الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء

( ( لأنه سبحانه لم يحجب إلا عن الكافر والمكذب ) )



[ ص: 245 ] ( ( لأنه ) ) أي : الرب ( ( سبحانه ) ) وتعالى ( ( لم يحجب ) ) بضم التحتية وسكون الحاء المهملة وفتح الجيم مبنيا لما لم يسم فاعله ، أي : لم يمتنع سبحانه من أن يمكن عباده من رؤيته في دار القرار ( ( إلا عن الكافر ) ) بالله تعالى ، وبكل مكفر اتصف به ، فكل من حكم الشرع بكفره فهو محجوب عن رؤية ربه ، قال علي بن المديني : سألت عبد الله بن المبارك عن رؤية الله تعالى فقال : ما حجب الله - عز وجل - أحدا عنه إلا عذبه ، ثم قرأ ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون ) قال بالرؤية ، وقلت له : يا أبا عبد الله إن عندنا قوما من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث : إن الله ينزل إلى سماء الدنيا ، وأهل الجنة يرون ربهم ، فحدثني بنحو عشرة أحاديث في هذا ، وقال : أما نحن فقد أخذنا ديننا هذا عن التابعين ، والتابعون أخذوه عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، فهم عن من أخذوه ؟ . وقال قبيصة بن عقبة : أتينا أبا نعيم يوما فنزل إلينا من الدرجة التي في داره فجلس وسطها كأنه مغضب ، وقال : حدثنا سفيان بن سعيد ومنذر الثوري وزهير بن معاوية ، وحدثنا حسن بن صالح ، وحدثنا شريك بن عبد الله النخعي ، وهؤلاء أبناء المهاجرين يحدثوننا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله تبارك وتعالى يرى في الآخرة حتى أن يهوديا صباغا يزعم أن الله لا يرى - يعني بشرا المريسي . وقال عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون : لم يزل يملي لهم - يعني المبتدعة من الجهمية أو أضرابهم - الشيطان حتى جحدوا قوله تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) فقالوا : لا يراه أحد يوم القيامة ، فجحدوا والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه الكريم ونضرته إياهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، فورب السماء والأرض ليجعلن رؤيته يوم القيامة للمخلصين له ثوابا لينضر بها وجوههم دون المجرمين ، ويفلج بها حجتهم على الجاحدين ، وهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون لا يرونه كما زعموا أنه لا يرى ، ولا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم .

ولذا قلنا ( ( و ) ) يحجب أيضا عن ( ( المكذب ) ) برؤيته ، وتكليمه لعباده المتقين ، وكما أشار إليه الإمام عبد الله بن المبارك في قوله تعالى [ ص: 246 ] ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون ) قال بالرؤية كما ذكره ابن أبي الدنيا . وقال سيدنا الإمام أحمد - رضي الله عنه : من لم يقل بالرؤية فهو جهمي .

وقال وقد بلغه عن رجل أن الله لا يرى في الآخرة فغضب غضبا شديدا وقال : من قال إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر - أو فقد كفر - عليه لعنة الله وغضبه كائنا من كان من الناس ، أليس يقول الله - عز وجل - ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) وقال ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) وقال أبو داود : سمعت الإمام أحمد يقول : من قال إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر .

وقال أبو بكر المروذي : قيل لأبى عبد الله - رضي الله عنه - عن يزيد بن هارون ، عن أبي العطوف ، عن أبي الزبير ، عن جابر - رضي الله عنه : إن استقر الجبل فسوف تراني ، وإن لم يستقر فلا تراني في الدنيا ولا في الآخرة ؟ فغضب أبو عبد الله غضبا شديدا حتى تبين في وجهه ، وكان قاعدا والناس حوله ، فأخذ نعله وانتعل وقال : أخزى الله هذا ، لا ينبغي أن يكتب عن هذا ، ودفع عن يزيد بن هارون ( أن يكون ) رواه أو حدث به ، وقال : هذا جهمي كافر مخالف لما قال الله - عز وجل - ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) وقال ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) يخزي الله هذا المحدث .

وقال الإمام أحمد أيضا : من كذب بالرؤية فهو زنديق ، قال - رضي الله عنه : نؤمن بها أي الرؤية وأحاديثها ونعلم أنها حق فنؤمن بأن الله يرى ، نرى ربنا يوم القيامة لا نشك فيه ولا نرتاب .

وقال : من زعم أن الله لا يرى في الآخرة فقد كفر بالله وكذب بالقرآن ورد على الله أمره ، فيستتاب فإن تاب ، وإلا قتل ، وقال في رواية حنبل وسأله عن أحاديث الرؤية ، فقال : هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ، ونقر بها ، وكل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد جيد أقررنا به .

وقال أبو عبد الله : إذا لم نقر بما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودفعناه رددنا على الله أمره ، قال الله تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )

التالي السابق


الخدمات العلمية