الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما تمت الدعوى؛ حصل التشوف إلى الجواب؛ فاستؤنف قوله: قال ؛ أي: على تقدير صحة ما قلت؛ وذلك أنه لما رأى الخصم قد سكت؛ ولم ينكر مما قال المدعي شيئا؛ وربما أظهر هيئة تدل على تصديقه؛ قال ذلك؛ فعوتب؛ وإن كان له مخرج؛ كل ذلك تدريبا على التثبت في القضاء؛ وألا ينحى نحو القرائن؛ وألا يقنع فيه إلا بمثل الشمس؛ وأكد قوله في سياق القسم؛ ردعا للظالم؛ على تقدير صحة الدعوى؛ بالمبالغة في إنكار فعله؛ لأن حال من فعل شيئا مؤذن بإنكار كونه ظالما؛ وكون فعله ظلما؛ مفتتحا لقوله بحرف التوقع؛ لاقتضاء حال الدعوى له؛ لقد ظلمك ؛ أي: والله قد أوقع ما فعله معك في غير موقعه؛ على تقدير صحة دعواك؛ بسؤال نعجتك ؛ أي: بأن سألك أن يضمها؛ وأفاد أن ذلك على وجه الاختصاص؛ بقوله: إلى نعاجه ؛ بنفسه؛ أو بغيره نيابة عنه؛ ولذا لم يقل: بسؤاله؛ ثم عطف على ذلك أمرا كليا جامعا لهم؛ ولغيرهم؛ واعظا؛ ومرغبا؛ ومرهبا؛ ولما كانت الخلطة موجبة لظن الألفة؛ لوجود العدل والنصفة؛ واستبعاد وجود البغي معها؛ أكد قوله - واعظا للباغي إن كان؛ وملوحا بالإغضاء والصلح [ ص: 360 ] للمظلوم -: وإن كثيرا من الخلطاء ؛ أي: مطلقا؛ منكم؛ ومن غيركم؛ ليبغي ؛ أي: يتعدى؛ ويستطيل بعضهم ؛ عاليا؛ على بعض ؛ فيريدون غير الحق؛ إلا الذين آمنوا ؛ من الخلطاء؛ وعملوا ؛ أي: تصديقا لما ادعوه من الإيمان؛ الصالحات ؛ أي: كلها؛ فإنهم لا يقع منهم بغي؛ وقليل ؛ وأكد قلتهم؛ وعجب منها بما أبهم في قوله: ما ؛ مثل "نعما"؛ ولأمر ما؛ هم ؛ وأخر هذا المبتدأ؛ وقدم الخبر اهتماما به؛ لأن المراد التعريف بشدة الأسف على أن العدل في غاية القلة؛ أي فتأس بهم أيها المدعي؛ وكن منهم أيها المدعى عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أتم ذلك ذهب الداخلون عليه؛ فلم ير منهم أحدا؛ فوقع في نفسه أنه لا خصومة؛ وأنهم إنما أرادوا أن يجربوه في الحكم؛ ويدربوه عليه؛ وأنه يجوز للشخص أن يقول ما لم يقع إذا انبنى عليه فائدة عظيمة تعين ذلك الكلام طريقا للوصول إليها؛ أو كان أحسن الطرق؛ مع خلو الأمر عن فساد؛ وحاصله أنه تذكر كلام؛ والمراد به بعض لوازمه؛ فهو مثل دلالة التضمن في المفردات؛ وهذا مثل قول سليمان - عليه السلام -: "ائتوني بالسكين أشقه بينهما"؛ وليس مراده إلا ما يلزم عن ذلك من [ ص: 361 ] معرفة الصادقة؛ والكاذبة؛ بإباء الأم لذلك؛ وتسليم المدعية كذبا؛ وتحقيقه أنه لا ملازمة بين الكلام وإرادة المعنى المطابق لمفردات ألفاظه؛ بدليل لغو اليمين؛ وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لصفية - رضي الله عنها -: "عقرى حلقى"؛ ولأم سلمة - رضي الله عنها - "تربت يمينك"؛ وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث جدهن جد؛ وهزلهن جد"؛ مشير إلى أن الكلام قد لا يراد به معناه؛ ومن هنا كان الحكم في ألفاظ الكنايات أنه لا يقع بها شيء إلا إن اقترن بقصد المعنى؛ ولما كان هذا القدر معلوما؛ عطف عليه قوله: وظن داود ؛ أي: بذهابهم قبل فصل الأمر؛ وقد دهمه من ذلك أمر عظيم من عظمة الله؛ لا عهد له بمثله؛ أنما فتناه ؛ أي: اختبرناه بهذه الحكومة في الأحكام التي يلزم الملوك مثلها؛ ليتبين أمرهم فيها؛ وعلم أنه بادر إلى نسبة المدعى عليه إلى أنه ظلم؛ من قبل أن يسمع كلامه؛ ويسأله المدعي الحكم؛ فعاتبه الله على ذلك؛ والأنبياء - عليهم السلام - لعلو مقاماتهم يعاتبون على مثل هذا؛ وهو من قصر الموصوف على الصفة قلبا؛ أي: هذه القصة مقصورة على الفتنة؛ لا تعلق لها بالخصومة؛ ولو كان المراد ما قيل من قصة المرأة؛ التي على كل مسلم تنزيهه وسائر إخوانه - عليهم السلام - عن مثلها؛ لقيل: "وعلم داود"؛ ولم يقل: وظن - [ ص: 362 ] كما يشهد بذلك كل من له أدنى ذوق في المحاورات -؛ والله الموفق؛ وقال الزمخشري : وعن سعيد بن المسيب ؛ والحارث الأعور أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين"؛ وهو حد الفرية على الأنبياء - عليهم السلام -؛ وروي أنه حدث بذلك عمر بن عبد العزيز ؛ وعنده رجل من أهل الحق؛ فكذب المحدث به؛ وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله - عز وجل - فما ينبغي أن يلتمس خلافها؛ وأعظم بأن يقال غير ذلك! وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها سترا على نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ فما ينبغي إظهارها عليه؛ فقال عمر بن عبد العزيز : لسماعي هذا الكلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمس.

                                                                                                                                                                                                                                      وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود؛ وأخبرني بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود - عليه السلام - لأن عيسى - عليه السلام - من ذريته؛ ليجدوا السبيل إلى الطعن فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ظن هذا؛ سبب له تحقيق ما وصفه الله من الأوبة؛ فعبر عن ذلك بقوله: فاستغفر ؛ ولما استغرقته العظمة التي هذا مخرها؛ رجع إلى ذكر الإحسان؛ واللطف؛ فقال: ربه ؛ أي: طلب الغفران [ ص: 363 ] من مولاه؛ الذي أحسن إليه بإحلاله ذلك المحل العظيم من أن يعود للحكم للأول بدون أن يسمع الآخر؛ وخر ؛ أي: سقط من قيامه؛ توبة لربه عن ذلك؛ ولما كان الخرور قد يكون لغير العبادة؛ قال: راكعا ؛ أي: ساجدا؛ لأن الخرور لا يكون إلا للسقوط على الأرض؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسره بالسجود؛ فيما روى النسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في "ص"؛ وقال: "سجدها داود توبة؛ ونسجدها شكرا"؛ وعبر بالركوع عن السجود؛ ليفهم أنه كان عن قيام؛ وأنه في غاية السرعة؛ لقوة الاهتمام به؛ وتوفر الداعي إليه؛ بحيث إنه وصل إلى السجود في مقدار ما يصل غيره إلى الركوع؛ قال ابن التياني في كتابه "الموعب": "وكل شيء يكب لوجهه فتمس ركبته الأرض بعد أن يطأطئ رأسه؛ فهو راكع"؛ ابن دريد: "الراكع الذي يكبو على وجهه"؛ انتهى؛ و"الركعة"؛ بالضم: الهوة من الأرض؛ كأنها سميت بذلك لأنها تسقط فيها على الوجه؛ وكأنها هي أصل المادة؛ وقال في القاموس: "ركع"؛ أي: صلى؛ فحينئذ [ ص: 364 ] يكون المعنى: سقط مصليا؛ ومعلوم أن صلاتهم لا ركوع فيها؛ وقد تقدم ذلك في "آل عمران "؛ و"البقرة"؛ وأناب ؛ أي: تاب؛ أي: رجع عن أن يعود لمثلها؛

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية