الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فروع

                                                                                                                                                                        تتعلق بالمسألة

                                                                                                                                                                        إحداها : الهبة في مرض الموت للوارث ، والوقف عليه وإبراءه من دين كالوصية له ، ففيها الخلاف .

                                                                                                                                                                        الثاني : لا اعتبار برد الورثة وإجازتهم في حياة الموصي . فلو أجازوا في حياته ، أو أذنوا له في الوصية ، ثم أرادوا الرد بعد موته ، فلهم ذلك . فإن أجازوا بعد الموت وقبل القسمة ، فالصحيح لزومها . وقيل : كالإجازة قبل الموت ، حكاه أبو منصور .

                                                                                                                                                                        الثالث : ينبغي أن يعرف الوارث قدر الزائد على الثلث ، وقدر التركة ، فإن جهل أحدهما ، لم يصح إن قلنا : الإجازة ابتداء عطية . وإن قلنا : تنفيذ ، فكالإبراء عن مجهول ، وهو باطل على الأظهر .

                                                                                                                                                                        الرابع : أجاز ثم قال : كنت أعتقد التركة قليلة ، فبانت أكثر مما ظننت ، قال الشافعي - رضي الله عنه - في " الأم " : يحلف وتنفذ الوصية في القدر الذي كان يتحققه . قال الأصحاب : إنما يحتاج إلى اليمين إذا حصل المال في يد الموصى له . [ ص: 111 ] فإن لم يحصل ، فلا حاجة إلى اليمين إن جعلناها ابتداء عطية ، فإن الهبة قبل القبض لا تلزم . وقال المتولي : التنفيذ في القدر المظنون مبني على أن الإجازة تنفيذ ، فتنزل منزلة الإبراء . أما إذا قلنا : ابتداء عطية ، فإذا حلف بطل في الجميع . واللفظ المحكي عن النص ينازعه فيما ادعاه . ولو أقام الموصى له بينة أنه كان عالما قدر التركة عند الإجازة لزمت إن جعلناها تنفيذا ، وإن قلنا : عطية ، فلا إذا لم يوجد القبض . ولو كانت الوصية بعبد معين ، فأجاز ، ثم قال : ظننت التركة كثيرة وأن العبد خارج من ثلثها وقد بان خلافه ، أو ظهر دين لم أعلمه ، أو بان لي أنه تلف بعضها ، فإن قلنا : الإجازة عطية ، صحت ; لأن العبد معلوم ، والجهالة في غيره . وإن قلنا : تنفيذ ، فقولان : أحدهما : الصحة للعلم بالعبد . والثاني : يحلف ولا يلزم إلا الثلث كما في الوصية بالمشاع ، وبهذا قطع المتولي .

                                                                                                                                                                        الخامس : الاعتبار في كونه وارثا بيوم الموت حتى لو أوصى لأخيه ولابن له ، فولد له ابن قبل موته صحت . ولو أوصى لأخيه وله ابن ، فمات الابن قبل الموصي ، فهي وصية لوارث ، وهذا متفق عليه . وذكرنا في الإقرار للوارث خلافا في أن الاعتبار بيوم الإقرار ، أم الموت ؟ والفرق أن استقرار الوصية بالموت ، ولا ثبات لها قبله .

                                                                                                                                                                        السادس : إذا أوصى لكل واحد من ورثته بقدر حصته من تركته ، فوصيته باطلة ؛ لأنه يستحقه بلا وصية . ويجئ فيه أوجه : أنه يصح ; لأن صاحب " التتمة " حكى وجهين فيما إذا لم يكن له إلا وارث واحد فأوصى له بماله ، الصحيح منهما : أن الوصية باطلة ، ويأخذ التركة بالإرث . والثاني : تصح ، فيأخذها بالوصية إذا لم ينقضها ، قال : وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا ظهر دين . إن قلنا : إنه أخذ التركة إرثا ، فله إمساكها وقضاء الدين من غيرها . وإن قلنا بالوصية ، قضاه منها ولصاحب الدين الامتناع لو قضى من غيرها .

                                                                                                                                                                        [ ص: 112 ] قلت : ومن فوائده لو حدثت من عين التركة زوائد . إن قلنا : وصية ، لم يملكها . وإن قلنا : إرث ملكها على الصحيح . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ولو أوصى لكل وارث بعين هي قدر حصته ، من ثوب ، وعبد ، وغيرهما ، فهل تحتاج هذه الوصية إلى الإجازة ، أم لا بل يختص كل واحد بما عينه له ؟ وجهان : أصحهما : تحتاج ، لاختلاف الأغراض في الأعيان ومنافعها . ولهذا أوصى أن تباع عين ماله لزيد ، صحت الوصية على الصحيح . وفيه وجه حكاه المتولي والشاشي .

                                                                                                                                                                        السابع : لو باع المريض ماله لوارثه بثمن المثل ، نفذ قطعا .

                                                                                                                                                                        الثامن : أوصى بثلث ماله لأجنبي ووارث . إن صححنا الوصية للوارث ، وأجازت الورثة ، فالثلث بينهما . وإن أبطلناها ، أو ردها سائر الورثة ، بقي السدس للأجنبي على الصحيح . وقيل : تبطل فيه أيضا أخذا من تفريق الصفقة . وإن أوصى لهذا بالثلث ، ولهذا بالثلث ، فإن صححنا الوصية للوارث ، وأجاز سائر الورثة ، فلكل واحد منهما الثلث . وإن أبطلناها ، أو ردوا فلا شيء للوارث . ثم ينظر في كيفية الرد ، إن ردوا وصية الوارث ، سلم الثلث للأجنبي على الصحيح . وقيل : لا يسلم له إلا السدس . وإن قالوا : رددنا ما زاد على الثلث من الوصيتين ، فالأصح : أن للأجنبي الثلث . وقيل : السدس .

                                                                                                                                                                        التاسع : أوصى لأحد ورثته بقدر نصيبه من التركة ، أو بما دونه ، وأجاز الباقون ، سلم له الموصى به ، والباقي مشترك بينهم . قال الإمام : وذلك القدر ، خرج عن كونه موروثا باتفاق الورثة ، ولو أوصى لبعض الورثة بأكثر من قدر نصيبه ، فوجهان : أصحهما : أن الحكم كذلك . والثاني : أن الباقي لمن لم يوص له ، [ ص: 113 ] لاحتمال أن غرضه من الوصية تخصيصه بتلك الزيادة . ويتخرج على هذا الخلاف ما إذا أوصى لأجنبي بنصف ماله ، ولأحد ابنيه الحائزين بالنصف ، وأجازا الوصيتين ، فللأجنبي النصف . وفيما يستحقه الابن الموصى له وجهان : أصحهما : النصف . والثاني : الربع والسدس ، ويبقى نصف سدس الذي لم يوص له . ولو أجاز الابن الذي لم يوص له الوصيتين ، ولم يجز الموصى له وصية الأجنبي ، فالمسألة تصح من اثني عشر للأجنبي الثلث أربعة بلا إجازة ، ويأخذ سهما آخر من نصيب الذي أجاز ، فيجتمع له خمسة ، وللابن الموصى له سبعة ، منها ستة بالوصية وسهم ؛ لأنه لم يجز وصية الأجنبي ، كذا حكاه الأستاذ أبو منصور عن ابن سريج ، وهو قياس الوجه الأول ، وقياس الثاني : أن يأخذ الابن الموصى له ستة أسهم ، ويبقى للابن الآخر سهم . ولو لم يجز الابن الذي لم يوص له وصية الأجنبي ، فللأجنبي خمسة . ثم على قياس الوجه الأول ، للابن الموصى له ستة أسهم ، وللآخر سهم ، وعلى قياس الثاني له خمسة ، وللآخر سهمان .

                                                                                                                                                                        العاشر : أوصى لزيد بثلث ماله ، ولأحد ابنيه الحائزين بالكل ، وأجازا الوصيتين ، فلزيد الثلث والثلثان للابن الموصى له . وليس له زحمة زيد في الثلث ; لأن الوصية للأجنبي مستغنية عن الإجازة ، وفيه احتمال للمتأخرين . وإن ردا ، فثلث زيد بحاله ، ولا شيء للابن بالوصية . ولو أوصى لزيد بالثلث ، ولكل واحد من ابنيه بالثلث فردا ، لم يؤثر ردهما في حق زيد على الصحيح . وقيل : ليس له إلا ثلث الثلث بالشيوع .

                                                                                                                                                                        الحادي عشر : وقف دارا في مرض موته على ابنه الحائز . فإن أبطلنا الوصية للوارث فهو باطل . وإن صححناها بالإجازة ، فقال ابن الحداد : إن احتملها [ ص: 114 ] ثلث ماله لم يكن للوارث إبطال الوقف في شيء منها ; لأن تصرف المريض في ثلث ماله نافذ ، فإذا تمكن من قطع حق الوارث عن الثلث بالكلية ، فتمكنه من وقفه عليه أولى ، وإن زادت على الثلث ، لم يبطل الوقف في قدر الثلث . وأما الزيادة ، فليس للمريض تفويتها على الوارث ، فللوارث ردها وإبطالها . فإن أجاز ، فإجازته وقف منه على نفسه إن جعلنا إجازة الوارث عطية منه ، وإن جعلناها تنفيذا لزم الوقف . وقال القفال : له رد الكل في الوقف ؛ لأن الوصية بالثلث في حق الوارث كهي بالزيادة في حق غير الوارث . والصحيح المعروف قول ابن الحداد ، وعليه تتفرع الصور الآتية - إن شاء الله تعالى - . ثم ذكر الإمام أن صورة المسألة فيما إذا نجز الوقف في مرضه ، وكان الابن طفلا فقبله له ثم مات فأراد الابن الرد أو الإجازة ، لكن لا حاجة إلى هذا التصوير ؛ لأنه وإن كان بالغا فقبله بنفسه ، لم يمتنع عليه الرد بعد الموت ، إذ الإجازة المعتبرة هي الواقعة بعد الموت . ولو كان له ابن ، وبنت ، فوقف ثلث الدار على الابن ، والثلث على البنت ، فلا رد لهما إن خرجت الدار من الثلث . وإن زادت على الثلث ، فلهما رد الوقف في الزيادة . وإن وقفها عليهما نصفين ، والثلث يحتملها ، فإن رضي الابن فهي كما وقف ، وإلا ، فظاهر كلام ابن الحداد : أن له رد الوقف في ربع الدار ؛ لأنه لما وقف عليه النصف كان من حقه أن يقف على البنت الربع ، فإذا زاد ، كان للابن رده ، ثم لا يصير شيء منه وقفا عليه ; لأن الأب لم يقف عليه إلا النصف ، بل يكون الربع المردود بينهما أثلاثا ملكا ، وتكون القسمة من اثني عشر ، لحاجتنا إلى عدد لربعه ثلث ، فتسعة منها وقف عليهما ، وثلاثة ملك ، وكلاهما بالأثلاث . وقال الشيخ أبو علي : عندي أنه ليس للابن إبطال الوقف إلا في سدس الدار ، [ ص: 115 ] لأنه إنما تعتبر إجازته في حقه ، وحقه منحصر في ثلث الدار ، وقد وقف عليه النصف ، فليس له إلا تمام الثلثين ، لكن تتخير البنت في نصف السدس ، إن شاءت أجازت ، فيكون وقفا . وإن شاءت ردت ، فيكون ملكا .

                                                                                                                                                                        قلت : قول أبي علي هو الأصح ، أو الصحيح ، أو الصواب . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ولو وقف الدار على ابنه وزوجته نصفين ولا وارث سواهما ، قال ابن الحداد : قد نقص المريض من حق الابن ثلاثة أثمان الدار ، وهي ثلاثة أسباع حقه ، فله رد الوقف في حقها وهو الثمن إلى أربعة أسباعه ، ليكون الوقف عليها من نصيبها كالوقف عليه من نصيبه ، ويكون الباقي بينهما أثمانا ملكا ، فتكون القسمة من ستة وخمسين ، لحاجتنا إلى عدد لثمنه سبع ، فتكون أربعة أسباع الدار كلها - وهي اثنان وثلاثون - وقفا ، ثمانية وعشرون منها وقف على الابن ، وأربعة على الزوجة ، والباقي - وهو أربعة وعشرون - ملكا ، منها أحد وعشرون للابن ، وثلاثة لها . قال الشيخ أبو علي : ليس له رد الوقف إلا في تتمة حقه وهو ثلاثة أثمان الدار ، وأما الثمن ، فالخيار فيه للزوجة . ولو وقف ثلث الدار على أبيه ، وثلثها على أمه ، ولا وارث سواهما ، فالجواب على قياس ابن الحداد : أنه نقص من نصيب الأب ثلث الدار ؛ لأنه يستحق ثلثيها ، ولم يقف عليه إلا الثلث ، وذلك نصف نصيبه ، فله رد الوقف في نصف نصيبها وهو سدس الدار ، والباقي بينهما أثلاثا ملكا . وتقع القسمة من ستة ، لحاجتنا إلى عدد لثلثه نصف ، فيكون نصف الدار وقفا ، ونصفها ملكا أثلاثا . وعلى قياس الشيخ : لا يرد الوقف إلا في تتمة حقه ، وهو الثلث ، ولها الخيار في السدس . ولفظ ابن الحداد في المولدات يمكن تنزيله على ما قاله الشيخ ، فيرتفع الخلاف ، لكنه يحوج إلى ضرب تعسف .

                                                                                                                                                                        [ ص: 116 ] فصل

                                                                                                                                                                        والوصية للميت باطلة سواء علم الموصي بموته ، أم لا .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية