الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( التنبيه الثالث ) قد أشرنا فيما تقدم أن المعتزلة ذهبت إلى تفضيل الملائكة على البشر حتى على الرسل والأنبياء ، واختاره من الأشاعرة القاضي أبو بكر الباقلاني وأبو إسحاق الإسفرائني والحافظ أبو عبد الله الحاكم والحليمي والفخر الرازي في المعالم دون الأربعين وأبو شامة ، ومن نحا نحوهم واحتجوا بحجج منها قوله تعالى : ( لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ) فهذا يقتضي كون الملائكة أفضل من المسيح ألا ترى أنه يقال : إن فلانا لا يستنكف الوزير من خدمته ولا السلطان ، ولا يقال : إنه لا يستنكف السلطان من خدمته ولا الوزير ؟ فلما ذكر المسيح أولا والملائكة ثانيا علمنا أن الملائكة أفضل من المسيح . والجواب عنه من وجوه : ( الأول ) أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - وكذا إبراهيم الخليل أفضل من المسيح - عليه السلام - ، فلا يلزم من كون الملائكة أفضل من المسيح كونهم أفضل من محمد ولا من إبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - . ( الثاني ) أن قوله ولا الملائكة المقربون صيغة جمع فتناول الكل ، فهذا يقتضي كون مجموع الملائكة أفضل من المسيح ، فلم قلتم إنه يقتضي كون كل واحد من الملائكة أفضل من المسيح ؟ ( الثالث ) أن الواو في قوله : ولا الملائكة المقربون حرف عطف ، وهو إنما يفيد الجمع المطلق لا الترتيب ، والمثال الذي ذكرتموه ليس [ ص: 407 ] بحجة لأن الحكم الكلي لا يثبت بالمثال الجزئي ، ثم إنه معارض بنحو قولك : ما أعانني على هذا الأمر لا عمرو ولا زيد ، فهذا لا يفيد كون المتأخر في الذكر أفضل من المقدم ، ومنه قوله تعالى : ( ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت ) ولما اختلفت الأمة امتنع التعويل عليها ، ثم التحقيق في المسألة أنه قيل : إذا قيل هذا العالم لا يستنكف من خدمته الوزير ولا السلطان ، فنحن نعلم بعقولنا أن السلطان أعظم درجة من الوزير ، فعرفنا أن الغرض من ذكر الثاني هو المبالغة ، فهذه المبالغة إنما عرفناها بهذا الطريق لا بمجرد الترتيب في الذكر ، فلا يمكن أن نعرف أن المراد من قوله : ولا الملائكة المقربون بيان المبالغة إلا إذا عرفنا قبل ذلك أن الملائكة المقربين أفضل من المسيح ، وحينئذ يتوقف صحة الدليل على صحة المطلوب . وذلك دور ( الرابع ) هب أن الآية الكريمة دالة على أن منصب الملك أعلى وأزيد من منصب المسيح ، ولكن لا تدل على الزيادة من جميع الوجوه ، فالملك أزيد من جهة القوة والقدرة والبطش ، فإن جبريل - عليه السلام - قلع مدائن قوم لوط ، والبشر لا يقدرون على مثل ذلك ، فلم قلتم : إن الملك أفضل من البشر في كثرة الثواب الحاصل بسبب مزيد الخشوع والعبودية ؟ وتمام التحقيق أن الفضل المختلف فيه في هذه المسألة هو كثرة الثواب ، ثم إن كثرة الثواب لا تحصل إلا بنهاية التواضع والخضوع ، وكون العبد موصوفا بنهاية التواضع لله تعالى لا يلائم صيرورته مستنكفا من عبودية الله تعالى ، بل يناقضها وينافيها فامتنع أن يكون المراد من هذه الآية هذا المعنى ، وأما اتصاف الشخص بالقدرة الشديدة والقوة الكاملة فإنه مناسب للتمرد وترك العبودية ،فالنصارى لما شاهدوا من المسيح إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص أخرجوه بسبب هذا القدر من القدرة عن عبودية الله تعالى ، فقال تعالى : إن عيسى لا يستنكف بسبب هذا القدر من القدرة عن عبوديتي ، ولا الملائكة المقربون الذين هم فوقه في القدرة والبطش والاستيلاء على عالم السماوات والأرضين ، وعلى هذا الوجه تنتظم دلالة الآية على أن الملك أفضل من البشر في الشدة والقوة والبطش ، لكنها لا تدل البتة على أن الملك أفضل من البشر في كثرة الثواب ، ويقال أيضا : إنما ادعت النصارى إلهية عيسى لأنه [ ص: 408 ] وجد لا من أب ، فقيل لهم : الملك حصل ووجد لا من أب ولا من أم ، فكيف يستنكف المسيح عن العبودية لكونه وجد من أم لا أب والملك الذي وجد لا من أب ولا من أم لا يستنكف عنها ؟ فالملائكة أعجب في هذا من المسيح في هذا الباب مع أنهم لا يستنكفون عن عبودية الله تعالى .

ومنها قوله تعالى : ( ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ) والاستدلال بهذه الآية الكريمة من وجهين : ( الأول ) أنه تعالى احتج بعدم استكبار الملائكة عن عبادته على أن البشر يجب أن لا يستكبروا عنها ، ولو كان البشر أفضل من الملائكة لما تم هذا الاستدلال ، فإن السلطان إذا أراد أن يقرر على رعيته وجوب طاعتهم له فإنه يقول : الملوك لا يستكبرون عن طاعتي فمن هؤلاء المساكين ؟ وبالجملة فظاهر أن هذا الاستدلال لا يتم إلا بالأقوى على الأضعف . ( الثاني ) أنه قال : ومن عنده وهذه عندية الفضيلة والقربة . والجواب عن هذا فهم مما قبله ، وهو أن الملائكة مع تمام قوتهم وشدة بطشهم لا يتمردون عن طاعة الله تعالى ولا يستكبرون ، فما بال البشر يتمردون عن طاعة الله مع غاية ضعفهم ؟ وهذا يوجب كون الملك أقوى من البشر ، لا كونه أفضل منه بمعنى كثرة الثواب ، ويجاب عن الثاني أنه معارض بقوله تعالى في صفة البشر : ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) ، وقال - عليه السلام - حكاية عن الله تعالى : " أنا عند المنكسرة قلوبهم " . وهذا أفضل لأنه قال في الملائكة إنهم عند ربهم ، وقال في وصف المنكسرة قلوبهم إن ربهم عندهم . ومنها أن عبادات الملائكة أدوم وأشق فوجب أن تكون أفضل بشاهد قوله تعالى : ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) وعلى هذا التقدير لو كانت أعمارهم مساوية لأعمال البشر لكان طاعتهم أدوم وأكثر ، فكيف ولا نسبة لعمر كل البشر إلى عمر الملائكة ؟ وإنما فضل الأدوم لأنه أشق فكان أفضل ، وفي الحديث : " خيركم من طال عمره وحسن عمله " . والجواب عن هذه بأن لا حجة لهم في شيء من ذلك ، أما كون عبادتهم أشق ( فنقول ) بل عبادة البشر أشق ، لما فيهم من دواعي التخلف والتقاعد والفتور ، وإنما يدل جميع ذلك على قوة الملائكة وهذا مسلم ، ولا حجة لهم أيضا في الحديث لأنه خطاب لبشر خاصة ، ولا يلزم في تفاضل أحد الأنواع بشيء التفاضل به في غيره كما [ ص: 409 ] لا يخفى ، وأنت إذا تأملت ما تعلقوا به حق التأمل وجدته غير دال على مطلوبهم ، وقد قامت الأدلة من الطرف الآخر على تفضيل الأنبياء ، وكذلك من ألحقناهم بهم في التفضيل في الجملة ، ولا يذهب عليك أنه لا خلاف في فضيلة الملائكة ، وإنما الخلاف في أفضليتهم على خواص بني آدم . هذا وقد قال بعض العلماء : مسألة تفضيل البشر على الملك أو الملك على البشر ليست مما يضر اعتقاده ويضر الجهل به ، ولو لقي العبد ربه ساذجا من المسألة بالكلية لم يكن عليه إثم فما هي مما كلف الناس بمعرفته .

وقال القاضي تاج الدين السبكي : الناس ثلاثة : رجل عرف أن الأنبياء أفضل من الملائكة واعتقده بالدليل ، وآخر جهل هذه المسألة ولم يشتغل بها بالكلية ، وهذان لا ضرر عليهما ، قال : وثالث قضى بأن الملك أفضل وهذا على خطر ، وهل يقال من قضى بتفضيل الأنبياء على خطر فيكون الساذج أسلم منه أو أنه ناج لإصابة الحق من الخطر ؟ هذا موضع نظر ، قال : والذي أفهمه عن الوالد السلامة في السكوت عن هذه المسألة ، وأن الدخول في التفضيل بين هذين الصنفين الكريمين على الله تعالى من غير ورود دليل قاطع دخول في خطر عظيم ، وحكم في مكان لسنا أهلا للحكم فيه ، وقد جاءت أحاديث تحسم بإشارتها مادة الدخول في ذلك ، فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تفضلوني على يونس بن متى " . ونحوه ونحن على قطع بأنه - صلى الله عليه وسلم - أفضل من يونس - عليه السلام - ولم يختلف في ذلك أحد ، لعله إشارة إلى أنكم لا تدخلوا في أمر لا يعنيكم ، وما للسوقة والدخول بين الملوك ؟ وأعني بالسوقة في هذا أمثالنا ، وبالملوك الأنبياء والملائكة عليهم السلام . وقد علمت مذاهب الناس مما أسلفنا ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية