الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 175 ] ( الرابع ) اختلف عن المسئول عنه والمسئول ، فقال ابن عباس - رضي الله عنهما :

عن لا إله إلا الله . وقال الضحاك :

عن خطاياهم . وقال القرطبي :

عن جميع أقوالهم وأفعالهم ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا - فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) قال الفخر الرازي :

ولا معنى لقول من يقول : إن السؤال إنما يكون عن الكفر والإيمان ، بل السؤال واقع عنهما وعن جميع الأعمال ؛ لأن اللفظ عام فيتناول الكل ، والضمير في قوله : لنسألنهم عائد على جميع المكلفين الأنبياء وغيرهم ، ويدل على سؤالهم صريحا قوله تعالى ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) فهذه الآية تدل على أنه يحاسب كل عباده ، لأنهم لا يخرجون عن أن يكونوا مرسلين أو مرسلا إليهم ، ويبطل قول من زعم أنه لا حساب على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ولا الكفار . انتهى .

والجواب أنه لا حساب على الأنبياء عليهم السلام على سبيل المناقشة والتقريع ، قال النسفي في بحر الكلام :

الأنبياء لا حساب عليهم ، وكذلك أطفال المؤمنين ، وكذلك العشرة المبشرين بالجنة .

هذا حساب المناقشة ، وعموم الآيات الكريمة مخصوص بأحاديث من يدخل الجنة بغير حساب ، ولهذا قال علماؤنا في عقائدهم :

ويحاسب المسلمون المكلفون إلا من شاء الله أن يدخل الجنة بغير حساب ، وكل مكلف مسئول ، يسأل من شاء من الرسل عن تبليغ الرسالة ، ومن شاء من الكفار عن تكذيب الرسل .

قال شيخ مشايخنا البدر البلباني في عقيدته :

الكفار لا يحاسبون بمعنى أن صحائف أعمالهم لا توزن ، وإن فعل كافر قربة من نحو عتق أو صدقة أو ظلمه مسلم رجونا له أن يخفف عنه العذاب . انتهى .

ولعل مراده غير عذاب الكفر . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدته الواسطية :

يحاسب الله تعالى الخلق ، ويخلو بعبده المؤمن ، ويقرره بذنوبه كما وصف ذلك في الكتاب والسنة . قال :

وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته ، وسيئاته فإنهم لا حسنات لهم ، ولكن تعد أعمالهم وتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها . انتهى .

وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه : ما من عبد يخطو خطوة إلا ويسأل عنها ما أراد بها ، وعن أبي [ ص: 176 ] هريرة رضي الله عنه مرفوعا : إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة أن يقال له : ألم أصحح جسمك وأرويك الماء البارد ؟ والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسئلون عنه يوم القيامة ظل بارد ورطب وماء بارد " ، أخرجه الترمذي وابن حبان والحاكم والبغوي .

وأخرج الإمام أحمد والبيهقي وأبو نعيم عن الحسن مرفوعا : " ثلاث لا يحاسب بهن العبد : ظل خص يستظل به ، وكسرة يشد بها صلبه ، وثوب يواري به عورته " وأخرج البزار والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ثلاثة ليس عليهم حساب فيما طعموا إن شاء الله إذا كان حلالا : الصائم والمتسحر والمرابط فى سبيل الله " وأخرج البزار أيضا ، وأبو نعيم بسند حسن عن ابن عباس أيضا - رضي الله عنهما - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما فوق الإزار وجلف الخبز وظل الحائط وجر الماء فضل يحاسب به العبد يوم القيامة أو يسأل عنه " . وأخرج الإمام أحمد بسند جيد عن أبى عسيب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل حائطا لبعض الأنصار ومعه أبو بكر وعمر ، فجاء صاحب الحائط بعذق فوضعه ، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، ثم دعا بماء بارد فشرب فقال : " لتسألن عن هذا يوم القيامة " فقيل : يا رسول الله إنا لمسئولون عن هذا يوم القيامة ؟ قال : " نعم إلا من ثلاث : خرقة يكف بها عورته ، وكسرة يسد بها جوعته ، وجحر يدخل فيه من الحر والقر " وأخرج الطبراني والبزار والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ثلاث من كن فيه حاسبه الله حسابا يسيرا وأدخله الجنة برحمته - قالوا : وما هي ؟ قال تعطي من حرمك ، وتصل من قطعك ، وتعفو عمن ظلمك ، وفى ترغيب الأصبهاني عن أنس مرفوعا : " إن استطعت أن تمسي وتصبح وليس فى قلبك غش لأحد فافعل ، فإنه أهون عليك في الحساب " ، وأخرج البيهقي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال أعرابي : يا رسول الله من يحاسب الخلق يوم القيامة ؟ قال : الله ، قال : نجونا ورب الكعبة ، قال : وكيف يا أعرابي ؟ قال : لأن الكريم إذا قدر عفا . وما أحسن ما قيل من الحكم المدونة : الكريم إذا قدر غفر ، وإذا زللت معه ستر . ومنها : ليس من عادة الكرام سرعة الغضب والانتقام .

التالي السابق


الخدمات العلمية