الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما أخبر - سبحانه - بالحكم بينهم؛ فكان ذلك - مع تضمنه التهديد - وافيا بنفي الشريك؛ كافيا في ذلك؛ لأن المحكوم فيه لا يجوز أن يكون قسيما للحاكم؛ فلم يبق في شيء من ذلك شبهة إلا عند ادعاء الولدية؛ قال - نافيا لها؛ على سبيل الاستئناف؛ جوابا لمن يقول: فما حال من يتولى الولد؟ قال القشيري: والمحال يذكر على جهة الإبعاد أن لو كان كيف حكمه -: لو أراد الله ؛ أي: الذي له الإحاطة بصفات الكمال؛ أن يتخذ ؛ أي: يتكلف؛ كما هو دأبكم؛ ولا يسوغ في عقل أن الإله يكون متكلفا؛ ولدا ؛ أي: كما زعم من زعم ذلك؛ ولما كان الولد لا يراد إلا أن يكون خيارا؛ وكان الله قادرا على كل شيء؛ عدل عن أن يقول: "لاتخذ"؛ إلى قوله: لاصطفى ؛ أي: اختار على سبيل التبني؛ مما يخلق ؛ أي: يبدعه في أسرع من الطرف؛ وعبر بالأداة التي أكثر استعمالها فيما لا يعقل؛ إشارة إلى أنه قادر على جعل أقل الأشياء [ ص: 450 ] أجلها؛ على سبيل التكرار؛ والاستمرار؛ كما أشار إليه التعبير بالمضارع؛ فقال: ما يشاء ؛ أي: مما يقوم مقام الولد؛ فإنه لا يحتاج إلى التطوير في إتيان الولد إلا من لا يقدر على الإبداع بغير ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان لا يرضى إلا بأكمل الأولاد؛ وهم الأبناء؛ لكنه لم يرد ذلك؛ فلم يكن؛ فهذا أقصى ما يمكن أن يجوز في العقل أن يخلق خلقا شريفا؛ ويسميه ولدا؛ إشارة إلى شدة إكرامه له؛ وتشريفه إياه؛ أو يقربه غاية التقريب؛ كما فعل بالملائكة؛ وعيسى - عليهم السلام -؛ فكان ذلك سببا لغلطكم فيهم؛ حتى ادعيتم أنهم أولاد؛ ثم زعمتم أنهم بنات؛ فكنتم كاذبين من جهتين؛ هذا غاية الإمكان؛ وأما أنه يجوز عليه التوليد؛ فلا؛ بل هو مما يحيله العقل؛ لأن ذلك لا يكون إلا لمحتاج؛ والإله لا يتصور في عقل أن يكون محتاجا أصلا؛ قال ابن برجان ما معناه: كان معهود الولادة على وجهين؛ فولد منسوب إلى والده بنوة؛ وولادة؛ ورحما؛ فهذا ليس له في الوجود العلي وجود؛ ولا في الإمكان تمكن؛ ولا في الفعل مساغ بوجه من الوجوه؛ وولد بمعنى التبني؛ والاتخاذ؛ وقد كانت العرب وغيرها من الأمم يفعلونه؛ حتى نسخه القرآن؛ فلا يبعد أن تكون هذه العبارة كانت جائزة في الكتب قبلنا؛ فلما أعضل [ ص: 451 ] بهم الداء؛ وألحدوا في ذلك عن سواء القصد؛ الذي هو الاصطفاء؛ إلى بنوة الولادة؛ أضلهم الله؛ وأعمى أبصارهم؛ وسد السبيل عن العبادة عن ذلك؛ وكشف معنى الاصطفاء؛ وأظهر معنى الولاية؛ ونسخ ذلك بهذا؛ لأن هذا لا يداخله لبس؛ وذلك كله لبيان كمال هذه الأمة؛ وعلوها في كل أمر.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت نسبة الولد إليه كنسبة الشريك؛ أو أشنع؛ وانتفى الأمران بما تقدم من الدليل بالحكم باعترافهم بأن حكمه - سبحانه - نافذ في كل شيء؛ لشهادة الوجود؛ ولقيام الأدلة على عدم الحاجة إلى شيء أصلا؛ فضلا عن الولد؛ نزه نفسه بما يليق بجلاله من التنزيه في هذا المقام؛ فقال: سبحانه ؛ أي: له التنزيه التام عن كل نقيصة؛ ثم أقام الدليل على هذا التنزيه المقتضي لتفرده؛ فقال: هو ؛ أي: الفاعل لهذا الفعال؛ والقائل لهذه الأقوال؛ ظاهرا؛ وباطنا؛ الله ؛ أي: الجامع لجميع صفات الكمال؛ ثم ذكر من الأوصاف ما هو كالعلة لذلك؛ فقال: الواحد ؛ أي: الذي لا ينقسم أصلا؛ ولا يكون له مثل؛ فلا يكون له صاحبة؛ ولا ولد؛ لأنه لو كان شيء من ذلك؛ لما كان لا مجانسا؛ ولا جنس له؛ ولا شبه بوجه من الوجوه؛ القهار ؛ أي: الذي له هذه الصفة؛ فكل شيء تحت قهره؛ آلهتهم؛ وغيرها؛ على سبيل التكرار؛ والاستمرار؛ [ ص: 452 ] فصح من غير شك أنه لا يحتاج إلى شيء أصلا؛ وجعل ما لا حاجة إليه؛ ولا داعي يبعث عليه؛ عبث ينزه عنه العاقل؛ فكيف بمن له الكمال كله؟!

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية