الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( أهل القضاء عدل )

                                                                                                                            ش : هذا الباب يترجم بكتاب القضاء وكتاب الأقضية . والأقضية جمع قضاء بالمد ، قال في القاموس : ويقصر يطلق في اللغة على الحكم ومنه قوله تعالى { : وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } أي : حكم ويطلق على الأمر والإيجاب ، قال النووي ، قال الواحدي ، قال عامة المفسرين وأهل اللغة : قضى هنا بمعنى أمر وقال غيره : بمعنى أوجب وقيل وصى وبها قرأ علي وابن مسعود وروي عن ابن عباس أنه قال : التصقت إحدى الواوين بالصاد فصارت قافا ، انتهى . ويطلق على الإلزام كما في قوله تعالى { : فلما قضينا عليه الموت ، } أي : حتمناه وألزمناه به . هذه المعاني متقاربة ويطلق القضاء على الفراغ من الشيء كقولهم : قضيت حاجتي وضربه فقضى عليه أي : قتله كأنه فرغ منه وسم ، قاض أي : قاتل ، وقضى نحبه أي : مات وفرغ من الدنيا ، وأصل النحب النذر واستعير للموت ; لأنه كنذر لازم في رقبة كل حيوان ، قال في الصحاح : وقد يكون القضاء بمعنى الأداء والإنهاء تقول قضيت ديني ومنه قوله تعالى { : وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } وقوله تعالى { وقضينا إليه ذلك الأمر } أي : أنهيناه إليه وأبلغناه ذلك وقال القرافي في قوله تعالى { ثم اقضوا إلي } أي : امضوا إلي ، وقد يكون القضاء بمعنى الصنع والتقدير ومنه قوله سبحانه { : فقضاهن سبع سموات في يومين } ومنه القضاء والقدر ، ويقال استقضى فلان إذا صير قاضيا وقضى الأمير قاضيا كما تقول أمر أميرا وانقضى الشيء وتقضى بمعنى ، واقتضى به دينه وتقاضاه بمعنى ، انتهى . وقال الأزهري : القضاء في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقضاء الشيء وتمامه ، انتهى . هذا معناه من حيث اللغة . وأما معناه عند أهل الشرع فقال ابن رشد وتبعه ابن فرحون : حقيقة القضاء الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام وقال ابن عرفة : القضاء صفة حكمية ، توجب لموصوفها نفوذ حكمه الشرعي ولو بتعديل أو تجريح لا في عموم مصالح المسلمين فيخرج التحكيم وولاية الشرطة وأخواتها والإمامة . وقول بعضهم هو الفصل بين الخصمين واضح قصوره ، انتهى . ( قلت ) واعلم أن القضاء في اصطلاح الفقهاء يطلق على الصفة المذكورة كما في قولهم ولي القضاء أي : حصلت له الصفة المذكورة ، ويطلق على الإخبار المذكور كما في قولهم : قضى القاضي بكذا وقولهم : قضاء القاضي حق أو باطل ، غير أن في تعريف ابن رشد مسامحة من وجوه : ( الأول ) ذكر لفظ الإخبار فإنه يوهم أن المراد به أمر الإخبار المحتمل للصدق والكذب المقابل للإنشاء وليس ذلك بمراد وإنما المراد به أمر القاضي بحكم شرعي على طريق الإلزام .

                                                                                                                            ( الثاني ) أنه يدخل فيه حكم الحكمين في جزاء الصيد وفي شقاق الزوجين وحكم المحكم في التحكيم ومنها أنه يدخل فيه حكم المحتسب والوالي وغيرهما من أهل الولايات الشرعية إذا حكموا بالوجه الشرعي

                                                                                                                            [ ص: 87 ] وقول ابن عرفة : إن التحكيم يخرج من تعريفه لم يظهر لي وجه خروجه فإن المحكم لا يحكم ابتداء إلا في الأموال وما يتعلق بها وما في معناها مما لا يتعلق بغير الحكمين ولا يحكم في القصاص واللعان والطلاق والعتاق لتعلق الحق في ذلك بغيرهما قالوا فإن حكم فيها بغير جور نفذ حكمه والظاهر أن التعديل والتجريح كذلك فتأمله ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( فائدة ) قال ابن عرفة حال الفقيه من حيث هو فقيه : كحال عالم بكبرى قياس الشكل الأول فقط وحال القاضي والمفتي كحال عالم بهما مع علمه بصغراه ولا خفاء أن العلم بهما أشق وأخصر من العلم بالكبرى فقط وأيضا فإن فقه القضاء والفتيا مبنيان على إعمال النظر في الصور الجزئية وإدراك ما اشتملت عليه من الأوصاف الكائنة فيها فيلغى طردها ويعمل معتبرها ، انتهى .

                                                                                                                            وأصله لابن عبد السلام ونقله في التوضيح . قال ابن عبد السلام : وعلم القضاء وإن كان أحد ، أنواع علم الفقه ولكنه متميز بأمور لا يحسنها كل الفقهاء وربما كان بعض الناس عارفا بفصل القضاء وإن لم يكن له باع في غير ذلك من أبواب الفقه كما أن علم الفرائض كذلك وكما أن علم التصريف من علم العربية وأكثر أهل زماننا لا يحسنونه وقد يحسنه من هو دونهم في بقية العربية ، ولا غرابة في امتياز علم القضاء عن غيره من أنواع الفقه ، وإنما الغرابة في استعمال كليات علم الفقه وانطباقها على جزئيات الوقائع بين الناس ، وهو عسير على كثير من الناس فنجد الرجل يحفظ كثيرا من العلم ويفهم ويعلم غيره فإذا سئل عن واقعة ببعض العوام من مسائل الصلاة أو من مسائل الإيمان لا يحسن الجواب بل لا يفهم مراد السائل عنها إلا بعد عسر . وللشيوخ في ذلك حكايات نبه ابن سهل في أول كتابه على بعضها ، انتهى . ومنها ما قال البساطي في شرح قول المؤلف فطن ، وبعصرنا الآن شخص يتعاطى الدقة في العلم وينهى عن جزئية فيتجنبها بشخصها ثم يقع في أخرى مثلها ، فإذا قيل له هذه مثل تلك تجنبها ويقع في ثالثة وعلى ذلك ، انتهى .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية