الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            دور القيادة في إدارة الأزمة

            سلوى حامد الملا

            المبحث الثاني

            سياسات عمر في إدارة الأزمة

            تميز عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالقدرة التحليلية والاجتهادية، فمن خلال قدرته على جمع المعلومات وتحليلها، وحسن توقعه، مع يقينه وتوكله على الله سبحانه وتعالى، كان يصل إلى القرار السليم؛ وفي عام الرمادة، كأزمة عصفت بشبه الجزيرة العربية، كان له من الحكمة والقيادة ما أكد عبقريته وقوة إيمانه وثقته بالله.

            في عام الرمادة، أخذ عمر رضي الله عنه على نفسـه بأن يحيا، كما يحيا رعاياه في ذلك العـام المجـدب، وكان يقـول: "كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يصبني ما أصابهم؟" [1] ، وعندما تتأمل هذه المقولة تجد أنها تشكل مفتاح الحكم الصالح في كل عصر ومصر.

            فعندما لا يشعر الحاكم بإحساس شعبه، وتكون له حياته الخاصة المرفهة، فحينئذ ينفتح باب الفساد، ويتحقق قول الله سبحانه وتعالى: ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) (الإسراء:16). [ ص: 175 ]

            وحياة سيدنا عمر رضي الله عنه وزهده لم تكن مجرد عبادة، بالمفهوم العام للعبادة، وإنما كانت تعليما للرعية من ناحية، ووسيلة للإحساس بمشاكلها من ناحية أخرى، وأنموذجا للقدوة الحسنة.

            جعل من نفسه قدوة، بما كان يملك من حكمة وحنكة، وقدرة على اتخاذ القرارات السريعة والصائبة، بالإضافة إلى اجتهاده في مواجهة الأزمة، التي استمرت على مدى تسعة أشهر.

            - أولا: سياسات "الأمن الإنساني":

            استهدفت سياسات الخليفة عمر رضي الله عنه تحقيق مفهوم الأمن الإنساني، الذي يجعل من الإنسان هدفا له في إطار جامع بين أصول بنيته الفوقية (التأسيس للأمن)، وقواعد بنيته التحتية (الإطعام من الجوع) لبلوغ مسألة الأمن بأبعاده المختلفة حتى يستقر في النفس فيكون أمنا من الخوف، يشكل حالة جماعية من الاستقرار والأمن [2] .

            إن الأزمة تحدث، بحكم التعريف، اختلالا في الأمن والاستقرار، وإدارة الأزمة هنا إنما تعيد الأمر إلى حال استقراره وأمانه، من خلال مجموعة من السياسات والإجراءات تتسم بالعدل والمساواة، لتخرج من حال الأزمة إلى حال الأمن والاستقرار وعبور الأزمة بسلام. [ ص: 176 ]

            - ثانيا: سياسات توزيع المغانم والمغارم:

            وغاية أمر الأزمة حينما تعم، أن تشكل القاعدة، التي تتعلق بتحمل الأعباء والواجبات، لا الوقوف عند حد الأخذ والمطالبة بالحقوق، وهو أمر يتعلق بالتوزيع العادل للمغارم والمغانم، هذا التوزيع إنما يشكل استراتيجية ناجعة للخروج من أي أزمة عامة [3] .

            وهنا يجب علينا التوقف عند أزمة عام الرمادة كأنموذج تاريخي في فترة الحكم العمرية، وفي هذا الإطار فإن الجماعة إذ تعرضت آنذاك، في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه للابتلاء، فإن عمر رضي الله عنه ظل يتعامل مع الأزمة تعاملا منهجيا منظما يقوم على قاعدة وسنة الأخذ بالأسباب.

            لقد واجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أثناء خلافته مجموعة من الأزمات، وقد نجح في مواجهتها هذه الأزمات والتعامل معها بدرجة عالية من الاقتدار. وتعتبر أزمة عام الرمادة، التي وقعت في أواخر العام (17) وأوائل العام (18) للهجرة، وفي السـنة الخامسـة لخلافته رضي الله عنه ، أهمها جميعا.. فقد أصـاب الناس في الجزيرة العربية مجاعة شـديدة وجدب وقحط، استمر لمدة تسـعة شـهور، وقد سمي هذا العام بعام الرمادة [4] .

            وهرع الناس من أعماق البادية إلى المدينة المنورة يقيمون فيها أو قريبا منها، يفزعون إلى قيادتهم ويلتمسون منها الحل للأزمة، فكان الفاروق رضي الله عنه [ ص: 177 ] أكثر الناس إحسـاسـا بهذا البلاء وتحملا لتبعاته في إطار أن السـلطة تكليف لا تشريف، وأداء وإنجاز، وإرادة وإدارة. وكان للسياسات المختلفة، التي اتخذها عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفضل في الخروج من الأزمة.

            - ثالثا: سياسات الضرورة (الطوارئ):

            تعتبر الأزمة أنموذجا لحالة "الضرورة"، التي تحكمها مجموعة من القواعد الكليـة والشـرعيـة والعامـة، التي كان يـزخر بها عقـل سـيدنا عمر رضي الله عنه وتضبط تفكيره وتدبيره، وذلك في إطار أن "الضرورات تبيح المحظورات" [5] ، وأن الضرورة تقدر بقدرها، إنسانا ومكانا وزمانا وأحوالا، وأن الضرورة تتطلب عملا استثنائيا في ظل ظرف استثنائي.

            هذه الرؤية الكلية تضمنت حزمة متكاملة وسلسلة متتالية من الخطوات التدبيرية لإدارة الأزمة، منعا لتحولها في تراكمها إلى درجة الانفجار، فبين الانفجار والاستقرار، تقع إدارة الأزمة والسياسات العادلة المتعلقة بها.

            - رابعا: الدعاء مع الأخذ بالأسباب:

            توج الفاروق رضي الله عنه ما اتخذه من إجراءات وسياسات بعمل يقوم على قاعدة وصل الناس بالسماء في إطار الاستعانة بالله والاستغاثة به وصلاة الاستسقاء، فخطب عمر رضي الله عنه الناس في زمان الرمادة فقال: [ ص: 178 ]

            "أيها الناس، اتقوا الله في أنفسكم وفيما غاب عن الناس من أمركم، فقد ابتليت بكم، وابتليتم بي، فما أدري ألسخطة علي دونكم، أو عليكم دوني، أو قد عمتني وعمتكم، فهلموا فلندع الله يصلح قلوبنا، وأن يرحمنا، وأن يرفع عنا المحل" [6] .. فرئي عمر يومئذ رافعا يديه يدعو الله، ودعا الناس، وبكى وبكى الناس مليا، ثم نزل.

            وعن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سـمـعت عمر يقول: "أيها الناس، إني أخـشـى أن تكـون سـخـطة عمتنا، فاعتبوا ربكم، وانزعوا وتوبوا إليه وأحدثوا خيرا".

            وعن عبد الله بن ساعدة، قال: رأيت عمر إذا صلى المغرب نادى: "أيها الناس، استغفروا ربكم إنه كان غفارا، وتوبوا إليه واستغفروه، واستسقوه سقيا رحمة لا سقيا عذاب"، فلم يزل كذلك حتى فرج الله.

            وعن الشعبي، أن عمر رضي الله عنه خرج يستسقي، فقام على المنبر، فقرأ هؤلاء الآيات: ( ... استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا ) (سورة نوح آية 10-11) يقول: "اسـتغفروا ربكـم وتـوبـوا إليه"، ثم نزل، فقيل له: ما يمنعك من أن تستسقي؟ فقال: "طلبت المطر بمجاديح السماء التي ينزل بها المطر" [7] . [ ص: 179 ]

            ولما أجمع عمر رضي الله عنه على أن يسـتسـقي، ويخـرج بالنـاس كتب إلى عماله أن يخرجوا يوم كذا، وأن يتضرعوا إلى ربهم، ويطلبوا أن يرفع المحل عنهم [8] .

            وهكذا، فالتـوجه والالتـجـاء إلى الله سـبحـانه وتعـالى من الأسـبـاب، التي اتخذها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فلقد رأى أن هذه الأزمة ذات تأثيرات عميقة على جانب الأمن الغذائي للمجتمع الإسلامي.

            وكانت أولى استجابات عمر بن الخطاب رضي الله عنه كقائد وخليفة للمسلمين لهذه الأزمة هو التوجه إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا منهج إيماني نابع من عمق إيمانه وتفكيره الديني [9] .

            التوجه إلى الله، من الإيمان الراسخ والشديد بنصر الله وعونه للمسـلمين في أزمتهم الشديدة، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي بالناس صلاة العشـاء ثم يذهب إلى بيته ويظل يصلي حتى آخر الليل، ويدعو الله أن لا يهلك أمته.

            وفي ضوء ذلك، يمكن القول: إن الجانب الإيماني، في منهجية وإدارة القائد المسلم لشؤون دولته، لأمر يميز القيادة الإسلامية عن غيرها من قيادات تسعى إلى فصل الدولة عن الدين، في إدارة دفة أمور وشؤون الدولة والمجتمع.

            وكذلك في هذا السياق من التعامل مع الأزمة، تحاول كثير من القيادات في الوقت المعاصر، تبرير وقوع كوارث تلحق بالأمة، عن طريق الترويج لمقولة [ ص: 180 ] إنها أحداث عادية ومتكررة، وتحدث في كل بلاد العالم، ولا ينفرد بها مجتمع دون الآخر، تجنبا للمساءلة.

            مما سبق، يتبين إن القيادة الإسلامية، يجب عليها اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى في كل وقت وفي كل الظروف، كأول الأسباب المهمة والرئيسة في طلب العلاج وحل الأزمات التي تواجههم، وقد جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأمرين، أعطى أنموذجا على أن الدعاء والتقرب إلى الله، لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب، في حين بعض القيادات المعاصرة قد تستخدم الدين كوسيلة لإخماد غضب الشعوب، أو تهدئ الناس بالصلاة والدعاء دون الأخذ بالأسباب.

            - خامسا: السياسات والإجراءات الإدارية:

            استخدم الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه منهج علم الإدارة، في التعامل مع أزمة عام الرمادة، فقد كان يشرف بنفسه على توزيع المواد التموينية والغذائية على المحتاجين والفقراء [10] ، وكان يتفقد أحوال الرعية وينتقل من بيت إلى بيت طيلة مدة الأزمة.

            وعند النظر للمنهج الإداري الحديث، نجد إن الخليفة الراشد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد سبق علم الإدارة بقرون في منهجيته في التعامل مع الأزمات. فقد أحسن وأجاد التخطيط، والتنظيم، والتنفيذ لتأمين الاحتياجات وتوفير الأمن الغذائي للمجتمع الإسلامي في الجزيرة العربية. [ ص: 181 ]

            - سادسا: القيادة قدوة:

            ومن الناحية الاقتصادية، فقد وضع عمر رضي الله عنه أسسا اقتصادية سليمة لتوزيع واستهلاك المواد الغذائية والتموينية. كما لم يكن لديه أي إيثار لأهل بيته على بقية الناس. ضرب عمر رضي الله عنه من نفسه للناس قدوة، فحلف عمر رضي الله عنه منذ أن حلت الأزمة في عام الرمادة، ألا يذوق لحما ولا سمنا، حتى يحيى الناس [11] . فقد كان عمر رضي الله عنه يحمل المؤونـة بنفسـه إلى الجـائعين، ويطـبخ لهم ثم لا يتركهم حتى يأكلوا ويمرحوا حتى تطيب نفسه [12] .

            ولقد أجمع الرواة جميعا أن عمر رضي الله عنه كان صارما في الوفاء بهذا القسم، مؤكدا على شعار غاية في الأهمية إذ كان يقول: "كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يصبني ما أصابهم؟"، وقد تأثر عمر رضي الله عنه في عام الرمادة حتى تغير لونه، فأكل الزيت، حتى غير لونه وجاع فأكثر [13] .

            عن أنس بن مالك قال: تقرقر بطن عمر بن الخطاب، وكان يأكل الزيت عام الرمادة، وكان حرم عليه السمن، فنقر بطنه بإصبعه، قال: "تقرقر تقرقرك، إنه ليس لك عندنا غيره حتى يحيا الناس" [14] . [ ص: 182 ]

            وعن أسـامة بن زيد بن أسـلم، عن أبيه، عن جـده، قال: "كنا نقول: لو لم يرفع الله المحل عام الرمادة لظننا أن عمر يموت هما بأمر المسلمين" [15] .

            ويوما، نظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عام الرمـادة، إلى بطيخة في يد بعض ولده، فقال: "بـخ بـخ يا ابن أمـيـر المـؤمنين، تأكل الفـاكهة وأمـة محمد هزلى" [16] ؟

            هذا هو الفاروق رضي الله عنه وهذا هو فن الحكم، إذ يؤثر الرعية على نفسه، فيأكلون خيرا مما يأكل، وهو الذي يحمل من أعباء الحكم والحياة أضعاف ما يحملون، ويعاني من ذلك أضعاف ما يعانون، فهو دائم التفكير والحرص على توفير الأقوات للمسلمين، يفكر في رعيته، من زحف منهم إلى المدينة، ومن بقي منهم في البادية، ويواجه العبء كله في كفاءة واقتدار [17] .

            وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: "أكثروا ذكر عمر، فإن عمر إذا ذكر ذكر العدل، وإذا ذكر العدل ذكر الله". [ ص: 183 ]

            - سابعا: سياسات الإغاثة والتكافل الإقليمي:

            خلال الأزمة والتي تحتاج قرارات سريعة، كما أسلفنا، وإدارة مختلفة تعتمد على سمات القائد وسرعة البديهة، شرع عمر رضي الله عنه في الاستغاثة وطلب الإغاثة من خلال المكاتبة إلى الولاة والعمال في سائر أمصار الدولة الإسلامية شعاره: "من كان عنده فضل من زاد, فليعد به على من لا زاد له".

            وهكذا، اتبع عمر رضي الله عنه سياسة تكافلية في توزيع المغانم والمغارم، وتدوير الموارد بحيث تكفي الجميع، ضمن سياسة كلية، لا تتعلق فقط بالأفراد، حينما أمر الأغنياء بأن يخرجوا ما عندهم من غذاء ليمدوا الموائد في الطرقات، فيفيض الغني بما عنده على كل فقير ومضار في عام الرمادة، فالأمر كان أبعد من هذه التوجيهات ليشمل العلاقات بين الأفراد والجماعات ويتجاوزها إلى العلاقات بيت الأقاليم والولايات [18] .

            فقد كتب عمـر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمـرو بن العاص رضي الله عنه والي مصـر، وإلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه والي الشام، وإلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه والي حمص [19] ؛ وهذا فعل اتخذه عمر رضي الله عنه بعد أن نفدت الإمكانيات المادية في المدينة وما حولها، وقد زاد عدد اللاجئين من البدو في المدينة، وهذا ينم عن سـياسة رشـيدة في الإعلان وشـفافية في التعامل والتعاطي مع الأزمة، التي كانت تعترض دولة الخلافة. [ ص: 184 ]

            فلم يتـردد كـونـه خـليـفة وأميرا للمؤمنين، من طلب العـون والإغـاثـة، كما يتردد بعض القادة في الوقت الحالي، الذين يرون في ذلك ضعفا ودليل فشل قيادتهم.

            ومن خلال ذلك، يتبين أهمية عملية الاتصال، ودورها في نقل المعلومات الصحيحة من وإلى القيادة، فعملية الاتصال تتطلب انتقال المعلومات بصيغة مختصرة، ومؤثرة تؤدي الغرض منها، بدلا من اتخاذ وسائل أخرى، تعتمد على اتخاذ وسطاء، مما يؤدي إلى إطالة زمن الأزمة، وبطء عملية الإغاثة، فعملية الاتصال كانت مباشرة من القائد عمر إلى ولاته وعماله، ومن ولاته إليه.

            ومما كتب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه والي مصر: "سلام عليك، أما بعد، أفتراني هالكا ومن قبلي وتعيش أنت ومن قبلك؟ فيا غوثاه، يا غوثاه" [20] .. الرسالة، لم تتجاوز الثـلاثين كلمة ولكنها حققت الغرض المطلوب منها.

            كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كخليفة للمسلمين يملك نمط القيادة المتمكنة (المركزية) [21] ، التي من نتائجها جعل الأمصار، والإمارات بولاتها وعمالها، تحت رقابة الخليفة ومحاسبتهم، فلم يكن عمر رضي الله عنه يريد من تلك النداءات إلا أن يجعله توجها إنسانيا، ويؤكد النظر إلى الأمة ككيان واحد.

            وكان في تلك النداءات توجيه فعلي لمعنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، مثل الجسد إذا اشتكى منه [ ص: 185 ] عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) [22] ؛ وقوله صلى الله عليه وسلم : "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" [23] .

            وهو تنفيذ فعلي لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره ) [24] ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : "من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له" [25] .

            وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يضيع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حسابا شديدا، ويعذبهم عذابا أليما ) [26] .

            وأخذ عمر رضي الله عنه بمبدأ الحيطة والحذر لمستجدات الأزمة والخوف من تداعياتها، فتعرض منطقة لخطر المجاعة لا يمنع من تعرض منطقة أخرى لمثلها، أو تكرارها بنفس المنطقة، لذلك فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يركز على ضرورة تحقيق التعاون بين أبناء الدولة الإسلامية في السراء والضراء، وهذا من [ ص: 186 ] منطلق عدالة النظام الإسلامي، التي تقضي بأن يقتسم أبناء الدولة الإسلامية الخير والشر، فلا يجوز في الإسلام أن يشبع بعض أفراد الدولة الإسلامية ويجوع آخرون، لذلك كان الاهتمام بترشيد الاستهلاك، وحسن استغلال الموارد. وقد أقر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام الرمادة نهج التعاون بين المسلمين في شؤون الحياة، وهذا النهج كان سببا في تجاوز هذه الأزمة بنجاح وكان يرى أن يتقاسم الناس لقمة العيش، ويقول: "إن الناس لم يهلكوا على أنصاف بطونهم" [27] .

            ولولا أن عمر رضي الله عنه بدأ بنفسـه، وأعطى القدوة وأثبت مصداقيته، لما نجح في الحصول على استجابة الناس، وبالتالي ضمن فعالية التنفيذ لسياساته.

            - ثامنا: السياسة الاتصالية:

            وكان من سرعة عملية الاتصال السليمة بين أمير المؤمنين وولاته، الرد السريع من عمرو بن العاص رضي الله عنه برسالة تلبي الطلب وتحقق واجب النجدة، وهي تشـبه في وقتنا الحالي البرقية السريعة، التي تحمل المهم من الرسالة، وتأتي نتيجة سـريعة ومهمة في طاعة ولي الأمر والقائد العام للدولة الإسـلامية، ولم يقتصر عمرو بن العاص رضي الله عنه على مجرد الرد وتلبية النداء، وإنما تبين وضع اسـتراتيجية لحل الأزمة والشدة، التي يعانيها المسـلمون، وشرع في عملية الإنقاذ عن طريق البحر، وهو ما تم بعد ذلك بحفر مضيق أمير المؤمنين. [ ص: 187 ]

            وكانت رسالة عمرو بن العاص رضي الله عنه سلام عليك، فإني أحمد الله إليك، الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فقد أتاك الغوث، فلأبعثن إليك بعير أولها عندك وآخرها عندي، إن شاء الله"؛ وفي صحيح ابن خزيمة ورد رد عمرو رضي الله عنه على النحو الآتي: "سلام، أما بعد لبيك لبيك، أتتك عير أولها عندك، وآخرها عندي، مع أني أرجو أن أجد سبيلا أن أحمل في البحر" [28] .. وهي رسالة تدل على معنى الطاعة لولي الأمر، ومعنى الاستجابة والإحساس بالآخر.

            لقد كتب عمر رضي الله عنه إلى كل عامل من عماله على الشام: "ابعث إلينا من الطعام بما يصلح من قبلنا، فإنهم قد هلكوا إلا أن يرحمهم الله"، وكتب إلى عماله على العراق وفارس بمثل ذلك، وكلهم أرسلوا إليه، وجعل عمر رضي الله عنه يرسل إلى الناس مؤونة شهر بشهر، مما يصله من الأمصار من الغذاء والكساء [29] .

            واستمرت القدور العمرية الضخمة يقوم عليها عمال مهرة، يطبخون من بعد الفجر ثم يوزعون الطعام على الناس، وأعلن عمر رضي الله عنه :

            "نطعم ما وجدنا أن نطعم، فإن أعوزنا جعلنا مع أهل كل بيت ممن يجد عدتهم ممن لا يجد، إلى أن يأتي الله بالحيا" [30] ، وفي رواية: "لو لم أجد للناس [ ص: 188 ] من المال ما يسعهم إلا أن أدخل على كل أهل بيت عدتهم فيقاسمونه أنصاف بطونهم حتى يأتي الله بخير لفعلت؛ فإنهم لن يهلكوا على أنصاف بطونهم" [31] .

            وهكذا حرص عمر بن الخطاب رضي الله عنه على توزيع الأمن، وهي سياسة رشيدة حكيمة، تعنى بالجماعة في عام المجاعة، وكان الفاروق يقوم بتوزيع الطعام والزاد، على كثير من القبائل في أماكنهم من خلال كتائب رجال شكلها فيما يشبه فريق الأزمات [32] .

            - تاسعا: الشمول الواضح في سياسة إدارة الأزمة:

            لقد أحسن سيدنا عمر رضي الله عنه اختيار سياسة حشد الموارد وتعبئة القدرات بجانبيها المادي والبشري، كما اتسمت سياسته في إدارة الأزمة بالشمول، على المستويين المحلي الداخلي والإقليمي الخارجي.

            على المستوى المحلي الداخلي، أعلن الفاروق رضي الله عنه حالة الطوارئ، وطبق في ذلك فقه الأزمات، فبعد ارتفاع الأسعار(التضخم)، وانتشار الجوع، هرع الناس إلى عاصمة الخلافة، وزاد عدد اللاجئين إلى المدينة عن ستين ألفا [33] .

            وعندما جاء الناس من كل ناحية، أمر عمر رضي الله عنه رجالا يقومون بمصالحهم، في إطار تقسيم أدوار ووظائف العمل على العاملين، وإنشاء [ ص: 189 ] مؤسـسـة ترعى شـؤون اللاجـئين، بحيث يـكون كل موظـف عـالما بالعـمل، الذي كلفه به، دون تقصير فيه، ولا يتجاوز إلى عمل آخر مسند إلى غيره.

            وقد عين أمراء على نواحي المدينة، لتفقد أحوال الناس، الذين اجتمعوا حولها طلبا للرزق، لشـدة ما أصابهم من القحط والجوع، فكانوا يشرفون على تقسيم الطعام والإدام على الناس، وإذا أمسـوا اجتمعوا عند الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيخبرونه بكل ما كانوا فيه وهو يوجههم [34] .

            وكان عمر رضي الله عنه يطعم الأعراب من (دار الدقيق)، وهي من المؤسسات الاقتصادية، التي كانت أيام عمر رضي الله عنه توزع على الوافدين على المدينة من كل غذاء أساس من مخزون الدار، قبل أن يأتي المدد من مصر والشام والعراق، وقد توسعت دار الدقيق، لتصبح قادرة على إطعام عشرات الألوف من الذين وفدوا على المدينة مدة (9) أشهر قبل أن يحيا الناس بالمطر.

            وهذا يدل على عقلية عمر رضي الله عنه في تطوير مؤسسات الدولة، سواء أكانت مالية أو غيرها، وكان رضي الله عنه يعمل بنفسه في تلك المعسكرات [35] .

            كما يلاحظ على سياسته الاهتمام بأهل القرى، قبل أهالي المدن والعواصم، فكانوا يطعمون البعيدين قبل الأقربين، وتلك علامة الحكم الصالح حيث يطمئن الأبعدون إلى أن حقهم واصل إليهم قبل المتمركزين في المدينة [36] . [ ص: 190 ]

            مما سبق، يتضح دور القائد في المتابعة لأعمال التنفيذ، من خلال عقد اجتماعات بالعمال، والمعاونين، الذين كانوا يقدمون له خلالها ما يشبه التقارير حول ما تم إنجازه، وتقييم ما حدث ومن ثم تتسم عملية التنفيذ بدرجة أعلى من الفعالية.

            كما يتبين أن الخليفة عمر رضي الله عنه اهتم بالأطراف والمناطق على الحدود قبل المراكز في قلب الدولة، ورجح أولويات الأمن القومي، فالأطراف قبل المركز باعتبارها أكثر عرضة لعدم الاستقرار، وهكذا تستطيع القيادة أن تحتفظ بالوحدة الإقليمية للبلد، وحمايته من التفكك والانفصال، في الوقت الذي نجد الدول الإفريقية تعرضت لحركات انفصال وانقسمت إلى دويلات ضعيفة بعد حروب أهلية، نتيجة سوء الأوضاع الداخلية (قيادات فاشلة).

            - عاشرا: تعليق بعض الحدود وإيقاف سياسة الفتوحات الخارجية:

            وفي إطـار حـفظ النفس، خـلال الأزمـة، كانـت من سـياسـة الخليفة عمر رضي الله عنه تشديد الأوامر على الجنود الفاتحين بأن لا يقاتلوا عدوهم إلا إذا تم إكراههم على ذلك للدفاع عن أنفسهم.

            أرسل إلى أمراء الجيوش الإسلامية يطلب منهم إيقاف الجزاءات وإقامة الحدود على المخالفين إلى حين استقرار الأوضاع الاقتصادية وعودتها إلى سابق عهدها [37] .. ( تعطيل حد قطع يد السارق). [ ص: 191 ]

            إن إدراك سيدنا عمر رضي الله عنه لضرورة مراعاة الشريعة السمحة لحال الزمان والمكان والعادات، والتمييز بين السياسات المتبعة في الأوقات العادية عن تلك المتبعة في الأزمات، كان وراء ما اتخذه من سياسات وإجراءات واجتهادات فقهية لحال الأزمة دون غيرها.

            لقد اجتهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأوقف حد السرقة بقطع يد السارق، مما يدل على المرونة في التعامل مع النصوص والأحكام الإلهية، من خلال إعمال العقل والاجتهاد في النصوص والأحكام، ففي رواية للسرخسي عن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا قطع في مجاعة مضطر ) [38] .

            وفي هذا السياق، لقد أصاب ابن القيم، رحمه الله، الحقيقة حين قال: "كانت النازلة إذا نزلت بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس عنده فيها نص عن الله ولا عن رسوله جمع لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جعلها شورى بينهم" [39] .

            لقد ارتبط أنموذج إدارة الأزمة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بما قام به من الاجتهاد بإيقاف إقامـة الحدود والعـقـوبات الخـاصـة بالسرقـة لحين زوال الأزمة [40] . [ ص: 192 ]

            فقد قال عمر رضي الله عنه : "لا قطع في عام سنة" [41] ، فتعليق إقامة الحد في عام المجاعة، هو أحد التدابير القانونية المهمة، التي اتخذها الفاروق رضي الله عنه ضمن سياسات عدة (تعليقا وليس تعطيلا لهذا الحد، كما يكتب البعض)، وكان هذا إعمالا لحقيقة هذا الحد والحكمة منه. وكان ذلك أبرز الدروس المستفادة من هذا الأنموذج [42] .

            فالذي يأكل ما يكون ملكا لغيره بسبب شدة الجوع، وعجزه عن الحصول على الطعام، يكون غير مختار، فلا يقصد السرقة، ولهذا لم يقطع الخليفة عمر رضي الله عنه يد الرقيق، الذين أخذوا ناقة وذبحوها، وأمر سيدهم حاطب بدفع ثمن الناقة. وقد قال عمر رضي الله عنه : "لا تقطع اليد في عذق ولا عام سنة" (عام المجاعة).

            وقد تأثرت المذاهب الفقهية بفقه عمر رضي الله عنه فقد جاء في المغني: قال أحمد: لا قطع في المجاعة، يعني: أن المحتاج إذا سرق ما يأكله، فلا قطع عليه؛ لأنه كالمضطر، وهذا فهم عميق لمقاصد الشريعة.

            لقد نظر عمر رضي الله عنه إلى جوهر الموضوع ولم يكتف بالظواهر، ونظر إلى السبب الدافع إلى السرقة فوجد أنه في الحالتين الجوع، ويعتبر من الضرورات، التي تبيح المحظورات، كما يدل على ذلك قول عمر رضي الله عنه في قصة غلمان [ ص: 193 ] حاطب: "...أنكم تستعملونهم وتجيعونهم، حتى لو أن أحدهم وجد ما حرم الله عليه فأكله حل له..." [43] ، وتحقق من ذلك كذلك مقصد حفظ النفس، في تعطيل حد السرقة والجزاءات خلال الأزمة.

            وعلى نفس المنوال، جاء قرار عمر رضي الله عنه تأخير دفع الزكاة في عام الرمادة، حيث أوقف رضي الله عنه إلزام الناس بالزكاة، ولما انتهت المجاعة وخصبت الأرض جمع الزكاة عن عام الرمادة أي اعتبرها دينا على القادرين، حتى يسد العجز لدى الأفراد المحتاجين، وليبقي في بيت المال رصيدا بعد أن أنفقه كله.

            عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخر الصدقة عام الرمادة فلم يبعث السعاة، فلما كان قابل ورفع الله ذلك الجدب أمرهم أن يخرجوا، فأخذوا عقالين، أمرهم أن يقسموا عقالا ويقدموا عليه بعقال، أي: صـدقة سـنة. لكن الخليفة رضي الله عنه كما يذكر الطـبـري في تاريخه، لم يعطل حد شرب الخمر، حفاظا على العقل [44] .

            مما سبق، يتبين أن الفاروق عمر رضي الله عنه عرف العلاقة بين النص ودلالته، فلم يقف عند حرفية النص، بل تعداه لدلالته، التي هي مقاصد الشريعة. فقدم بذلك منهجا في التعامل مع النص والاجتهاد في دلالته. [ ص: 194 ]

            لقد أثبت عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأتباع المنهج العلمي، أنه لا تعارض بين العقل والتفكير العلمي، وبين الدين وأحكامه ونصوصه.

            وهذا درس لمن يفتعلون أزمة غير حقيقية حول ما يدعون من التناقض بين الشريعة والالتزام بقواعدها وأحكامها من ناحية، والحياة المعاصرة بتعقيداتها ومشاكلها ومستجداتها الحديثة من ناحية أخرى.

            وهذا الأنموذج، الذي قدمه سيدنا عمر رضي الله عنه يثبت إمكانية التوفيق، ويضع أسسا وضوابط واضحة تحل الإشكالية، فلا نضع الناس في حيرة من أمرهم، إما الحياة في عصر العلم والقوة، وإما التمسك بالدين.

            ولقد جاءت قرارات الفاروق رضي الله عنه بعد انتهاء الأزمة، بتوجيه للناس لمراعاة المستقبل في حفظ المؤونة والكساء، دلالة على تطبيق معنى الاستدامة، ورؤية استشرافية للمستقبل.. يضاف إلى ذلك حفر "مضيق أمير المؤمنين" لتسهيل وصول المؤن مستقبلا.

            وهكذا تم تحويل الأزمة إلى حالة ممارسة تدبيرية من منظور الأمن الإنساني، جعلت الأمن هدفا ومقصدا متطلب البلوغ، وفق عمليات تتعلق بالإدارة والحكم الراشد، تصل الفرد بالفرد، والفرد بالجماعة، والجماعة بالجماعة، والفرد بالمجتمع، والفرد بالدولة والحكم، والجماعة بالله سبحانه وتعالى، ضمن منظومة من الأفعال والإجراءات، لتحرك عطاءات التدبير من خلال السنن. [ ص: 195 ]

            هذه المنظومة، التي تربط بين الإطعام من جوع والأمن من خوف، تحوطها معاني الإيمان الموصول والتخطيط المقبول، والتفكير السنني المعقول [45] .

            فمن الأهمية أن نؤكد على معاني التعامل الفعال مع الأزمات في إطار خطة تنظم بين عناصرها الكلية [46] ، فقد حقق سيدنا عمر رضي الله عنه بهذه السياسات جملة من القدرات لتحقيق عناصر الأمن الإنساني، في كل مستوياته وشموله وفاعلياته، من ذلك:

            - القدرة على تحقيق التكامل بين الأنشطة المختلفة، التي تستوجبها طبيعة الأزمة.

            - القدرة على خلق مناخ عام يقوم على التفاهم والمشاركة وتحقيق عناصر الالتزام بين كافة مستويات النظم والمؤسسات والمنظومات.

            - القدرة على تنمية القدرات التبادلية والتكاملية مع الوسط المحيط.

            - القدرة على بناء وتنمية شبكة اتصالية وتواصلية فعالة تكفل توافر كل عناصر المعلومات والمعارف حول الأزمة وطرائق مواجهتها.

            - القدرة على التنبؤ بالمستقبل واعتبار المآل، تحقيقا للإدراك الكامل لطبيعة الأزمة وخطورتها. [ ص: 196 ]

            إذا كانت هذه محاولة لإدارة الأزمة، فإنها مرحلة لعبورها، إلى مرحلة انحسـارها، التي تتلاشـى فيها العـوامل المسـبـبة لها، ومن ثم السـعي الحثـيث إلى العودة للتوازن الطبيعي والأمن الفاعل والاستقرار الحقيقي [47] .

            هذه الرؤية العميقة لإدارة الأزمة، أصبحت مدخلا من مداخل تحقيق الأمن الإنساني، في إطار إخضاع التعامل مع الأزمة بمنهجيه علمية موصولة بالإيمان، ذلك أن بين الأمن والإيمان صلة، ولكنها في ذات الوقت ترفض العشـوائية والارتجالية في التعامل ضمن عمليات تحقيق تعنى بالتحديد المسـبق لما يجب عمله والكيفية، التي يتم بها هذا العمل، والوقت المحدد لها، ومن المعني للقيام بها [48] ؟

            ويترافق مع التخطيط، أسلوب تنظيمي يوفر نوعا من التناسق والتنسيق، والتوافق والتكامل، بين الجهود المختلفة (الجهد الجماعي).

            وتتوج هذه المنظومة بعناصر توجيه، تتعلق باستخدام قدرات السلطة وإمكاناتها ضمن فن المواجهة الجريئة، والسريعة والصحيحة لأحداث الأزمة، في إطار يؤصل معاني الكفاءة والإخلاص والاختصاص، وتتحرك كل هذه المسائل تخطيطا وتنظيما وتوجيها، في إطار متابعة فعالة لإجراءات مواجهة الأزمة والقيام على حلها، ضمن الإجراءات الضرورية. [ ص: 197 ]

            تلك السياسات العمرية تتمتع بأقصى درجات الفاعلية في تحقيق الأمن الإنساني، إذ كانت هذه الأوامر والسياسات التي تتعلق بإدارة الأزمة، معقولة وقابلة للتنفيذ، واضحة لا غموض فيها، كاملة متكاملة، كما ونوعا، من حيث المكان والزمان، وتوج كل ذلك أمورا قانونية اتخذت طابع الإلزام، معتمدة من السلطة أو الجهة المخولة أو المختصة [49] .

            وظلت سـياسات عمر رضي الله عنه تسـتند إلى أنه "لا أزمة بلا مسـببات"، و"لا أزمة بدون إدارة"، و"لا إدارة بدون إرادة"، ولا إدارة وإرادة بدون ظروف وشروط معينة، في إطار الوعي بسنن الأزمة، وسنن المواجهة لها، والقيام بالتعامل معها من منظور الأمن الإنساني الكلي والشامل.

            أنموذج الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إدارة أزمة عام الرمادة طرح نمطا من التعامل يستلهم معاني الحكم الراشد، وقيمة العدل

            [50] ، التي تشكل عماد النظام، فصار العدل أساس الجميع، ذلك أن أحق الناس بدوام الملك والسلطان، وباتصال الولاية، أقسطهم بالعدل في الرعية.

            ومما سبق تقديمه من أنموذج قيادة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لإدارة أزمة (عام الرمادة) يمكن التأكيد أن أهم ملامح القرارات، التي اتخذها الخليفة [ ص: 198 ] الراشـد عمـر بن الخـطـاب رضي الله عنه ، جـاءت حسـب مفهوم الحكم الراشد، الذي تجاوز في عناصر رشـده ينادى به اليوم تحت عنوان: "معايير الحوكمة"، أو الحكم الجيد، حسب البنك الدولي.

            فقد تجاوز الفاروق رضي الله عنه المفهوم الغربي، وصياغات البنك الدولي، متبعا سياسة شفافية في تعامله مع رعيته، وكان حريصا على تطبيق حكم القانون، متى استدعى ذلك، ولم يغفل المساءلة والمحاسبة، والاستجابة، إضافة إلى العدل، الذي هو أساس الحكم الراشد وأساس حكم عمر.

            وعلى الرغم مما يعتقد من أن مفهوم "الحكم الراشد" مفهوم حديث، إلا أن الخليفة عمر رضي الله عنه سبق التقارير الأخيرة الصادرة عن الأمم المتحدة منذ (14) قرنا، بما اتسمت به قيادته من سياسات وإجراءات خلال الأزمة وبعدها، تراعي حقوق الرعية في دولة الخلافة، بما يؤكد أبعاد القيادة الراشدة بكفاءة تفوق طروحات البنك الدولي.

            فحكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومفهوم الحكم الراشد لقيادته، انطلق من أساس العقيدة الإسلامية، مرتبطا بالأجر والثواب من عند الله، وابتغاء الحسنة في الدنيا والحسنة في الآخرة، وليس انطلاقا من مبادئ نفعية تخدم مصالح دول قوية، على حساب دول أخرى ضعيفة، متخذة مبادئ الحكم الراشد، كمداخل للتحكم في سياسات الدول وفرض السيطرة، وهي في حقيقتها تدخلات نفعية، تحقق مصالح أفراد وحكومات وقيادات، تجعل منافعها الذاتية في مقدمة خططها وتحركها دون أن تعود بالنفع على سكان البلد. [ ص: 199 ]

            إن ما جاء به أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه انطلاقا من المنهج الإسلامي، ضمن قرارات وإجراءات، يدل دلالة واضحة على الرشد، والعبقرية، والقدرة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، مما يؤكد أن إدارة الأزمة متى انطلقت من منهج متوازن قائم على مراعاة المنافع الدنيوية والأخروية، ومراعاة مصالح الرعية، من منطلق الحكم الراشد، سادت العدالة.

            اليوم، وفي القرن الواحد والعشرين، لازالت الدول الفقيرة لا تملك المخزون الاستراتيجي الكافي من الغذاء، الذي يجنبها شر الكوارث الطبيعية والتقلبات المناخية والضغوط السياسية، وهو ما يفتح الباب أمام بعض القوى الكبرى لاستخدام الغذاء كسلاح لتحقيق بعض أطماعها في فرض السيطرة والهيمنة على العالم [51] .

            فمن لا يملك غذاءه لا يملك قراره، ومن لا يملك قراره لا يملك مصيره، ويجد نفسه، شاء أم أبى، ضحية لعبة الأمم، ومن المفارقة أن يحدث ذلك بسـبب قلة التنسـيق والتـعـاون بين هذه البـلدان، وليس نتيجـة افتقارها للموارد! [ ص: 200 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية