الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
342 - حدثنا عبد الله ، حدثني أبي ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل بن منبه ، أخبرنا عبد الصمد بن معقل قال : سمعت وهب بن منبه قال : " لما رأى موسى عليه السلام النار ، انطلق يسير حتى وقف منها قريبا ، فإذا هو بنار عظيمة ، تفور من فرع شجرة خضراء ، شديدة الخضرة ؛ لا تزداد النار فيما يرى إلا عظما وتضرما ، ولا تزداد الشجرة على شدة الحريق إلا خضرة وحسنا ، فوقف ينظر ؛ لا يدري علام يضع أمرها ؟ إلا أنه قد ظن أنها شجرة تحترق ، وأوقد إليها موقد فالها ، فاحترقت ، فإنه إنما يمنع النار شدة خضرتها ، وكثرة مائها ، وكثافة ورقها ، وعظم جذعها ، فوضع أمرها على هذا ، فوقف وهو يطمع أن يسقط منها شيء يقتبسه ، فلما طال ذلك عليه ، أهوى إليها بضغث في يده ؛ وهو يريد أن يقتبس من لهبها ، فلما فعل ذلك موسى مالت نحوه ؛ كأنها تريده ، فاستأخر عنها وهاب ، ثم عاد فطاف بها ، فلم تزل تطمعه ويطمع فيها ، ولم يكن شيء بأوشك من خمودها ، فاشتد عند ذلك عجبه ، وفكر موسى في أمرها ، وقال : هي نار ممتنعة ، لا يقتبس منها ، ولكنها تتضرم في جوف شجرة فلا تحرقها ، ثم خمودها على قدر عظمها في أوشك من طرفة عين ، فلما رأى ذلك موسى قال : إن لهذه النار لشأنا ، ثم وضع أمرها على أنها مأمورة ، أو مصنوعة ، لا يدري من أمرها ، ولا بم أمرت ؟ ولا من صنعها ، ولا لم صنعت ؟ فوقف متحيرا ، لا يدري أيرجع أم يقيم ؟ فبينما هو على ذلك إذ رمى طرفه نحو فرعها ، فإذا هو أشد ما كان خضرة ، وإذا الخضرة ساطعة في السماء ، ينظر إليه ، يغشى الظلام ، ثم لم تزل الخضرة تنور وتصفر وتبياض ، حتى صارت نورا ساطعا ، عمودا بين السماء والأرض عليه مثل شعاع الشمس تكل دونه الأبصار ؛ كلما نظر إليه يكاد يخطف بصره ، فعند ذلك اشتد خوفه وحزنه ، فرد يده على عينيه ، ولصق بالأرض ، وسمع الخفق والوجس ، إلا أنه يسمع حينئذ شيئا لم يسمع السامعون بمثله عظما ، فلما بلغ موسى الكرب ، واشتد عليه الهول ، وكاد أن يخالط في عقله في شدة الخوف لما يسمع ويرى ، نودي من الشجرة ؛ فقيل : يا موسى فأجاب سريعا ، وما يدري من دعاه ؟ وما كان سرعة إجابته إلا استئناسا بالأنس ، فقال : لبيك ، مرارا إني أسمع صوتك ، وأوجس وجسك ، ولا أرى مكأنك ، [ ص: 55 ] فأين أنت ؟ فقال : أنا فوقك ومعك وأمامك وأقرب إليك منك فلما سمع هذا موسى علم أنه لا ينبغي ذلك إلا لربه جل وعز ، فأيقن به ، فقال : كذلك أنت يا إلهي ، فكلامك أسمع أم رسولك ؟ قال عز وجل : بل أنا الذي أكلمك ، فادن مني فجمع موسى يديه في العصا ، ثم تحامل ، حتى استقل قائما ، فرعدت فرائصه ، حتى اختلفت واضطربت رجلاه ، وانقطع لسانه ، وانكسر قلبه ، ولم يبق منه عظم يحمل آخر ، فهو بمنزلة الميت إلا أن روح الحياة تجري فيه ، ثم زحف على ذلك ، وهو مرعوب ، حتى وقف قريبا من الشجرة التي نودي منها قال له الرب تبارك وتعالى : إلى ما تلك وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي قال : وما تصنع بها ؟ ولا أحد أعلم بذلك منه قال موسى عليه السلام : أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى .

وكان لموسى في العصا مآرب ؛ كانت لها شعبتان ومحجن تحت الشعبتين قال له الرب تبارك وتعالى : ألقها يا موسى فظن موسى أنه يقول : ارفضها فألقاها على وجه الرفض ، ثم حانت منه نظرة ، فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون ، يدب يلتمس ؛ كأنه يبتغي شيئا يريد أخذه ، يمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل ، فيقتلعها ، ويطعن بأنياب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة ، فتجتثها ، عيناه توقدان نارا ، وقد عاد المحجن عرفا فيه شعر مثل النيازك ، وعاد الشعبتان فما مثل القليب الواسع ، وفيه أضراس وأنياب لهما صريف فلما عاين ذلك موسى ولى مدبرا ولم يعقب فذهب حتى أمعن ، فرأى أنه قد أعجز الحية ، ثم ذكر ربه ، فوقف استحياء منه ، ثم نودي : يا موسى ، إلي ارجع حيث كنت ، فرجع وهو شديد الخوف ، فقال : خذها بيمينك ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى وعلى موسى حينئذ مدرعة من صوف ، قد خلها بخلال من عيدان ، فلما أمره بأخذها ، ثنى طرف المدرعة على يده ، فقال له ملك : أورأيت يا موسى لو أذن لنا الله عز وجل لما تحاذر ، أكانت المدرعة تغني عنك شيئا ؟ قال : لا ولكني ضعيف ، ومن ضعف خلقت فكشف عن يده ، ثم وضعها في في الحية ، حتى سمع حس الأضراس والأنياب ، ثم قبض ، فإذا هي عصاه التي عهدها ، وإذا يده في الموضع الذي كان يضعها إذا توكأ بين الشعبتين ، فقال له الله عز وجل : ادن فلم يزل يدنيه ، حتى أسند ظهره بجذع الشجرة ، فاستقر ، وذهب عنه الرعدة ، وجمع يديه في العصا ، وخضع برأسه وعنقه ، ثم قال له : إني قد أقمتك اليوم مقاما لا ينبغي لبشر بعدك أن يقوم مقامك ؛ أدنيتك وقربتك حتى سمعت كلامي ، وكنت بأقرب الأمكنة مني ، فانطلق برسالتي ، فإنك بعيني وسمعي ، وإن معك يدي ونصري ، وإني قد ألبستك جنة من سلطاني ، تستكمل بها القوة في أمري ، فأنت جند عظيم من جنودي ، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي ؛ بطر نعمتي ، وأمن مكري ، وغرته الدنيا عني ، حتى جحد حقي ، وأنكر ربوبيتي ، وعبد دوني ، وزعم أنه لا يعرفني ، وإني أقسم بعزتي ، لولا العذر والحجة اللذان وضعت بيني وبين [ ص: 56 ] خلقي لبطشت به بطشة جبار ، يغضب لغضبه السماوات والأرض والجبال والبحار ؛ فإن أمرت السماء حصبته ، وإن أمرت الأرض ابتلعته ، وإن أمرت الجبال دمرته ، وإن أمرت البحار غرقته ، ولكنه هان علي وسقط من عيني ووسعه حلمي ، واستغنيت بما عندي ، وحق لي أني أنا الغني ؛ لا غني غيري ، فبلغه رسالاتي ، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي ، وإخلاص اسمي ، وذكره بأيامي ، وحذره نقمتي وبأسي ، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي ، وقل له فيما بين ذلك قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة ، ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا ؛ فإن ناصيته بيدي ، ليس يطرف ، ولا ينطق ، ولا يتنفس إلا بإذني ، قل له : أجب ربك ؛ فإنه واسع المغفرة ، وإنه قد أمهلك أربعمائة سنة ، وفي كلها أنت مبارز لمحاربته ، تشبه وتمثل به ، وتصد عباده عن سبيله ، وهو يمطر عليك السماء ، وينبت لك الأرض ، لم تسقم ، ولم تهرم ، ولم تفتقر ، ولم تغلب ، ولو شاء أن يعجل ذلك لك ، أو يسلبكه فعل ، ولكنه ذو أناة وحلم عظيم وجاهده بنفسك وأخيك ، وأنتما محتسبان لجهاده ، فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت ، ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف ، الذي أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة ولا قليل مني تغلب الفئة الكثيرة بإذني ، ولا يعجبكما زينته ، ولا ما متع به ، ولا تمدان إلى ذلك أعينكما ؛ فإنها زهرة الحياة الدنيا ، وزينة المترفين ، وإني لو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة يعلم فرعون حين ينظر إليها ، أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما ، فعلت ، ولكني أرغب بكما عن ذلك ، وأزويه عنكما ، وكذلك أفعل بأوليائي ، وقديما ما خرت لهم في ذلك ، فإني لأذودهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مراتع الهلكة ، وإني لأجنبهم سلوتها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة ، وما ذلك لهوانهم علي ؛ ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفورا ، لم تكلمه الدنيا ، ولم يطفه الهوى ، واعلم أنه لم يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ من الزهد في الدنيا ؛ فإنها زينة المتقين عليهم منها لباس ، يعرفون به من السكينة والخشوع ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ، أولئك أوليائي حقا ، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك ، وذلل لهم قلبك ولسانك ، واعلم أنه من أهان لي وليا ، أو أخافه ، فقد بارزني بالمحاربة وبادأني ، وعرض بنفسه ، ودعاني إليها ، فأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، أيظن الذي يحاربني أن يقوم لي ؟ أويظن الذي يغازيني أن يعجزني ؟ أويظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني ؟ وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة ؛ لا أكل نصرتهم إلى غيري ؟ " قال : " فأقبل موسى عليه السلام إلى فرعون في مدينة قد جعل حولها الأسد في غيضة قد غرسها ، فالأسد فيها مع سياسها ، إذا أشلتها على أحد أكلته ، وللمدينة أربعة أبواب في الغيضة ، فأقبل موسى عليه السلام من الطريق الأعظم الذي يراه فرعون ، فلما رأته الأسد صاحت صياح الثعالب فأنكر ذلك الساسة ، وفرقوا من فرعون ، وأقبل موسى حتى [ ص: 57 ] انتهى إلى الباب الذي فيه فرعون ، فقرعه بعصاه ، وعليه جبة صوف وسراويل ، فلما رآه البواب ، عجب من جرأته ، فتركه ، ولم يأذن له ، وقال : هل تدري باب من أنت تضرب ؟ إنما تضرب باب سيدك قال : أنا وأنت وفرعون عبيد لربي تبارك وتعالى فأنا ناصره فأعلمه البواب السابق ، فأخبر البواب الذي يليه والبوابين ، حتى بلغ ذلك أدناهم ، ودونه سبعون حاجبا ، كل حاجب منهم تحت يديه من الجنود ما شاء الله ؛ كأعظم أمير اليوم إمارة ، حتى خلص الخبر إلى فرعون ، فقال : أدخلوه علي فأدخل ، فلما أتاه قال له فرعون : أعرفك ؟ قال : نعم ، قال : ألم نربك فينا وليدا فرد عليه موسى الذي ذكر الله عز وجل ، قال فرعون : خذوه ، فبادأهم موسى ، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين فحملت على الناس ، فانهزموا منها ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا ؛ قتل بعضهم بعضا ، وقام فرعون منهزما ، حتى دخل البيت ، فقال لموسى : اجعل بيننا وبينك أجلا ننظر فيه فقال له موسى : لم أومر بذلك ؛ وإنما أمرت بمناجزتك ، وإن أنت لم تخرج إلي دخلت إليك فأوحى الله ، عز وجل إلى موسى أن اجعل بينك وبينه أجلا ، وقل له أن يجعله هو ، ثم قال فرعون : اجعله لي أربعين يوما ففعل ، وكان فرعون لا يأتي الخلاء إلا في أربعين يوما مرة ، فاختلف ذلك اليوم أربعين مرة " قال : " وخرج موسى عليه السلام من المدينة ، فلما مر بالأسد مصعت بأذنابها ، وسارت مع موسى تشيعه ، ولا تهيجه ، ولا أحدا من بني إسرائيل " .

التالي السابق


الخدمات العلمية