الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( الثانية ) : ذهب جماعة من العلماء منهم الحافظ عماد الدين بن كثير إلى أن النساء لا يرين الله تبارك وتعالى في الآخرة ، وذهب جماعة أيضا منهم العز بن عبد السلام ، وتبعه صاحب آكام المرجان وابن جماعة إلى أن الملائكة لا يرون الله أيضا تبارك وتعالى في الجنة ، وهذا خلاف التحقيق ، فإن النص الصريح والخبر الصحيح يرد هذا ويبعده ويبطله ويدحضه ويطرده ، فعند الدارقطني مرفوعا " إذا كان يوم القيامة [ ص: 248 ] رأى المؤمنون ربهم - عز وجل - فأحدثهم عهدا بالنظر إليه في كل جمعة ، قال : ويراه المؤمنات يوم الفطر ويوم الأضحى " أي : في مثل يوم الفطر ويوم الأضحى ، وعموم الأحاديث شاملة للنساء من غير توقف .

وأخرج الآجري عن عكرمة قال : قيل لابن عباس - رضي الله عنهما - كل من يدخل الجنة يرى الله تعالى ؟ قال : نعم .

وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية ( رب أرني أنظر إليك ) ، قال : يا موسى إنه لن يراني أحد إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده ، ولا رطب إلا تفرق ، وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ، ولا تبلى أجسادهم " . وبظاهر حديث الدارقطني أخذ ابن كثير فاختار أن النساء يرين ربهم في الأعياد دون الجمع ، وبه جزم الحافظ السيوطي ، لكنه يحتاج إلى دليل خاص أقوى من حديث الدارقطني ، واستثنى الحافظ السيوطي زوجات الأنبياء عليهم السلام وبناته فيرينه تعالى في غير الأعياد ، كما أن أبا بكر وعمر يريانه تعالى أزيد من غيرهما من غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، قلت : ومريم ابنة عمران ، وامرأة فرعون ينبغي أن تكون من المستثنيات ، وكذا نحوهما كأم موسى وأخته ، والله أعلم .

وفي آخر البدور السافرة للحافظ السيوطي : وقع في كلام بعض الأئمة أن رؤية الله تعالى خاصة بمؤمني البشر ، وأن الملائكة لا يرونه ، واحتج له بقوله تعالى ( لا تدركه الأبصار ) فإنه عام خص منه بالآية والأحاديث في المؤمنين فيبقى على عمومه في الملائكة .

قال السيوطي : وقد نص البيهقي على خلافه فقال في كتاب الرؤية : ذكر ما جاء في رؤية الملائكة ربهم - فأخرج عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : خلق الله الملائكة لعبادته أصنافا ، وإن منهم لملائكة قياما صافين من يوم خلقهم إلى يوم القيامة ، وملائكة ركوعا خشوعا من يوم خلقهم إلى يوم القيامة ، فإذا كان يوم القيامة ، قالوا : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك . ثم أخرج من وجه آخر عن عدي بن أرطاة عن رجل من الصحابة - رضي الله عنهم - أن رسول الله صلى [ ص: 249 ] عليه وسلم قال " إن لله ملائكة ترعد فرائصهم من مخافة ما عندهم ، ملك ما تقطر دمعة من عينه إلا وقعت ملكا يسبح ، وملائكة سجودا منذ خلق الله السماوات والأرض لا يرفعون رءوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة ، فإذا كان يوم القيامة تجلى لهم ربهم فينظرون إليه قالوا : سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك " انتهى .

والحق الذي لا مرية فيه أنهم يرونه تعالى ، بل ومؤمنو الجن ، إما في الموقف فجزما مع سائر المؤمنين ، وإما في الجنة ، ففي بعض الأوقات على ما يظهر ، بل الظاهر أنهم يرونه إلا أنهم دون مؤمني الإنس في الرؤية في كل جمعة ، والحاصل أن رؤية الرب جل جلاله في الموقف حاصلة حتى لمنافقي هذه الأمة على الأصح ، وأما الرؤيا في الجنة فأجمع أهل السنة أنها حاصلة للأنبياء والرسل والصديقين من كل أمة ورجال المؤمنين من البشر من هذه الأمة ، واختلف في غيرهم ، وقد جزم الحافظ ابن رجب في اللطائف بأن كل يوم عيد للمسلمين في الدنيا فإنه عيد لهم في الجنة يجتمعون فيه على زيارة ربهم ، ويتجلى لهم فيه فينظرون إليه ، فما أعطاهم شيئا هو أحب إليهم من ذلك ، وهو الزيادة التي قال الله تعالى فيها ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ويوم الجمعة في الجنة يدعى يوم المزيد ، [ ص: 250 ] ويوم الفطر والأضحى يجتمع أهل الجنة فيها . قال الحافظ ابن رجب في اللطائف : روي أنه يشارك النساء الرجال فيهما كما كن يشهدن العيدين مع الرجال دون الجمعة ، قال : فهذا لعموم أهل الجنة ، فأما خواصهم فكل يوم لهم عيد يزورون فيه ربهم كل يوم مرتين بكرة وعشيا ، لأن الخواص كانت أيام الدنيا كلها لهم أعيادا ، فصارت أيامهم في الآخرة كلها أعيادا ، قال الحسن - رحمه الله تعالى : كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد ، فاليوم الذي يقطعه المؤمن في طاعة مولاه وذكره وشكره فهو له عيد . انتهى ملخصا .

وفي التذكرة للقرطبي : إن الناس يرون ربهم في الموقف ثم يحجبون إلى أن لا يبقى في النار ممن يدخل الجنة أحد ، فيؤذن لهم فيرونه في الجنة ، ثم لا يحجبون بعد ذلك أصلا ، ولا في حال تمتعاتهم ، وقد قيل : إن الكفار كالمنافقين يرونه تعالى ثم يحجبون عنه فتكون الحجبة حسرة عليهم ، وخص النووي الخلاف بالمنافق ، وأما الكافر غير المنافق فلا يراه تعالى اتفاقا ، كما لا يراه غير العقلاء من سائر الحيوانات ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية