الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( تنبيه )

علم مما تقدم أن أحق الناس بالخلافة بعد الثلاثة المتقدمة - أعني أبا بكر وعمر وعثمان - علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - باتفاق أهل الحل والعقد كطلحة والزبير وأبي موسى الأشعري وابن عباس وخزيمة بن ثابت وأبي الهيثم بن التيهان ومحمد بن مسلمة وعمار بن ياسر وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين . قال بعض محققي علمائنا : قد اتفق على بيعة علي - رضي الله عنه - عامة من حضر المدينة من البدريين والأنصار كاجتماع أهل السقيفة على بيعة أبي بكر - رضي الله عنه - . قال الحسن البصري - رضي الله عنه - : [ ص: 346 ] والله ما كانت بيعة علي - رضي الله عنه - إلا كبيعة أبي بكر وعمر - رضي الله عنهم - . وقال أبو عبد الله بن بطة من علمائنا : كانت بيعة علي - رضي الله عنه - ( بيعة ) اجتماع ورحمة لم يدع إلى نفسه ، ولم يجبرهم على بيعته بسيفه ، ولم يغلبهم بعشيرته ، ولقد شرف الخلافة بنفسه ، وزانها بشرفه وكساها حلة البهاء بعدله ، ورفعها بعلو قدره ، ولقد أباها فأجبروه وتقاعس عنها فأكرهوه . وقال سيدنا الإمام أحمد - رضي الله عنه - : إن عليا رضوان الله عليه لم تزنه الخلافة ولكن علي زانها .

وروى الشعبي قال : دخل أعرابي على علي - رضي الله عنه - حين أفضت إليه الخلافة فقال : والله يا أمير المؤمنين لقد زينت الخلافة وما زانتك ، ورفعتها وما رفعتك ، ولهي كانت أحوج إليك منك إليها . قال أبو عبد الله بن بطة - رحمه الله تعالى - : قد أحسن الأعرابي وصدق فيما قال ، فإن عليا ومن تقدمه من الخلفاء - رضي الله عنهم - زينوا الخلافة وجملوا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأتموا الدين وأظهروه وأسسوا الإسلام وأشهروه ، وأنشد الإمام الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في تبصرته في حق علي - رضي الله عنه - : ما زانه الملك إذ حواه بل كل شيء به يزان جرى ففات الملوك سبقا فليس قدامه غيان نالت يداه ذرى معال يعجز عن مثلها العيان

وفي شرح المقاصد عن بعض المتكلمين انعقد على بيعة علي - رضي الله عنه - الإجماع ، ووجه انعقاده ما انحصر الأمر فيه وفي عثمان زمن الشورى على أنها له أو لعثمان ، وهذا إجماع على علي - رضي الله عنه - لولا عثمان فلما توفي عثمان - رضي الله عنه - بقيت لعلي إجماعا ، ومن ثم قال بعض محققي علماء الكلام : لا اكتراث بقول من قال : لا إجماع على إمامة علي - رضي الله عنه - ، وقد تقدم في كلام شيخ الإسلام ما يفهم منه هذا المقام ، والله ولي الإنعام .

ولما قتل علي - رضي الله عنه - الخوارج بالنهروان واستأصل جمهورهم ولم ينج منهم إلا القليل ، انتدب من بقاياهم عبد الرحمن بن ملجم المرادي ، والحجاج بن عبد الله الصريمي ويعرف بالبرك ، وداذويه مولى بني العنبر بن عمرو بن تميم ، فأجمعوا رأيهم على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص ، وأن يكون قتلهم في ليلة واحدة وهي ليلة سبعة عشر من رمضان أو إحدى [ ص: 347 ] عشر ، وقيل : ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان ، وكان تعاقدهم وتعاهدهم على ذلك بمكة المشرفة ، فضمن ابن ملجم قتل علي ، فقيل له : وكيف لك بذلك ؟ قال : أغتاله . وضمن البرك قتل معاوية ، وضمن داذويه قتل عمرو بن العاص ، وزعموا أن هؤلاء الثلاثة قد أفسدوا أمر هذه الأمة ولو قتلوا لعاد الأمر إلى مستحقيه كذا زعموا لعنهم الله تعالى ، فتوجه كل واحد منهم إلى صاحبه ، فأما البرك الصريمي فقدم على معاوية بدمشق فضربه فجرح أليته وهو في الصلاة ، ويقال : إنه قطع عرق النسل منه فما أحبل النساء بعد تلك الضربة ، وأما داذويه بن حذافة العنبري فقدم مصر لقتل عمرو بن العاص ، فاتفق أنه تلك الليلة استخلف على صلاة الفجر خارجة بن حذافة بن غانم بن عبد الله بن عوف بن عتبة بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي العدوي ، شهد فتح مصر ، وكان أمير ربع المدد الذين أمد بهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عمرو بن العاص في فتح مصر ، وكان على شرط مصر في إمرة عمرو بن العاص لمعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهم - ، قال في جامع الأصول : كان خارجة بن حذافة هذا أحد فرسان قريش فيقال : إنه كان يعدل بألف فارس قاله ابن عبد البر ، وكان كتب عمرو بن العاص إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يستمده بثلاثة آلاف فارس فأمده بخارجة بن حذافة والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود - رضي الله عنهم - .

فأراد الخارجي داذويه قتل عمرو بن العاص فقتل خارجة بن حذافة ، فلما قتله الخارجي أخذ وأدخل على عمرو فقال الخارجي : من هذا الذي أدخلتموني عليه ؟ قالوا : عمرو بن العاص . قال : ومن قتلت ؟ قالوا : خارجة . فقال : أردت عمرا وأراد الله خارجة . فذهبت مثلا ، وإلى هذا أشار أبو محمد عبد المجيد بن عبدون الأندلسي في قصيدته الرائية التي رثى بها بني الأفطس ملوك بطليوس بقوله :

وليتها إذ فدت عمرا بخارجة فدت عليا بمن شاءت من البشر



وأما أشقى الآخرين عبد الرحمن بن ملجم اللعين فقدم الكوفة ولقي بها من إخوانه الخوارج ، فسارهم بما أراد فاشترى سيفا فيما زعموا بألف وسقاه السم حتى لفظه ، وكان في خلال ذلك يأتي عليا - رضي الله عنه - فيسأله [ ص: 248 ] فوقعت عينه على قطام بنت علقمة من تيم الرباب وكانت خارجية ترى رأي الخوارج ، وكانت جميلة رائعة في الجمال ، فأعجبته فخطبها فقالت : آليت أن لا أتزوج إلا على مهر لا أريد سواه . فقال : ما هو ؟ فقالت : ثلاثة آلاف وعبد وجارية وقتل علي بن أبي طالب . فقال : والله ما أتيت إلا للفتك به ولا أقدمني هذا المصر غير ذلك ، ولكن لما رأيتك أردت تزويجك . فقالت : ليس إلا الذي قلت لك . فقال : وما يغنيني منك إذا أنا قتلت عليا أعلم أني لم أفلت ؟ فقالت : إن قتلته ونجوت فهو الذي أردت تبلغ شفاء نفسك ويهنيك العيش معي ، وإن قتلت فما عند الله خير من الدنيا . فقال لها : لك ما اشترطت . ثم قال - لعنه الله تعالى - :

ثلاثة آلاف وعبد وقينة     وضرب علي بالحسام المسمم
فلا مهر أغلى من علي وإن غلا     ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم

فقالت له : ورائي من يشد ظهرك . فبعثت إلى ابن عم لها يدعى وردان بن مجالد ، فأجابها ولقي ابن ملجم شبيب بن شجرة الأشجعي فقال : يا شبيب هل لك في شرف الدنيا والآخرة ؟ فقال : ما هو ؟ فقال : تساعدني على قتل علي بن أبي طالب . فقال : ثكلتك أمك لقد جئت شيئا إدا كيف تقدر على ذلك ؟ قال : إنه رجل لا حرس له ويخرج إلى المسجد منفردا ، فنتمكن منه وقد كمنا له في المسجد فنقتله ، فإن نجونا نجونا وإن قتلنا فقد سعدنا بالذكر في الدنيا وبالجنة في الآخرة . فقال : ويلك إن عليا ذو سابقة في الإسلام مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وما تنشرح نفسي لقتله . قال : ويلك إنه حكم الرجال في دين الله وقتل إخواننا الصالحين ، فنقتله ببعض من قتل فلا تشكن في دينك .

فأجابه وأقبلا حتى دخلا على قطام وهي معتكفة في المسجد الأعظم في قبة ضربتها لنفسها ، فدعت لهما وأخذا سيفيهما وجلسا قبالة السدة التي يخرج منها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، فخرج إلى صلاة الصبح فبدره شبيب فضربه فأخطأه وضربه عبد الرحمن على رأسه ، وقال : الحكم لله يا علي لا لك ولا لأصحابك . فقال علي - رضي الله عنه - : فزت ورب الكعبة لا يفر منكم الكلب . وشد الناس عليه من كل جانب فحمل عليهم ابن ملجم فأفرجوا له فتلقاه المغيرة بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب [ ص: 349 ] فرمى عليه قطيفة كانت عنده واحتمله وضرب به الأرض وقعد على صدره ، وأما شبيب فانتزع السيف من يده رجل من حضرموت وصرعه وقعد على صدره ، فجعل الناس يصيحون : عليكم بصاحب السيف فخاف الحضرمي على نفسه فرمى بالسيف وانسل شبيب من بين الناس . فأخذ ابن ملجم فدخل به على أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - فقال : إن أعش فالأمر لي وإن أمت فالأمر لكم فالعفو أو القصاص .

واجتمع الأطباء عنده وكان أبصرهم بالطب أثير بن عمرو السكوني وكان من أطباء كسرى ، فأخذ رئة شاة حارة فتتبع عرقا منها فأخرجه فأدخله في جراحة علي - رضي الله عنه - ثم نفخ العرق فاستخرجه ، فإذا عليه بياض دماغ وإذا الضربة قد وصلت إلى أم رأسه ، فقال : يا أمير المؤمنين اعهد عهدك فأنت ميت . وسمع ابن ملجم - لعنه الله - الرنة من الدار فقال له من حضره : أي عدو الله إنه لا بأس على أمير المؤمنين - رضي الله عنه - . فقال ابن ملجم : فعلى من تبكي أم كلثوم ؟ أعلي ؟ أما والله لقد اشتريت سيفي بألف وما زلت أعرضه فما يعيبه أحد إلا أصلحت ذلك العيب ، ولقد سقيته السم حتى لفظه ، ولقد ضربته ضربة لو قسمت على من بالمشرق لأتت عليهم .

ثم مات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ليلة الأحد لتسع عشرة مضت من رمضان سنة أربعين ، وغسله الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر - رضي الله عنهم - وصلى عليه الحسن ودفن بدار الإمارة بالكوفة ، ثم أحضر ابن ملجم وجاء الناس بالنفط والبواري وقطعت يداه ورجلاه وكحلت عيناه بمسامير الحديد محماة ، ثم قطع لسانه ثم أحرق في قوصرة ، وقيل إنه قطعت أطرافه - لعنه الله - ولم يتأوه بل ( كان ) يتلو القرآن فلما أرادوا قطع لسانه امتنع من إخراجه فتعبوا في ذلك ، فقيل له : قطعت يداك ورجلاك فما تمانعت ، فما هذا التمانع عند قطع لسانك ؟ قال : لئلا يفوتني من تلاوة القرآن شيء وأنا حي ، فشقوا شدقه وأخرجوا لسانه بكلاب فقطعوه .

وكان عمر أمير المؤمنين لما مات ثلاثا وستين سنة كأبي بكر وعمر ، كعمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله تعالى أعلم .

ولما بلغ عائشة - رضي الله عنها - موت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي [ ص: 350 ] الله عنه - قالت : لتصنع العرب ما شاءت بعده فليس لها من ينهاها . وكان عبد الرحمن بن ملجم قد قرأ القرآن على معاذ بن جبل - رضي الله عنه - وكان من العباد المعدودين قبل خروجه ، حتى يقال إن عمر بن الخطاب كتب إلى بعض عماله أن يوسع دار عبد الرحمن بن ملجم ليعلم الناس الفقه والقرآن ، ثم كان من شيعة أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - وشهد معه صفين ، ثم فعل بعد هذا ما فعل فنسأل الله حسن الخاتمة في عافية .

وعند الخوارج أن ابن ملجم أفضل الأمة وكذلك النصيرية يعظمونه . قال أبو محمد بن حزم : يقولون إنه أفضل أهل الأرض لأنه خلص روح اللاهوت من ظلمة الجسد وكدره . وعند الروافض أنه أشقى الخلق في الآخرة . قلت : ولا يخفى أنه استحل قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بل عد قتله من أعظم القرب ، وهذا كفر بلا ريب حتى إن عمران بن حطان الخارجي - قبحه الله تعالى - قال يمدح ابن ملجم - لعنه الله - :

يا ضربة من تقي ما أراد بها     إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه     أوفى البرية عند الله ميزانا



وعارضه بعض أهل الحق بقوله :

قل لابن ملجم والأقدار غالبة     هدمت ويلك للإسلام أركانا
قتلت أفضل من يمشي على قدم     وأول الناس اسلاما وإيمانا
وأعلم الناس بالإيمان ثم     بما سن الرسول لنا شرعا وتبيانا
صهر النبي ومولاه وناصره     أضحت مناقبه نورا وبرهانا
وكان منه على رغم الحسود له     مكان هارون من موسى بن عمرانا
[ ص: 351 ] وكان في الحرب سيفا ماضيا ذكرا     ليثا إذا لقي الأقران أقرانا
ذكرت قاتله والدمع منحدر     فقلت سبحان رب العرش سبحانا
إني لأحسبه ما كان من بشر     يخشى المعاد ولكن كان شيطانا
أشقى مراد إذا عدت قبائلها     وأبخس الناس عند الله ميزانا
كعاقر الناقة الأولى التي جلبت     على ثمود بأرض الحجر خسرانا
قد كان يخبرهم أن سوف يخضبها     قبل المنية أزمانا وأزمانا
فلا عفا الله عنه ما تحمله     ولا سقى قبر عمران بن حطانا
لقوله في شقي ظل مجترما     ونال ما ناله ظلما وعدوانا
يا ضربة من تقي ما أراد بها     إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
بل ضربة من غوي أورثته لظى     فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
كأنه لم يرد قصدا بضربته     إلا ليصلى عذاب الخلد نيرانا



وما أحسن ما قال عمارة اليمني في الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - :

أردت عليا وعثمانا بمخلبها     ولم يفتها أبو بكر ولا عمر
ومن أراد التأسي في مصيبته     فللورى في رسول الله معتبر



[ ص: 352 ] واعلم أن مناقب علي - رضوان الله تعالى عليه - كثيرة ومآثره شهيرة ، ولقد قال فيه ابن عباس - رضي الله عنهم - : كان لعلي ضرس قاطع في العلم ، وكان له القدم في الإسلام ، والصهر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والفقه في السنة ، والنجدة في الحرب ، والجود في المال . وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن - يعني عليا - رضي الله عنه - .

وأخرج الإمام الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في تبصرته بسنده عن أبي صالح قال : قال معاوية بن أبي سفيان لضرار بن ضمرة : صف لي عليا . قال : أوتعفيني يا أمير المؤمنين . قال : بل تصفه لي . قال : أوتعفيني . قال : لا أعفيك . قال : أما إذ لا بد فإنه والله كان بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلا ، ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل وظلمته ، كان والله غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يقلب كفه ، ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما جشب ، كان والله كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ، ويبتدئنا إذا أتيناه ، ويأتينا إذا دعوناه ، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة ولا نبتدئه لعظمته ، كان إذا تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يعظم أهل الدين ، ويحب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، فأشهد بالله لرأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سجوفه ، وغارت نجومه ، وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته ، يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، فلكأني أسمعه وهو يقول : يا دنيا يا دنيا ألي تعرضت ؟ أم لي تشوفت ؟ هيهات ، غري غيري ، قد بنتك ثلاثا لا رجعة لي فيك ولا مثنوية ، فعمرك قصير ، وعيشك حقير ، وخطرك كبير ، ويروى أنه قال : حلالك حساب وحرامك عذاب ، ثم أنشد - رضي الله عنه - :

دنيا تخادعني كأن     ي لست أعرف حالها
مدت إلي يمينها     فرددتها وشمالها
حظر الإله حرامها     وأنا اجتنبت حلالها
وعلمتها خداعة     فتركت جملتها لها

آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق .

قال : فذرفت دموع معاوية [ ص: 353 ] فما يملكها وهو ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء ، ثم قال معاوية : رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟ قال : حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها ، ولا تسكن حسرتها . وأنشد الحافظ ابن الجوزي في التبصرة من نظم الإمام أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - ووصف نفسه :

إذا المشكلات تصدين لي     كشفت حقائقها بالنظر
وإن برقت في محل الصوا     ب عمياء لا يجتليها البصر
مقنعة بغيوب الأمور     وضعت عليها صحيح الفكر
لساني كشقشقة الأرحبي     أو كالحسام اليماني الذكر



وفي الطيوريات قال رجل لعلي - رضي الله عنه - : نسمعك تقول في الخطبة : اللهم أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين المهديين ، فمن هم ؟ فاغرورقت عيناه قال : هم أحبائي أبو بكر وعمر إماما الهدى وشيخا الإسلام ، رجلا قريش والمقتدى بهما بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اقتدى بهما عصم ، ومن اتبع آثارهما هدي إلى الصراط المستقيم ، ومن تمسك بهما فهو في حزب الله .

والإمام علي أمير المؤمنين - رضي الله عنه - أول من وضع علم النحو ، قال أبو القاسم الزجاجي في أماليه عن أبي الأسود الدؤلي قال : دخلت على أمير المؤمنين فرأيته مفكرا ، قلت : فيم تفكر ؟ قال : إني سمعت ببلدكم هذا لحنا فأردت أن أضع كتابا في أصول العربية . فقلت : إن فعلت هذا أحييتنا وبقيت فينا هذه اللغة . ثم أتيته بعد ثلاث فألقى إلي صحيفة فيها : بسم الله الرحمن الرحيم الكلام كله اسم وفعل وحرف ، فالاسم ما أنبأ عن المسمى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى ، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل ، ثم قال : واعلم يا أبا الأسود أن الأشياء ثلاثة : ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر ، ثم قال : تتبعه وانح نحوه وزد فيه . وهذا مشهور وما تحيط الدفاتر بالبحر الخضم ، والشيء الأعم والسواد الأعظم ، فكل ما ذكرناه بالنسبة لما تركناه كقطرة ماء من بحر لجي ، أو كرملة واحدة من رمال فيحة .

وروي له عن رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 354 ] وسلم - خمسمائة وسبعة وثلاثون حديثا في الصحيحين أربعة وأربعون حديثا ، اتفقا منها على عشرين ، وانفرد البخاري بتسعة ومسلم بخمسة عشر ، والله ولي التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية