الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            دور القيادة في إدارة الأزمة

            سلوى حامد الملا

            المبحث الثاني

            الحكم الراشد والديمقراطية

            ظهرت الرؤية الجديدة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، في التقرير العالمي حول التنمية البشرية لسنة 2002م، الذي جاء بعنوان: "تعميق الديمقراطية في عالم مبعثر" [1] ، حيث تمحورت الفكرة الأساسية لهذا التقرير حول اعتبار نجاح التنمية هو قضية سياسية، بقدر ما هو قضية اقتصادية، فالتقليص المستدام للفقر يتطلب التأسيس لحكم ديمقراطي صلب وراسخ يسمح بمشاركة واسعة لكل فئات المجتمع [2] .

            - أولا: ربط المفهومين بمشروطية الهيئات الدولية المانحة:

            في سـياق الانتقال إلى الحكم الديمقراطي، هناك أربعة أنماط للانتقال إلى الديمقراطية تتمثل في:

            نمط التحول (Transformation) تتم خلاله، عملية الانتقال الديمقراطي أسـاسا بمبادرات من النظام التسـلطي دون تدخل جهات أخرى، أو ما يطلق عليه "الانتقال من الأعلى" (from above). [ ص: 129 ]

            والنمـط الآخـر: نمط "التـحـول الإحـلالي" (Trans placement) وفيه تنتج عملية الانتقال عن طريق مبادرات مشتركة من النخب الحاكمة والنخب المعارضة.

            ونمط الإحلال: (Replacement) حيث تتم عملية الديمقراطية بفعل ضغوط المعارضة الشعبية، أو "الانتقال من الأسفل" .(From below)

            والنمط الأخير، نمط التدخل الأجنبي: (foreign intervention) حيث تحدث الدمقرطة انطلاقا من ضغوط خارجية [3] . وهذه الأخيرة، هي أكثر الأنماط المطبقة في الدول النامية، والأفريقية، حيث تتجلى في ممارسة القوى الخارجـية العـالمية من هيئـات وفـاعلين خـارجيين، الضغوط لتحويل هذه الدول إلى النظام الديمقراطي والذي عبر عنه الكاتب هشـام شـرابي بقوله: "إن الغرب اليوم، وأكثر من أي وقت، يريد لنا غير ما نريده لأنفسنا، نحن نريد الحداثة، وهو يريد لنا التحديث، نحن نريد السيادة على أرضنا، وهو يجبرنا على قبول التبعية، نحن نصبو إلى التحرر والوحدة، وهو يفرض علينا الدكتاتورية باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان" [4] .

            وفق هذا الطرح، يرى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن الحكم الراشد (من وجهة نظر التنمية البشرية)، كما جاء في تقرير التنمية البشرية لسنة2002م، "يدل على الحكم الديمقراطي". [ ص: 130 ]

            وهذا يعني:

            - أن تكون حقوق الإنسان والحريات الأساسية مصانة، وهذا ما يسمح لكل فرد العيش بكرامة.

            - أن يكون للأفراد رأي في مختلف القرارات، التي تؤثر على حياتهم.

            - أن يطالب المواطنون صانع القرار بتقديم كشف حساب عما قام به من إنجازات أثناء وجوده في السلطة (المساءلة).

            - أن يتم حكم المجتمع من خلال ممارسات، ومؤسسات، وقواعد عادلة وقابلة للتطبيق على الجميع.

            - ضمان وكفالة حق المساواة بين النساء والرجال، في المجالات الإنسانية العامة.

            - أن يأخذ الفعل العمومي بعين الاعتبار حاجات الأجيال المستقبلية.

            - أن تهدف القرارات الاقتصادية والاجتماعية، إلى القضاء على الفقر وتوسعة مجال الاختيار للجميع [5] .

            هناك دول تلقت مساعدات مالية قليلة ولكنها حققت نتائج إيجابية، بمعنى أن المساعدات المالية لا تؤدي إلى تحقيق النمو، وإنما هناك عوامل أخرى غير العامل المالي تلعب دورا مهما في عملية التنمية، وهذا ما خلص إليه البنك الدولي، فالدول الفقيرة لا تعاني من فجوة مالية فقط، وإنما تكمن [ ص: 131 ] الفجوة الأخطر في أهم المؤسسات والسياسات، وهو الأمر الذي يؤكده الاقتصادي الكندي (جون كنيث غالبريت) (John Keneth Glb Rith)، بالقول بأهمية العوامل المؤسسية لمواجهة تحديات التنمية الاقتصادية، إذ أنه ليس هناك من شيء يؤدي إلى تعظيم ضيق العيش والمعاناة إلا غياب سياسات نزيهة وفعالة ومسؤولة، فالمساعدات الاقتصادية مهمة، لكن دون وجود حكومة مؤهلة ونزيهة فإنها تؤدي إلى نتائج ضعيفة

            [6] .

            وبهذا المعنى، فالحكم الراشد (Good Governance) لا يشير فقط لنوع معين للحكومة (الديمقراطية) ولكنه يتضمن أيضا عددا من العناصر الأخرى، مثل حكم القانون، والمساءلة، ومزيد من الرقابة، واللامركزية، ومكافحة الفساد وإصلاح الخدمة المدنية، وتطوير نظم المعلومات (الشفافية)، سواء لصانعي القرار، أو للجمهور.

            إلا أن هذا التعريف الأخير كان موضع نقد، نظرا لتجاهله أهمية دعم المجتمع المدني كأداة للمحاسبة السياسية، فضلا عن الشرعية والمشاركة، وهي العناصر، التي أقرتها الهيئات الدولية.

            بالإضافة إلى ما سبق، تشير تعريفات أخرى للحكم الراشد لعناصر مثل: وجود ثقافة سياسية ديمقراطية، وتنظيم إداري كفء، وسياسات سليمة في [ ص: 132 ] المجال الاقتصادي، وتشمل: تحرير التجارة، بمعنى كف يد الدولة عن توجيه النشاط الاقتصادي، والخصخصة، وسـياسات دعم الفقراء، ومنها تخفيض الإنفاق العسـكري، وتوجيه جزء أكبر من الإنفاق العام لمجـالي التعليم والرعاية الصحية [7] .

            وقد اتفق البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة (UNDP) مع البنك الدولي حول النظر للمفهوم على أنه أسلوب لإدارة الموارد الاقتصادية والاجتماعية، ولتوزيع السلطات في بلد ما.. وهذا التعريف يشير لأهمية المؤسسات، وخصوصا القائمة على حماية الملكية الخاصة، كما يرتبط أيضا بضرورة كفالة حكم القانون، واستقلالية القضاة [8] .

            وعليه، فقد ظهرت محاولات الاستفادة من أساليب حقلي إدارة الأعمال والإدارة العامة. كما حلت مجموعة من القيم الجديدة (التمكين، والتركيز على النتائج) محل مجموعة من القيم القديمة (الأقدمية، والتدرج الوظيفي) [9] .

            وهكذا فإن المفهوم الذي صاغه المانحون الدوليون اقترب من أن يصبح بمثابة أيديولوجية، وهي تتطابق مع الفكر الرأسمالي الغربي، الذي يقوم على نفس المبادئ في الاقتصاد والسياسة. [ ص: 133 ]

            ومن أحدث الاتجاهات في تعريف الحكم الراشد، تلك التي اعتبرته شبكة (Network) من الهيئات غير الحكومية، التي أصبح لها دور في صياغة وتنفيذ السياسات العامة، وهكذا اتسع مفهوم الحكم ليشمل إلى جانب الحكومة، القطاعين: الخاص والثالث التطوعي (غير الساعي للربح) بما يؤكد التكامل بين الحكومات والفاعلين الجدد من غير الدول(Non state actors)

            [10] .

            وقد استدعى تناول الأبعاد السياسية للحكم الراشد الحديث عن دعم الديمقراطية، والتعددية، والانتخابات، وحقوق الإنسان (وحماية الأقليات) ومشاركة المرأة، مما جعل الحكم الجيد يعني حزمة من الإصلاحات الدستورية والسياسية والإدارية، وأيضا في محتوى السياسات العامة، وأصبحت أجندة وكالات المساعدة الدولية تتبنى نفس تلك المبادئ، التي قامت عليها الديمقراطيات الليبرالية الغربية. وتسعى لفرضها وتعميمها كنمط عالمي على الدول المتلقية للمعونات.

            وفي مجال السياسات العامة تحديدا، تمت صياغة مجموعة من البرامج وتقديمها في صورة وصفات (prescriptions) للتنمية، وهي في حقيقة الأمر ليست إلا "مشروطية سياسية" [11] . [ ص: 134 ]

            ثانيا: الاهتمام بالحكم الراشد والتحول الديمقراطي في أفريقيا:

            في ضوء ما سبق، لم يكن من الغريب أن تهتم الدراسات بخبرات تطبيق المفهوم في مجموعة بعينها من الدول النامية "ما بعد الاستعمارية" وخصوصا في إفريقيا، ومنها كتاب بعنوان: "المهنية والحكم الجيد في إفريقيا" (Professionalism and Good Governance in Africa) [12] والذي تناول حالات غانا، وتنزانيا، وزامبيا، وزيمبابوي، وجنوب إفريقيا، وخلص إلى إن الدول الإفريقية هي دول ضعيفة، لا تزال تعتمد على المجتمع الدولي، وبالتالي فهي تفتقر لأسس الاستقلالية والشرعية.

            ومن هنا، جاء فرض برامج التكيف الهيكلي على حكوماتها وأثناء التطبيق، إذ كشفت التجربة عن أوجه القصور، التي تعاني منها تلك الدول جـميعا، وخصـوصا في الجانب المعـرفي والمهـني، فقيادات هذه البلدان تفتقر في أغلبها لمعايير التخصص والخبرة الحديثة، ولم تنجح سياسات التعليم والبحث العلمي في علاج أوجه الضعف تلك، وليس أدل على ذلك من استمرار وسيطرة الكثير من الاتجاهات التقليدية في إدارة شؤون الدولة وقيامها على أسس، إما شخصية (حيث دور الفرد يغلب على دور المؤسسة)، أو إثنية (القبائل)، حيث لا يزال دور القبيلة أقوى من جهاز الدولة. [ ص: 135 ]

            ولا يختلف حال النيجر، كأنموذج لكثير من الدول الأفريقية، عن غيرها، حيث تنفرد المؤسسة العسكرية بأنها المؤسسة الوحيدة، التي تتمتع بصفات الحداثة والمهنية، ومن هنا، فهي تفرض سيطرتها على نظام الحكم، بل يصل الأمر إلى حد ما يعتبره البعض مقاومة لجهود التنمية والتحديث.

            وهو ما جعل البنك الدولي وغيره من المؤسسات الدولية المانحة تدعو إلى تبني منهج التحول الديمقراطي من أسفل إلى أعلى، حيث يتم التأكيد في هذا الصدد على مراعاة الثقافة المحلية من ناحية، وبناء الشبكات من ناحية أخرى [13] .

            ويبدو مما تقدم أن دراسة مفهوم الحكم الراشد تمت من وجهة النظر الغربية، ومع ربطها بالديمقراطية والتي دعت إليها المنظمات والهيئات الدولية وهي تسعى لتطبيق المفهوم ومؤشراته في الدول النامية وخصوصا الإفريقية.

            وعلى الرغم من ذلك، فإن التاريخ الإسـلامي ومنذ أكثر من 1430 سنة من الهجرة النبوية، أسس مبادئ الدولة الإسلامية، ومبادئ الخلافة والحكم الإسـلامي والتي اعتمدت على أصول التشـريع من قرآن كريم وسـنة مطهرة، إلا أن القرآن والسنة القولية والفعلية لم تحدد شكل نظام الحكم وإنما تركته للاجتهادات العقلية والفعلية (في ضوء ما كشفت عنه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده). [ ص: 136 ]

            - ثالثا: نظام الحكم في الإسلام: المبادئ والأسس العامة:

            تقوم النظرية السياسية في الإسلام على دعائم أساسية، تجعل منها نظرية مسـتقلة، متميزة ذات طابع خاص، تختلف كليا عن النظريات السياسية، القديمة أو الحديثة [14] .

