حديث آخر: أنه لما سقط ضمه العباس إلى نفسه، وسأله عن شأنه، فأخبره أنه نودي من السماء: أن اشدد عليك إزارك يا محمد. قال: وإنه لأول ما نودي. قال: وحديث ابن إسحاق إن صح محمول على أن هذا الأمر كان مرتين: في حال صغره، وعند بنيان الكعبة.

وذكر البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما هممت بسوء من أمر الجاهلية إلا مرتين".

التالي السابق


الخدمات العلمية