( باب ما جاء في عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - )
وفي بعض النسخ المراد بالعبادة هنا الزيادة على الواجبات ، وعقبها لنومه لأن عبادته - صلى الله عليه وسلم - المبينة بقوله تعالى : عبادة رسول الله ومن الليل فتهجد به نافلة لك والمعينة في سورة المزمل إنما كانت بعد نومه على أن نومه من أجل العبادات ، وأكمل الطاعات ثم الأصل في باب العبادة ، وترك العادة وطلب الزيادة قوله تعالى : واعبد ربك حتى يأتيك اليقين أي : الموت بإجماع المفسرين خلافا للزنادقة ، والملحدين حيث ظنوا أن العبد إذا وصل إلى علم اليقين ارتفع عنه العبادة ، بل إنما سمي الموت يقينا ; لأنه متيقن لكل أحد ، وقال : هو يقين يشبه الشك في نظر العامة ، ثم فائدة الغاية الأمر بالدوام أي : اعبد ربك في جميع أزمنة حياتك وقد روى الغزالي البغوي ، وأبو نعيم : " ما أوحى الله إلي أن أجمع المال ، وأكون من التاجرين ، ولكن أوحى إلي أن سبح بحمد ربك ، وكن من الساجدين ، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " ، ورتب التسبيح ، وما بعده على ضيق الصدر حيث قال : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح إلى آخره لأن الاشتغال بها يكشف صدأ القلب فيستحقر الدنيا ; فلا يحزن لفقدها ، ولا يفرح لحصولها ووجودها ، فهو تقرير لما قبله من قوله : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك الآية واعلم أنهم اختلفوا هل كان - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة متعبدا بشرع من قبله ؟ فقال الجمهور : لا وإلا لنقل ولما أمكن كتمه عادة ولأنه يبعد أن يكون متبوعا من عرف تابعا ، وقال إمام الحرمين : بالوقف ، وقال آخرون : نعم كان متعبدا بشرع ثم أحجم بعضهم عن التعيين وجسر عليه بعضهم ، وعليه فقيل آدم وقيل نوح وقيل إبراهيم وقيل موسى وقيل عيسى وقيل جميع الشرائع ، والقول بأنه كان على شريعة إبراهيم وليس له شرع ينفرد به بل القصد من بعثته إحياء شرع إبراهيم لقوله تعالى : أن اتبع ملة إبراهيم حماقة وجهالة إذ المراد به الاتباع في أصل التوحيد كما في قوله تعالى : فبهداهم اقتده إذ شرائعهم مختلفة لا يمكن الجمع بينها ، فلم يبق إلا ما أجمعوا عليه من التوحيد ، ومعنى متابعتهم في التوحيد المتابعة في كيفية الدعوى إليه بطريق الرفق ، وإيراد الأدلة مرة بعد أخرى على ما هو المألوف ، والمعروف في القرآن ، والمبالغة في التوكل والإخلاص ، ونفي السمعة والريا والالتحاء إلى السوى قال شيخ الإسلام : الإمام السراج البلقيني في شرح ولم يجئ في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده ، ولكن روى ابن إسحاق وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج إلى حراء في كل عام شهرا يتنسك فيه وكان من نسك البخاري قريش في [ ص: 80 ] الجاهلية أن يطعم الرجل من جاء من المساكين حتى إذا انصرف من مجاورته لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة ، وقيل كانت عبادته التفكر ، أقول : الظاهر والله أعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان متعبدا بالعبادات الباطنية من الأذكار القلبية ، والأفكار في الصفات الإلهية ، والمصنوعات الآفاقية والأنفسية ، والأخلاق السنية ، والشمائل البهية ، من التراحم على الضعفاء ، والشفقة على الفقراء ، والتحمل من الأعداء ، والصبر على البلاء ، والشكر على النعماء ، والرضا بالقضاء ، والتسليم والتفويض والتوكل على رب الأرض والسماء ، والتحقق بحال الفناء ومقام البقاء على ما يكون منتهى حال أكمل الأولياء والأصفياء ، ولذا قيل بداية الأنبياء نهاية الأولياء ، وأما ما قاله بعضهم من أن بداية الولي نهاية النبي ; فإنما هو باعتبار التكاليف الشرعية من الأوامر الفرضية ، والزواجر المنهية فما لم يتصف السالك بما انتهى إليه أمر دينه - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل في باب الولاية ، ولم يكن له حظ من حسن الرعاية ، وحفظ الحماية .