            والنظرية الإسلامية في الحكم تقوم على دعائم ثابتة هي: الألوهية، والتوحيد، والرسالة، والخلافة.

            1- الألوهية:

            هي إحدى الخصائص، التي يتميز بها الفكر الإسلامي، سواء ما تعلق منه بالسياسة والحكم، أو ما ارتبط بالاقتصاد والمال، وما اختص بالتربية والاجتماع وغيرها من المجالات التشريعية أو الأخلاقية. فهذه الخاصية لا تقبل التطور ولا التغيير، وإنما هي ثابتة في ذاتها، ما دامت البشرية قائمة [15] .

            وفي ذلك يقول سيد قطب، رحمه الله: "إنه تصور رباني، جاء من عند الله، بكل خصائصه، وبكل مقوماته، وتلقاه الإنسان كاملا بخصائصه هذه ومقوماته، لا ليزيد عليه من عنده شيئا، ولا لينقص منه شيئا، ولكن ليتكيف هو به، وليطبق مقتضياته في حياته" [16] . [ ص: 137 ]

            2- التوحيـد:

            التوحيد هو الخاصية الأسـاس، التي جاءت بها الديانات السـماوية، ثم انحرفت كثير من العقائد عن مفهومها الصحيح، ودخلها التحريف والتبديل والتغيير، وبقي الإسلام المنهج الإلهي، الذي حفظ الله له أصوله وقواعده، فسلم مما وقعت فيه العقائد الأخرى [17] ، قال الله تعالى: ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) (الأنبياء:25)، وقال الله تعالى: ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ) (يوسف:40).

            3- الرسـالة:

            لم تكن الرسالة في يوم من الأيام منفصـلة عن فكرة الألوهية والتوحيد، بل هي صفة ملازمة لهما، لأن الإنسان العادي لا يمكن له أن يتصور الكون وخـلق الكـون، ولا يمكن له أن يدرك كيانه الذاتي وغاية وجوده الإنسـاني، كما لا يمكن أن تتضح له السبل وتتميز له القيم ويخرج عن عقائده وتصوراته وأفكاره إلا بالعقيدة الإلهية، التي تستطيع أن تخرج هذا الإنسان من الظلمات إلى النور ومن الأوهام إلى الحقائق [18] .

            والنبوة هي الطريق، الذي اختاره الله لدعوة الناس إلى عبادة الله [19] ، فمهمة الأنبياء تنحصر في نقل الرسالة عن الله تعالى عن طريق الوحي وتبليغها [ ص: 138 ] للناس، وإذا كان الإنسان لا يستطيع عن طريق العقل البشري أن يصل إلى كثير من الحقائق العلمية، فإنه لن يستطيع إطلاقا الوصول إلى كثير من الحقائق الغيبية؛ لأنها خارجة عن نطاق العقل والمشاهدة.

            وتعتبر الرسالة، دعامة من دعائم النظرية السياسية في الإسلام، من حيث إنها تمثل القاعدة الأساسية للحكم، ومن حيث إن محمدا صلى الله عليه وسلم يمثل شخصية الرسول، الذي يبلغ رسالة ربه، فيقوم بدور التبليغ والبيان، ومن ثم فإن كلامه الصادر عنه يعتبر ينبوعا للفكر الإسلامي ومصدرا له [20] .

            ونلاحظ مما ذكر، أن هناك ارتباطا وثيقا بين الدعائم الثلاث، وهي الألوهية والتوحيد وبين الرسالة، لأن الرسالة من توابع الإيمان بفكرة الألوهية، إذ يقوم الرسول بنقل إرادة الله وتعاليمه إلى الناس، قال الله تعالى: ( لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) (الأعراف:59).

            4- الخلافـة:

            تمثل الخلافة في المفهوم الإسلامي السلطة، التي تقوم نيابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالنظر في مصالح المسلمين [21] . وهناك مصطلحات كثيرة أطلقت على رئيس الدولة في الفكر السياسي الإسلامي، بالإضافة إلى الخليفة، مثل: الإمام؛ أمير المؤمنين؛ خليفة الله؛ الوصي؛ الملك؛ ولي الأمر؛ وسلطان الله... [22] . [ ص: 139 ]

            والخلافة وردت في القرآن، إلا إنها لم تأت في مقام الخلافة السـياسية وإنما يراد بها استخلاف الله، وبذلك تكون النبوة هي المقصودة في قول الله تعالى: ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) (ص:26).

            والمصطلح الذي استخدمه القرآن الكريم: "ولاة الأمور"، ويشمل: الخلفاء والأئمة والقضاة.. ومصطلح "أولي الأمر" الوارد في قول الله سبحانه وتعالى: ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا * يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) (النساء:58-59)، قال المفسرون والعلماء: إن خطاب الله في هذه الآية هو لولاة أمور المسلمين، فهي تشمل الخلفاء والأئمة والقضاة [23] . كما تشمل أركان الدولة، وهم الحكام والأمة والقانون والنظام، وهذا هو تعريف الدولة في العلوم السياسية، وهي كذلك أركان الدولة الإسلامية.

            وجاء مصطلح الخلافة في السنة في أحاديث كثيرة منها، عن أبي حازم، قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: [ ص: 140 ] ( كانت بنـو إسـرائيل تسـوسـهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء تكثر، قالوا: فما تأمرنا، قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم ) [24] .

            وتتحدث الأحاديث النبوية عن الحكم وتعبر عنه بمصطلح الخلافة، وبالإمامة، والإمارة، وكذلك بالوصاية [25] .

            أما في الأدب السياسي في عهد الخلافة الراشدة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، جاء لقب "خليفة رسول الله" في مكاتبات أبي بكر الصديق رضي الله عنه ووثائق الفترة، التي حكم فيها، ولقب "أمير المؤمنين" المسـتخدم في مكاتبات الفاروق رضي الله عنه ووثائق عصره [26] ، ذلك أن كل المسلمين أجمعوا على أنه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كان لابد أن يوجد من يخلفه، ويقوم مقامه لحفظ الدين واستمراره، وتنفيذ شريعته، وحماية أمته، وتبليغ رسالته إلى سائر أنحاء العالم [27] .

            5- الطاعـة:

            وأهم ما يجب أن يكون عليه جوهر الحكم لولاة الأمر والحكام، الحكم بما أنزل الله بشريعة الإسلام [28] . فالإسلام حائط منيع وباب وثيق، وحائط الإسلام هو العدل وبابه هو الحق، ولا يزال الإسلام منيعا ما اشتد السلطان، [ ص: 141 ] وليسـت شـدة السـلطان قتـلا بالسـيف أو ضـربا بالسـوط ولكن قضـاء بالحق وأخذا بالشريعة [29] .

            ثم يأتي الخطاب للأمة، فأوجب الله عليها طاعة "أولي الأمر منها"، أي من المسلمين [30] .

            ومصادر الشريعة في الإسلام من قرآن وسنة تؤكد أن العدل أساس الحكم في الإسلام، ويعد من أعمدته، التي إن ضعفت أو فقدت، ضعفت وضاعت هيبة الحكم في الإسلام بالإضافة لكل من الحرية، والشورى [31] .

            فلا مجتمع إسلاميا دون الحرية والمساواة والشورى والعدالة والطاعة للحاكمين ومقاومتهم متى جاروا [32] .

            والعدل ميزان، وقد أنزل الله الكتاب والميزان، فكان هذا التوثيق بينهما دليلا على أن العدل رفيق القرآن، ومن كان القرآن رفيقه فقد اسـتقام؛ فالعدل نظام كل شـيء وميزان كل شيء، به تسـتقيم الأمور وتطمئن النفـوس، فالله يقيـم الدولة العـادلة ولو لم تكن مسـلمـة ولا يقيـم الظـالمة ولو كانت مسلمة؛ لأن الظلم من غواية الشيطان، والعدل من مشيئة الرحمن؛ [ ص: 142 ] ولأن العدل مشيئة إلهية فقد أمر الله به، قال الله تعـالى: ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل:90).

            السلطة الحاكمة، مأمورة بأن تنزل القرآن في حياة الناس حكما وتحاكما بينهم، فهي وفقا لذلك تقيم ممارستها على الحق والعدل، ذلك أن العدل في المصدر: ( وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا ) (الأنعام:115)، والعدل عند التنفيذ: ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ) (الجاثية:18)، والعدل عند التقاضي: ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء:58)، حلقات مترابطة غير منفصلة ولا منفلته ضمانا للعدل المطلق الصادر عن الواحد العادل المطلق. ويغطي العدل في الإسلام كل أعمال السلطة حين تمارس نشاطها الملتزم كتاب الله وسنة رسوله [33] .

            فالسياسة العادلة في الإسلام، التي تعنى بالأحكام والتصرفات، التي تعني بالأمة، وتعمل على تحقيق مصالحها وفقا لمبادئ الشريعة الإسلامية وأصولها العـامـة غير متـأثـرة بالأهواء والشـهوات.. ويرى ابن القيم [34] ، توكيدا لذلك، أن الشريعة الإسلامية قد نهجت في تحقيقها للمقاصد العامة في التشريع الإسلامي إلى تحقيق العدالة والرحمة ومصالح الناس.

            فالسلطة في الإسلام تمارس أعمالها لتحقيق العدل، باتخاذها الأدوات والوسـائل المشروعة، التي تتطابق مع الشريعة ولا تتعارض معها [35] . [ ص: 143 ]

            وسير الخلفاء الراشدين تبين الكثير من المواقف، التي يستدل منها على مدى حرص الصحابة، رضوان الله عليهم، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، على تطبيق العدالة في خلافتهم والتي بدأت منذ تولى الخليفة الراشد أبوبكر الصديق رضي الله عنه في إعلانه دستور حكمه العادل، فبعد أن حمد الله وأثنى عليه قال:

            "أما بعد، أيها الناس، قد وليت أمركم، ولست بخيركم، ولكن نزل القرآن، وسن النبي صلى الله عليه وسلم السنن، فعلمنا فعلمنا، اعلموا أن أكيس الكيس التقوى، وأن أحمق الحمق الفجور، وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق؛ أيها الناس، إنما أنا متبع، ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوموني" [36] .

            وكذلك خطبة الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عند توليه للخلافة، فقد استهل خلافته بأن ألقى على رعيته دستور حكمه العادل [37] موضحا نهج سياسته العادلة.

            وتاريخ عمر رضي الله عنه حافل بالمواقف، التي تكشف عن سياسة حاكم عادل، سواء مع نفسه أو مع أهل بيته، أو مع رعيته، وهو ما سوف تبينه الدراسة وتتطرق إليه في المبحث المتعلق بقيادة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ودوره في إدارة أزمة عام الرمادة. [ ص: 144 ]

            6- الحرية والمساواة، واحترام الشخصية الفردية [38] :

            الحرية هي القيمة، التي وهبها الله كل الناس، وهي من معطياته وليس من معطيات الإنسان، وإذا كانت الحرية في ظل النظم الوضعية حرية منقوصة، سواء كانت تقوم على أساس سياسي أو على أساس اقتصادي اجتماعي، فهي في الإسلام حرية كاملة تقم على أساس إيماني وأخلاقي توافق ما عليه المسلم من التكليف [39] .

            لقد أقر الإسلام احترام الشخصية الفردية بوصفها قيمة إنسانية، قال الله تعالى: ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء:70).

            فالإسلام قرر للإنسان حقوقا وحريات لم تعرفها الفلسفات والنظم السياسية من قبله، كما أن الإسلام قدم ضمانة موضوعية لحماية تلك الحقوق والحريات والمتمثلة أساسا في واجب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، فهو يعد الأصل الجامع لكل القيم الإسلامية العليا، كما يعد الضمانة الموضوعية لعدم تعسف القائم على السلطة وخروجه على قيم الإسلام [40] .

            الإسلام يهدف أساسا إلى تحرير الإنسان، ورفع شأنه، وتوفير أسباب العزة والكرامة له. [ ص: 145 ]

            ومن مظاهر هذا التكريم قول الله تعالى: ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) (البقرة:30)، وقوله تعالى: ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) (البقرة:34).

            وقد عبر عن ذلك الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان بقوله: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" [41] .

            فالحرية والمساواة في الإسلام تتميز بأنها من عند الله سبحانه وتعالى، ومن ثم فتقريره لم يكن وليد كفاح الشعب ضد طغيان الحكام، وإنما هما نبعا من عقيدة الإيمان، وعلى ذلك لم يكن لأحد من الحكام أو غير الحكام أن يمسها، ضيقا أو اتساعا، إلا بما يوافق الشرع ومقاصده [42] .

            7- البيعة: حرية اختيار الحاكم:

            كما أن من الحرية اختيار الحاكم [43] ، ذلك بأن يختار الناس بإرادتهم الحرة إمامهم أو رئيسهم، وألا يفرض عليهم حاكم بعينه لا يرضونه، فللشعب اختيار حاكمهم عن طريق البيعة، وهذا هو الأصل، حتى وإن استخلفه حاكم قبله، مثلما اسـتخلف أبـو بكر عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما [44] . [ ص: 146 ]

            فالإسلام يرفض الاستبداد مثل حكم فرعون، الذي جاء بيانه في قول الله تعالى: ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ) (القصص:4).

            8- الشورى:

            تعد الشـورى في الإسـلام أصـلا عاما من أصول الحكم [45] ، وهي ثابتة في الكتاب والسـنة وعمل الخلفاء الراشـدين، رضـوان الله عنهم أجمعين؛ ومن تنويه القرآن بالشورى أن سميت سورة من سوره بها، مما يدل على أن لها أهمية كبرى في حياة المسلمين وضرورة لتدبير شؤون الدولة [46] ، كما أنها ضرورية للأفراد في حياتهم الخاصة.

            ومن الأدلة على مشـروعية الشـورى من القرآن الكريم قول الله تعـالى: ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) (آل عمران :159).

            ومن السـنة النـبـوية القـولـيـة، الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: ( ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من النبي صلى الله عليه وسلم ) [47] . [ ص: 147 ]

            ومن السنة الفعلية، التي تبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم كقائد أعلى للأمة الإسـلامية، كان يشـاور قومه في كثير من المواقف، مشـاورتهr لأصـحابه يوم بدر في التوجه إلى قتال المشركين، وفي أسرى بدر، وقبل غزوة أحد: أيبقى في المدينة أم يخرج إلى العدو؟!

            ومن فوائد مبدأ الشورى أنه يحمل الأمة على المشاركة في الشؤون العامة والاهتمام بها، مما يعتبر مشاركة في الحكم ولو بطريق غير مباشر، كما أن الشورى تؤدي إلى مراقبة الحكام ومحاسبتهم [48] .

            والشورى تمنع الاستبداد؛ لأن أهم وظيفة في الدساتير وفي توزيع السلطات وتحديدها وفي أحكام الشورى وضبط موازينها هي "منع الحاكم من أن يستبد برأيه أو يقيم من نفسه جبارا على الناس، فالشورى مبدأ فوق المجادلات، وإذا لم تكفلها المواد الصريحة والتطبيقات الصحيحة فليست هناك شورى ولا دساتير، وإن زعم الزاعمون" [49] .

            والعمل بالشورى يكفل حماية حقوق الرعية في اختيار ولاتهم وفي محاسبتهم، وإن اختلف الفقهاء حول إلزاميتها [50] . [ ص: 148 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية