الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء

( ( فإنه ينظر بالأبصار كما أتى في النص والأخبار ) )



( ( فإنه ) ) سبحانه ، وتعالى ( ( ينظر بالأبصار ) ) في دار المقامة والقرار ، باتفاق أئمة الدين الأبرار ، وسلف الأئمة الأخيار ( ( كما أتى ) ) أي جاء ( ( في النص ) ) القرآني ، والتنزيل الرحماني ، أصل النص أقصى الشيء وغايته ، وفي حديث كعب : يقول الجبار : احذروني فإني لا أناص عبدا إلا عذبته ، أي : لا أستقصي عليه في السؤال والحساب ، وروى الخطابي عن عون بن عبد الله مثله ، ومنه قول الفقهاء : نص القرآن ونص السنة ، أي : ما دل ظاهر لفظهما عليه من الأحكام ، وفي كلام عمرو بن دينار : ما رأيت رجلا أنص للحديث من الزهري ، أي : أرفع له وأسند ( ( و ) ) كما أتى في [ ص: 241 ] ( ( الأخبار ) ) النبوية ، والآثار السلفية ، وأجمع عليه أهل الحق وسلف الأمة وأهل الصدق وأعلام الأئمة ، ورؤية الله رب العالمين أعظم وأجل وأشرف ، وأنعم نعيم الجنة قدرا ، وأعلاه وأغلاه خطرا وأمرا ، وهي الغاية القصوى والنهاية العظمى التي شمر إليها السابقون ، وتنافس فيها المتنافسون ، واتفق الأنبياء والمرسلون ، والصحابة والتابعون ، وأئمة السلف والدين على ثبوتها في دار القرار ، من غير شك ولا إنكار ، وإنما أنكرها أهل البدع والضلال ، والتجهم والاعتزال ، قال الله تعالى في محكم الذكر : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) وقال ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، وقال في حق أهل الكفر والفجور ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) وقال تعالى ( ولدينا مزيد ) وأخرج مسلم والترمذي ، وابن ماجه عن صهيب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى : تريدون شيئا أزيدكم ؟ فيقولون : ألم تبيض وجوهنا ! ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار ! ، قال : فيكشف الحجاب ، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم " ثم تلى هذه الآية ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) يعني أنه يرفع الموانع عن الإدراك عن أبصارهم حتى يروه على ما هو عليه من نعوت العظمة والجلال ، فذكر الحجاب إنما هو في حق الخلق لا الخالق ، كذا قال القرطبي : في تذكرته .

وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي بصوت يسمعه أولهم وآخرهم يا أهل الجنة إن الله وعدكم الحسنى وزيادة ، الحسنى الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن " . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه أيضا ، واللالكائي في السنة عن كعب بن عجرة مرفوعا مثله . وأخرجوا أيضا ، وابن أبى حاتم مثله عنه مرفوعا ، وابن مردويه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعا : " الحسنة الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الله " ، وابن مردويه أيضا وأبو الشيخ واللالكائي عن أنس - رضي الله عنه - مرفوعا : " الحسنة والزيادة كالذي قبله سواء " ومن حديث أبي هريرة كذلك رواه أبو الشيخ ، وعن الصديق - رضي الله عنه - موقوفا مثله رواه ابن [ ص: 242 ] جرير وابن مردويه وابن المنذر وأبو الشيخ واللالكائي والآجري ، وابن مردويه ، وعن علي - رضي الله عنه - رواه ابن مردويه ، وعن حذيفة - رضي الله عنه - رواه ابن جرير وابن المنذر ، وأبو الشيخ واللالكائي والآجري ، وكذا عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، ومثله عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم ، ومثله عن سعيد بن المسيب والحسن البصري وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعامر بن سعد البجلي وأبي إسحاق السبيعي وعبد الرحمن بن سابط وعكرمة ومجاهد وقتادة وغيرهم من التابعين .

قال الإمام الحافظ البيهقي في كتابه الرؤية : هذا تفسير قد استفاض ، واشتهر فيما بين الصحابة والتابعين ، ومثله لا يقال إلا بتوقيف ، وفسروا قوله تعالى ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - حسنة إلى ربها ناظرة - قال : نظرت إلى الخالق . وقال عكرمة : ناضرة من النعم ، إلى ربها ناظرة - قال : تنظر إلى الله نظرا ، وقال الحسن : النضرة الحسن - إلى ربها ناظرة - نظرت إلى ربها فنضرت بنوره ، وقال محمد بن كعب الكرزي : نضر الله تلك الوجوه وحسنها للنظر إليها ، ومثله عن مجاهد ، وأخرج ابن أبي حاتم واللالكائي عن الحسن في قوله ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) قال : إذا كان يوم القيامة برز ربنا تبارك وتعالى فيراه الخلق ، ويحجب الكفار فلا يرونه ، وروى اللالكائي عن أشهب قال : سأل رجل مالكا هل يرى المؤمنون ربهم يوم القيامة ؟ فقال مالك : لو لم يرى المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعاقب الكفار بالحجاب ، فقال : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) قيل : فإن قوما يزعمون أن الله لا يرى ، فقال مالك : السيف السيف . وأخرج اللالكائي عن المزني قال : سمعت الشافعي يقول في قوله تعالى ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) : فيها دلالة على أن أولياء الله يرون ربهم يوم القيامة ، ونقل ذلك عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - من عدة وجوه .

وقال الطبراني : قال علي بن أبي طالب ، وأنس بن مالك - رضي الله عنهما - في قوله تعالى ( لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ) : هو النظر إلى رحمة الله - عز وجل . وقاله من التابعين زيد بن وهب وغيره كما في حادي الأرواح ، فهذه تفاسير هذه الآيات مسندة عن النبي صلى [ ص: 243 ] عليه وسلم وأصحابه والتابعين بلغت مبلغ التواتر عند أئمة الحديث . وأما الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الواردة في الرؤية فأخرج اللالكائي في السنة من طريق مفضل بن غسان قال : سمعت يحيى بن معين يقول : عندي سبعة عشر حديثا في الرؤية كلها صحاح .

وقد ورد ذلك من حديث الصديق وأنس وجابر وجرير البجلي وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت وصهيب وعبادة بن الصامت وابن عباس وابن عمر وابن مسعود ولقيط بن عامر وأبي رزين وعلي بن أبي طالب وعدي بن حاتم وعمار بن ياسر وفضالة بن عبيد وأبي سعيد الخدري وأبي موسى الأشعري وبريدة بن الحصيب الأسلمي - رضي الله عنهم - أجمعين ، ففي البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن ناسا قالوا : يا رسول الله نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ؟ " قالوا : لا يا رسول الله ، قال : " تضارون في رؤية الشمس ليس دونها حجاب ؟ " قالوا : لا ، قال : " فإنكم ترونه كذلك " الحديث .

وفي الصحيحين وغيرهما عن جرير البجلي قال : كنا جلوسا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى القمر ليلة أربعة عشر فقال : " إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا لا تضارون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل الغروب فافعلوا " ثم قرأ ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ) وقد عدد في حادي الأرواح رواة من روى رؤية الباري - عز وجل - فزادوا عن الحد . قال العلماء : كان التشبيه للرؤيا ، وهو فعل الرائي لا المرئي ، والمعنى : ترون ربكم رؤية ينزاح معها الشك ، وتنتفي معها الريبة كرؤيتكم القمر لا ترتابون ولا تمترون ، وفي لفظ : " لا تضامون " وروي بتخفيف الميم وضم أوله من الضيم ، أي : لا يلحقكم في رؤيته ضيم ولا مشقة ، وبتشديدها والفتحة على حذف إحدى التائين ، والأصل : لا تضامون ، أي : لا يضام بعضكم بعضا كما يفعل الناس في طلب الشيء الخفي الذي لا يسهل إدراكه فيتزاحمون عند ذلك ينظرون إلى جهة يضام بعضهم بعضا ، يريد : إنكم ترونه وكل واحد في مكانه .

وفي الصحيحين ، وغيرهما أيضا عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن ناسا [ ص: 244 ] في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " نعم ، فهل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب ؟ وهل تضارون في رؤية القمر في ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : " ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما " الحديث .

وأخرج الترمذي عن سعيد بن المسيب أنه لقي أبا هريرة فقال أبو هريرة : أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة ، قال سعيد : أفيها سوق ؟ قال : نعم ، أخبرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم . ثم يؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا ، فيزورون ربهم ويبرز لهم عرشه ، ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة فتوضع لهم منابر من نور ، ومنابر من لؤلؤ ، ومنابر من ياقوت ، ومنابر من زبرجد ، ومنابر من ذهب ، ومنابر من فضة ، ويجلس أدناهم - وما فيهم من دني - على كثبان المسك والكافور وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا " قلت : يا رسول الله ، وهل نرى ربنا ؟ قال : " نعم ، هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر ؟ قلنا : لا ، قال : " كذلك لا تمارون في رؤية ربكم ، ولا يبقى في ذلك المجلس رجل إلا حاضره الله محاضرة حتى يقول للرجال منهم : يا فلان بن فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا ؟ فيذكره ببعض غدراته في الدنيا ، فيقول : يا رب أفلم تغفر لي ؟ فيقول : بلى بسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه " الحديث .

والأحاديث في ذلك كثيرة جدا في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها ، وقد قيل لابن عباس - رضي الله عنهما - من دخل الجنة يرى الله - عز وجل ؟ قال : نعم . وقال معاذ بن جبل - رضي الله عنه : يحشر الناس يوم القيامة في صعيد واحد فينادى : أين المتقون ؟ فيقومون في كنف الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر ، فقيل له : من المتقون ؟ قال : قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة ، فيمرون من الجنة . ولهذه الجنة أشار بقوله :

التالي السابق


الخدمات العلمية