( ( الباب السادس في ذكر الإمامة ومتعلقاتها ) )
( ( ولا غنى لأمة الإسلام في كل عصر كان عن إمام ) )
( ( يذب عنها كل ذي جحود ويعتني بالغزو والحدود ) )
( ( وفعل معروف وترك نكر ونصر مظلوم وقمع كفر ) )
( ( وأخذ مال الفيء والخراج ونحوه والصرف في منهاج ) )
قال علماؤنا كغيرهم :
nindex.php?page=treesubj&link=7637نصب الإمام الأعظم فرض كفاية لأن الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعوا على أن نصبه واجب بعد انقراض زمن النبوة ، بل جعلوه أهم الواجبات حيث اشتغلوا به عن دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، واختلافهم في تعيينه لا يقدح في الإجماع المذكور ، ولتلك الأهمية لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام
أبو بكر - رضي الله عنه - خطيبا ، فقال : أيها الناس من كان يعبد
محمدا فإن
محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت فلا بد لهذا الأمر ممن يقوم به فانظروا وهاتوا آراءكم .
قالوا : صدقت ، ننظر فيه ، فلهذا قلنا ( ( ولا غنى ) ) ولا مندوحة ، ولا بد ( ( لأمة ) ) دين ( ( الإسلام ) ) وهي بالضم الجماعة أرسل إليهم رسول والجيل من كل حي ومن هو على الحق مخالف لسائر الأديان ، والرجل الجامع للخير . وفي نسخة لملة بدل أمة وهي بكسر الميم الشريعة أو الدين ( ( في كل عصر ) ) من الأعصار وزمن من الأزمان ( ( كان ) ) أي وجد وحصل واستمر ( ( عن إمام ) ) متعلق بقوله لا غنى ، بل هو فرض لازم وواجب جازم ووجوبه عند
أهل السنة وأكثر
المعتزلة بالسمع يعني التواتر والإجماع . وزعم جمهور
المعتزلة أن وجوبه بالعقل ، ووجه وجوبه شرعا لمسيس الحاجة إليه فإنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بإقامة الحدود وسد الثغور وتجهيز الجيوش للجهاد وحماية البيضة
[ ص: 420 ] والذب عن الحوزة ولهذا قال ( ( يذب ) ) - بفتح المثناة التحتية وضم الذال المعجمة وتشديد الموحدة - أي يدفع ويمنع ( ( عنها ) ) أي عن ملة الإسلام وبيضة الدين ( ( كل ) ) ملك جبار وملحد مغوار ومعتد مهزار وظلوم كفار ( ( ذي ) ) أي صاحب ( ( جحود ) ) أي إنكار يقال جحده حقه وبحقه كمنعه جحدا وجحودا أنكره مع علمه ، والمراد به هنا الجاحد للدين القويم والضال عن الصراط المستقيم وأضرابه ( ( ويعتني ) ) ذلك الإمام المنصوب - يقال عناه الأمر يعنيه ويعنوه عناية وعناية وعنيا أهمه واعتنى به اهتم - ( ( بالغزو ) ) أي غزو الكفار وقهر أهل البغي والفجار ، يقال غزاه غزوا أراده وطلبه وقصده كاغتزاه وغزا العدو سار إلى قتالهم وانتهابهم غزوا وغزوناه فهو غاز ، فيقاتل من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة ( ( و ) ) يعتني الإمام المنصوب أيضا بإقامة ( (
nindex.php?page=treesubj&link=24354_24355الحدود ) ) جمع حد وهو لغة المنع والفصل بين شيئين ، وحدود الله تعالى محارمه كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=187تلك حدود الله فلا تقربوها ) وحدود الله أيضا ما حده وقدره ، والحدود العقوبات المقدرة سميت بذلك لأنها تمنع من الوقوع في مثل الذنب الذي رتبت تلك العقوبة عليه ، أو لكونها زواجر عنها أي المحارم التي حرمها الله تعالى ، فيقيم الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك وتحفظ حقوق العباد من الإتلاف والاستهلاك ، ( ( و ) ) يعتني أيضا بالأمر بـ ( ( فعل معروف ) ) ، وقد تكرر ذكره في الأحاديث النبوية والنصوص السماوية ، وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس ، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات ، وهو من الصفات الغالبة أي أمر بالمعروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه ، ( ( وترك نكر ) ) معطوف على ما قبله أي ويعتني أيضا بالنهي عن كل منكر وهو ضد المعروف فكل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه فهو منكر ( ( و ) ) يعتني المنصوب بـ ( ( نصر مظلوم ) ) من ظالمه بتخليصه من نحو سجنه ورد ظلامته عليه من ظالمه ، وأخذ حقه ممن هو عليه ونحو ذلك ( ( وقمع ) ) أهل ( ( كفر ) ) أي قهرهم وذلهم ، يقال : قمعه كمنعه وأقمعه والمقموع المقهور ، لأن ذلك من أجل المقاصد الشرعية والمصالح الإسلامية ( ( و ) ) يعتني أيضا
[ ص: 421 ] بـ ( ( أخذ مال الفيء ) ) أصل
nindex.php?page=treesubj&link=8571الفيء مصدر فاء يفيء فيئا إذا رجع ، ثم أطلق على المال الحاصل من جهاته المذكورة في كتب الفقه سمي فيئا لأنه راجع منها إلى أهل الإسلام ، كأنه في الأصل لهم ثم رجع إليهم ، قال
شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه - في السياسة الشرعية : سمي فيئا لأن الله تعالى أفاءه على المسلمين أي رده عليهم من الكفار ، فإن الأصل أن الله تعالى إنما خلق الأموال إعانة على عبادته ، لأنه تعالى إنما خلق لعبادته فالكافرون به أباح أنفسهم التي لم يعبدوه بها وأموالهم التي لم يستعينوا بها على عبادته لعباده المؤمنين الذين يعبدونه ، فأفاء إليهم ما يستحقونه كما يعاد على الرجل ما غصب من ميراثه ، وإن لم يكن قبضه قبل ذلك . وهو ما أخذ من مال كافر بحق الكفر بلا قتال كالجزية ( ( والخراج ) ) وزكاة تغلبي وعشر مال تجارة حربي ونصفه من ذمي ، ( ( ونحوه ) ) أي نحو ما ذكر كالمال الذي تركه الكفار فزعا وهربوا وبذلوه فزعا منا في الهدنة وغيرها ، ولخمس الخمس من الغنيمة ، ومال من مات من الكفار ولا وارث له ، ومال المرتد إذا مات على ردته بقتل أو غيره أو لحق بدار حرب ، ( ( و ) ) يعتني أيضا بـ ( ( الصرف ) ) لذلك المال المذكور ( ( في منهاج ) ) أي طريق وجهة مصرفه المعينة له شرعا ، فيصرف في مصالح أهل الإسلام ، ويبدأ من ذلك بالأهم فالأهم من المصالح العامة لأهل الدار التي بها حفظ المسلمين من وظائف جند الإسلام وعمارة الثغور وكفاية أهلها ، وما يحتاج إليه من يدفع عن المسلمين من السلاح والكراع وسد البثوق وكري الأنهار وعمل القناطر على الطرق والمساجد ، وأرزاق القضاة والأئمة والمؤذنين والفقهاء ومن يحتاج إليه المسلمون ، وكل ما يعود نفعه على المسلمين ، فإن فضل منه شيء قسم بين المسلمين غنيهم وفقيرهم ، نعم لا يفرد العبد بالعطاء بل يزاد سيده ، واختار
شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - أنه لا حظ
للرافضة فيه ، ذكره
المحقق ابن القيم في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد عن الإمامين
مالك وأحمد - رضي الله عنهما - .
وكل ما ذكر من إقامة الحدود وسد الثغور وحفظ بيضة الإسلام واجب ، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب ، فلهذا قلنا ولا غنى لملة الإسلام
[ ص: 422 ] عن إقامة إمام فنصبه فرض كفاية ، إذ في نصبه جلب منافع لا تحصى ودفع مضار لا تستقصى ، وكل ما كان كذلك فهو واجب ، فإن جلب المنافع ودفع المضار المترتبة على نصب الإمام تكاد تلحق بالضرورات بل بالمشاهدات بشهادة ما تراه من الفتن والفساد وانفصام أمور العباد بمجرد موت الإمام ، وإن لم يكن على ما ينبغي من الصلاح والسداد ، فإقامة الإمام فرض كفاية عند
أهل السنة ومن وافقهم بالإجماع ، وعند من قال بالوجوب عقلا من
المعتزلة كأبي الحسين والجاحظ والخياط والكعبي فبالضرورة ، وأما مخالفة
الخوارج ونحوهم في الوجوب فلا اعتداد بها ، لأن مخالفتهم كسائر المبتدعة ليس قادح في الإجماع ولا يخل بما يفيده من القطع بالحكم المجمع عليه .
ودعوى أن في نصبه ضررا من حيث إلزام من هو مثله بامتثال أوامره فيه إضرار به فيؤدي إلى الفتنة ، ومن حيث إنه غير معصوم من نحو الكفر والفسوق ، فإن لم يعزل أضر بالناس وإن عزل أدى إلى محاربة وفيها ضرر باطلة لا ينظر إليها لأن الإضرار اللازم من ترك نصبه أعظم وأقبح ، بل لا نسبة بينهما ، وإذا اجتمع ضرران دفع أعظمهما بأخفهما وجوبا ، وفرض انتظام الناس بدون إمام محال كما هو مشاهد .
( ( الْبَابُ السَّادِسُ فِي ذِكْرِ الْإِمَامَةِ وَمُتَعَلِّقَاتِهَا ) )
( ( وَلَا غِنَى لِأُمَّةِ الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ عَصْرٍ كَانَ عَنْ إِمَامِ ) )
( ( يَذُبُّ عَنْهَا كُلَّ ذِي جُحُودِ وَيَعْتَنِي بِالْغَزْوِ وَالْحُدُودِ ) )
( ( وَفِعْلِ مَعْرُوفٍ وَتَرْكِ نُكْرِ وَنَصْرِ مَظْلُومٍ وَقَمْعِ كُفْرِ ) )
( ( وَأَخْذِ مَالِ الْفَيْءِ وَالْخَرَاجِ وَنَحْوِهِ وَالصَّرْفِ فِي مِنْهَاجِ ) )
قَالَ عُلَمَاؤُنَا كَغَيْرِهِمْ :
nindex.php?page=treesubj&link=7637نَصْبُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ نَصْبَهُ وَاجِبٌ بَعْدَ انْقِرَاضِ زَمَنِ النُّبُوَّةِ ، بَلْ جَعَلُوهُ أَهَمَّ الْوَاجِبَاتِ حَيْثُ اشْتَغَلُوا بِهِ عَنْ دَفْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي تَعْيِينِهِ لَا يَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ ، وَلِتِلْكَ الْأَهَمِّيَّةِ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ
أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَطِيبًا ، فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ
مُحَمَّدًا فَإِنَّ
مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ فَلَا بُدَّ لِهَذَا الْأَمْرِ مِمَّنْ يَقُومُ بِهِ فَانْظُرُوا وَهَاتُوا آرَاءَكُمْ .
قَالُوا : صَدَقْتَ ، نَنْظُرُ فِيهِ ، فَلِهَذَا قُلْنَا ( ( وَلَا غِنَى ) ) وَلَا مَنْدُوحَةَ ، وَلَا بُدَّ ( ( لِأُمَّةِ ) ) دِينِ ( ( الْإِسْلَامِ ) ) وَهِيَ بِالضَّمِّ الْجَمَاعَةُ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ رَسُولٌ وَالْجِيلُ مِنْ كُلِّ حَيٍّ وَمَنْ هُوَ عَلَى الْحَقِّ مُخَالِفٌ لِسَائِرِ الْأَدْيَانِ ، وَالرَّجُلُ الْجَامِعُ لِلْخَيْرِ . وَفِي نُسْخَةٍ لِمِلَّةٍ بَدَلَ أُمَّةٍ وَهِيَ بِكَسْرِ الْمِيمِ الشَّرِيعَةُ أَوِ الدِّينُ ( ( فِي كُلِّ عَصْرٍ ) ) مِنَ الْأَعْصَارِ وَزَمَنٍ مِنَ الْأَزْمَانِ ( ( كَانَ ) ) أَيْ وُجِدَ وَحَصَلَ وَاسْتَمَرَّ ( ( عَنْ إِمَامٍ ) ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لَا غِنَى ، بَلْ هُوَ فَرْضٌ لَازِمٌ وَوَاجِبٌ جَازِمٌ وَوُجُوبُهُ عِنْدَ
أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَكْثَرِ
الْمُعْتَزِلَةِ بِالسَّمْعِ يَعْنِي التَّوَاتُرَ وَالْإِجْمَاعَ . وَزَعَمَ جُمْهُورُ
الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ وَجُوبَهُ بِالْعَقْلِ ، وَوَجْهُ وَجُوبِهِ شَرْعًا لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَسَدِّ الثُّغُورِ وَتَجْهِيزِ الْجُيُوشِ لِلْجِهَادِ وَحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ
[ ص: 420 ] وَالذَّبِّ عَنِ الْحَوْزَةِ وَلِهَذَا قَالَ ( ( يَذُبُّ ) ) - بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ - أَيْ يَدْفَعُ وَيَمْنَعُ ( ( عَنْهَا ) ) أَيْ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَبَيْضَةِ الدِّينِ ( ( كُلَّ ) ) مَلَكٍ جَبَّارٍ وَمُلْحِدٍ مِغْوَارٍ وَمُعْتَدٍ مِهْزَارٍ وَظَلُومٍ كَفَّارٍ ( ( ذِي ) ) أَيْ صَاحِبِ ( ( جُحُودٍ ) ) أَيْ إِنْكَارٍ يُقَالُ جَحَدَهُ حَقَّهُ وَبِحَقِّهِ كَمَنَعَهُ جَحْدًا وَجُحُودًا أَنْكَرَهُ مَعَ عِلْمِهِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْجَاحِدُ لِلدِّينِ الْقَوِيمِ وَالضَّالُّ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَأَضْرَابِهِ ( ( وَيَعْتَنِي ) ) ذَلِكَ الْإِمَامُ الْمَنْصُوبُ - يُقَالُ عَنَاهُ الْأَمْرُ يَعْنِيَهُ وَيَعْنُوهُ عِنَايَةً وَعَنَايَةً وَعُنِيًّا أَهَمَّهُ وَاعْتَنَى بِهِ اهْتَمَّ - ( ( بِالْغَزْوِ ) ) أَيْ غَزْوِ الْكُفَّارِ وَقَهْرِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالْفُجَّارِ ، يُقَالُ غَزَاهُ غَزْوًا أَرَادَهُ وَطَلَبَهُ وَقَصَدَهُ كَاغْتَزَاهُ وَغَزَا الْعَدُوَّ سَارَ إِلَى قِتَالِهِمْ وَانْتِهَابِهِمْ غَزْوًا وَغَزَوْنَاهُ فَهُوَ غَازٍ ، فَيُقَاتِلُ مَنْ عَانَدَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ الدَّعْوَةِ حَتَّى يُسْلِمَ أَوْ يَدْخُلَ فِي الذِّمَّةِ ( ( وَ ) ) يَعْتَنِي الْإِمَامُ الْمَنْصُوبُ أَيْضًا بِإِقَامَةِ ( (
nindex.php?page=treesubj&link=24354_24355الْحُدُودِ ) ) جَمْعِ حَدٍّ وَهُوَ لُغَةً الْمَنْعُ وَالْفَصْلُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ ، وَحُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى مَحَارِمُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=187تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ) وَحُدُودُ اللَّهِ أَيْضًا مَا حَدَّهُ وَقَدَّرَهُ ، وَالْحُدُودُ الْعُقُوبَاتُ الْمُقَدَّرَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ الذَّنْبِ الَّذِي رُتِّبَتْ تِلْكَ الْعُقُوبَةُ عَلَيْهِ ، أَوْ لِكَوْنِهَا زَوَاجِرَ عَنْهَا أَيِ الْمَحَارِمُ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى ، فَيُقِيمُ الْحُدُودَ لِتُصَانَ مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الِانْتِهَاكِ وَتُحْفَظَ حُقُوقُ الْعِبَادِ مِنَ الْإِتْلَافِ وَالِاسْتِهْلَاكِ ، ( ( وَ ) ) يَعْتَنِي أَيْضًا بِالْأَمْرِ بِـ ( ( فِعْلِ مَعْرُوفٍ ) ) ، وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَالنُّصُوصِ السَّمَاوِيَّةِ ، وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا عُرِفَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ ، وَكُلُّ مَا نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّرْعُ وَنَهَى عَنْهُ مِنَ الْمُحَسَّنَاتِ وَالْمُقَبَّحَاتِ ، وَهُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ أَيْ أَمْرٍ بِالْمَعْرُوفِ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا رَأَوْهُ لَا يُنْكِرُونَهُ ، ( ( وَتَرْكِ نُكْرٍ ) ) مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ أَيْ وَيَعْتَنِي أَيْضًا بِالنَّهْيِ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ وَهُوَ ضِدُّ الْمَعْرُوفِ فَكُلُّ مَا قَبَّحَهُ الشَّرْعُ وَحَرَّمَهُ وَكَرِهَهُ فَهُوَ مُنْكَرٌ ( ( وَ ) ) يَعْتَنِي الْمَنْصُوبُ بِـ ( ( نَصْرِ مَظْلُومٍ ) ) مِنْ ظَالِمِهِ بِتَخْلِيصِهِ مِنْ نَحْوِ سِجْنِهِ وَرَدِّ ظُلَامَتِهِ عَلَيْهِ مِنْ ظَالِمِهِ ، وَأَخْذِ حَقِّهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ( ( وَقَمْعِ ) ) أَهْلِ ( ( كُفْرٍ ) ) أَيْ قَهْرِهِمْ وَذُلِّهِمْ ، يُقَالُ : قَمَعَهُ كَمَنَعَهُ وَأَقْمَعُهُ وَالْمَقْمُوعُ الْمَقْهُورُ ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَجَلِّ الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَصَالِحِ الْإِسْلَامِيَّةِ ( ( وَ ) ) يَعْتَنِي أَيْضًا
[ ص: 421 ] بِـ ( ( أَخْذِ مَالِ الْفَيْءِ ) ) أَصْلُ
nindex.php?page=treesubj&link=8571الْفَيْءِ مَصْدَرُ فَاءَ يَفِيءُ فَيْئًا إِذَا رَجَعَ ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْمَالِ الْحَاصِلِ مِنْ جِهَاتِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ سُمِّيَ فَيْئًا لِأَنَّهُ رَاجِعٌ مِنْهَا إِلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، كَأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ لَهُمْ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ ، قَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ - فِي السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ : سُمِّيَ فَيْئًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفَاءَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَيْ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ ، فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ الْأَمْوَالَ إِعَانَةً عَلَى عِبَادَتِهِ ، لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ لِعِبَادَتِهِ فَالْكَافِرُونَ بِهِ أَبَاحَ أَنْفُسَهُمُ الَّتِي لَمْ يَعْبُدُوهُ بِهَا وَأَمْوَالَهُمُ الَّتِي لَمْ يَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى عِبَادَتِهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ ، فَأَفَاءَ إِلَيْهِمْ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ كَمَا يُعَادُ عَلَى الرَّجُلِ مَا غَصَبَ مِنْ مِيرَاثِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهُ قَبْلَ ذَلِكَ . وَهُوَ مَا أُخِذَ مِنْ مَالٍ كَافِرٍ بِحَقِّ الْكُفْرِ بِلَا قِتَالٍ كَالْجِزْيَةِ ( ( وَالْخَرَاجِ ) ) وَزَكَاةِ تَغْلِبِيٍّ وَعُشْرِ مَالِ تِجَارَةِ حَرْبِيٍّ وَنِصْفِهِ مِنْ ذِمِّيٍّ ، ( ( وَنَحْوِهِ ) ) أَيْ نَحْوِ مَا ذُكِرَ كَالْمَالِ الَّذِي تَرَكَهُ الْكُفَّارُ فَزَعًا وَهَرَبُوا وَبَذَلُوهُ فَزَعًا مِنَّا فِي الْهُدْنَةِ وَغَيْرِهَا ، وَلِخُمْسِ الْخُمْسِ مِنَ الْغَنِيمَةِ ، وَمَالِ مَنْ مَاتَ مِنَ الْكُفَّارِ وَلَا وَارِثَ لَهُ ، وَمَالِ الْمُرْتَدِّ إِذَا مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ بِقَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ حَرْبٍ ، ( ( وَ ) ) يَعْتَنِي أَيْضًا بِـ ( ( الصَّرْفِ ) ) لِذَلِكَ الْمَالِ الْمَذْكُورِ ( ( فِي مِنْهَاجِ ) ) أَيْ طَرِيقِ وَجِهَةِ مَصْرَفِهِ الْمُعَيَّنَةِ لَهُ شَرْعًا ، فَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، وَيُبْدَأُ مِنْ ذَلِكَ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِأَهْلِ الدَّارِ الَّتِي بِهَا حَفِظُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَظَائِفِ جُنْدِ الْإِسْلَامِ وَعِمَارَةِ الثُّغُورِ وَكِفَايَةِ أَهْلِهَا ، وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ يَدْفَعُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَسَدِّ الْبُثُوقِ وَكَرْيِ الْأَنْهَارِ وَعَمَلِ الْقَنَاطِرِ عَلَى الطُّرُقِ وَالْمَسَاجِدِ ، وَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَمَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ ، وَكُلُّ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ قُسِّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ ، نَعَمْ لَا يُفْرَدُ الْعَبْدُ بِالْعَطَاءِ بَلْ يُزَادُ سَيِّدُهُ ، وَاخْتَارَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - أَنَّهُ لَا حَظَّ
لِلرَّافِضَةِ فِيهِ ، ذَكَرَهُ
الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ زَادِ الْمَعَادِ فِي هَدْيِ خَيْرِ الْعِبَادِ عَنِ الْإِمَامَيْنِ
مَالِكٍ وَأَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - .
وَكُلُّ مَا ذُكِرَ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَسَدِّ الثُّغُورِ وَحِفْظِ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ وَاجِبٌ ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ الْمُطْلَقُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ ، فَلِهَذَا قُلْنَا وَلَا غِنَى لِمِلَّةِ الْإِسْلَامِ
[ ص: 422 ] عَنْ إِقَامَةِ إِمَامٍ فَنَصْبُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ ، إِذْ فِي نَصْبِهِ جَلْبُ مَنَافِعَ لَا تُحْصَى وَدَفْعُ مَضَارٍّ لَا تُسْتَقْصَى ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ وَاجِبٌ ، فَإِنَّ جَلْبَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعَ الْمَضَارِّ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى نَصْبِ الْإِمَامِ تَكَادُ تَلْحَقُ بِالضَّرُورَاتِ بَلْ بِالْمُشَاهَدَاتِ بِشَهَادَةِ مَا تَرَاهُ مِنَ الْفِتَنِ وَالْفَسَادِ وَانْفِصَامِ أُمُورِ الْعِبَادِ بِمُجَرَّدِ مَوْتِ الْإِمَامِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنَ الصَّلَاحِ وَالسَّدَادِ ، فَإِقَامَةُ الْإِمَامِ فَرْضُ كِفَايَةٍ عِنْدَ
أَهْلِ السُّنَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِالْإِجْمَاعِ ، وَعِنْدَ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ عَقْلًا مِنَ
الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي الْحُسَيْنِ وَالْجَاحِظِ وَالْخَيَّاطِ وَالْكَعْبِيِّ فَبِالضَّرُورَةِ ، وَأَمَّا مُخَالَفَةُ
الْخَوَارِجِ وَنَحْوِهِمْ فِي الْوُجُوبِ فَلَا اعْتِدَادَ بِهَا ، لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ كَسَائِرِ الْمُبْتَدِعَةِ لَيْسَ قَادِحٌ فِي الْإِجْمَاعِ وَلَا يُخِلُّ بِمَا يُفِيدُهُ مِنَ الْقَطْعِ بِالْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ .
وَدَعْوَى أَنَّ فِي نَصْبِهِ ضَرَرًا مِنْ حَيْثُ إِلْزَامُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ فِيهِ إِضْرَارٌ بِهِ فَيُؤَدِّي إِلَى الْفِتْنَةِ ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ مِنْ نَحْوِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ ، فَإِنْ لَمْ يُعْزَلْ أَضَرَّ بِالنَّاسِ وَإِنْ عُزِلَ أَدَّى إِلَى مُحَارَبَةٍ وَفِيهَا ضَرَرٌ بَاطِلَةٌ لَا يَنْظَرُ إِلَيْهَا لِأَنَّ الْإِضْرَارَ اللَّازِمَ مِنْ تَرْكِ نَصْبِهِ أَعْظَمُ وَأَقْبَحُ ، بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا ، وَإِذَا اجْتَمَعَ ضَرَرَانِ دُفِعَ أَعْظَمُهُمَا بِأَخَفِّهِمَا وُجُوبًا ، وَفَرْضُ انْتِظَامِ النَّاسِ بِدُونِ إِمَامٍ مُحَالٌ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ .