الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال : ودية أهل الذمة من أهل الكتاب وغيرهم مثل دية المسلمين رجالهم كرجالهم ونساؤهم كنسائهم ، وكذلك جراحاتهم وجناياتهم بينهم وما دون النفس في ذلك سواء فإن كانت لهم معاقل يتعاقلون على عواقلهم ، وإن لم يكن لهم معاقل ففي مال الجاني ; وهذا لأنهم بعقد الذمة التزموا أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات فيثبت فيما بينهم من الحكمة ما هو ثابت بين المسلمين وديتهم مثل دية أحرار المسلمين عندنا ، وقال مالك : دية الكتابي على النصف من دية المسلم ، وهو أحد قولي الشافعي وقال في قول آخر : دية الكتابي على الثلث من دية المسلمين ودية المجوسي ثمانمائة درهم استدلالا بالآيات الدالة على نفي المساواة بين المسلمين ، والكفار لقوله تعالى { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } ولقوله { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } وقال : عليه السلام { المسلمون تتكافأ دماؤهم } فدل أن دماء غيرهم لا تكافئ دماءهم ، وفي حديث سعيد بن المسيب { أن النبي عليه السلام قضى في دية الكتابي بثلث دية المسلم } ، وفي رواية بنصف دية المسلم وعن عمر أنه قضى في دية المجوسي بثمانمائة درهم ; ولأن نقصان الكفر فوق نقصان الأنوثة ، وإذا كانت الدية تنقص بصفة الأنوثة فبالكفر أولى ، وإنما [ ص: 85 ] انتقصت بصفة الأنوثة ; لنقصان دين النساء كما وصفهن به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله { : إنهن ناقصات عقل ودين } وتأثير عدم الدين فوق تأثير نقصان الدين يدل عليه أن بدل النفس ينتقص بالرق ، والرق أثر من آثار الكفر ، وأثر الشيء دون أصله فلأن ينتقص بأصل الكفر كان أولى ، ويتفاحش النقصان إذا انضم إلى كفره عدم الكتاب نسبة فتناهي النقصان نسبة حتى لا يوجب إلا ما قضى به عمر رضي الله عنه وهو ثمانمائة درهم .

وحجتنا في ذلك قوله تعالى { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله } ، والمراد منه ما هو المراد من قوله في قتل المؤمن { ودية مسلمة إلى أهله } ، وفي حديث ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودى العامر بين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري وكانا مستأمنين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية حرين مسلمين وقال عليه السلام : دية كل ذي عمد في عمده ألف دينار } وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قالا : دية الذمي مثل دية المسلم وقال علي رضي الله عنه : إنما أعطيناهم الذمة وبذلوا الجزية ; لتكون دماؤهم كدمائنا ، وأموالهم كأموالنا وما نقلوا فيه من الآثار بخلاف هذا لا يكاد يصح فقد روي عن معمر رضي الله عنه قال : سألت الزهري عن دية الذمي فقال : مثل دية الحر المسلم فقلت : إن سعيدا يروي بخلاف ذلك قال ارجع إلى قوله تعالى { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله } فهذا بيان أن الرواية الشاذة لا تقبل فيما يدل على نسخ الكتاب .

ثم تأويله أنه قضى بثلث الدية في سنة واحدة فظن الراوي أن ذلك جميع ما قضى به وعند تعارض الأخبار يترجح المثبت للزيادة ، وقوله : { المسلمون تتكافأ دماؤهم } لا يدل على أن دماء غيرهم لا تكافئهم فتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه ، والمراد بالآثار نفي المساواة بينهما في أحكام الآخرة دون أحكام الدنيا فإنا نرى المساواة بيننا وبينهم في بعض أحكام الدنيا ، ولا يجوز أن يقع الخلف في خبر الله تعالى .

والكلام من حيث المعنى في المسألة من وجهين : أحدهما : أن أهل الذمة يستوون بالمسلمين في صفة المالكية فيستوون بهم في الدية كالفساق مع العدول ; وهذا لأن نقصان الدية باعتبار نقصان المالكية ولهذا تنصفت بالأنوثة لتنصف المالكية فإن المرأة أهل ملك المال دون ملك النكاح ، وانتقص عن ذلك بصفة الاجتنان في البطن ; لأنه ليس بأهل للمالكية في الحال ، وإن كان فيه عرضية أن يصير أهلا في الثاني ، وانتقص بنقصان الرق بخروجه من أن يكون أهلا لمالكية المال ومالكية النكاح بنفسه ; وهذا لأن وجوب الدية لإظهار خطر المحل وصيانته عن الهدر ، وهذا الخطر [ ص: 86 ] باعتبار صفة المالكية وبصفة المملوكية يصير متبدلا إذا ثبت هذا فنقول : لا تأثير للكفر ، وعدم الكتاب في نقصان المالكية فتستوي دية الكافر بدية المسلم .

والثاني : أن وجوب الدية باعتبار معنى الإحراز والإحراز يكون بالدار لا بالدين ، والإحراز بالدين من حيث اعتقاد الحرمة ، وإنما ظهر ذلك في حق من نعتقده دون ما لا نعتقد فأما الإحراز بقوة أهل الدار فيظهر في حق أهل الكتاب ، وأهل الذمة ساووا المسلمين في الإحراز بالدار ولهذا يستوي بينهم وبين المسلمين في قيمة الأموال فكذلك في قيمة النفوس ، ولا يدخل عليه الإناث فإنهم في الإحراز يساوين الذكور ، ولكن تنصف الدية في حقهن باعتبار نقصان المالكية ولأنهن تباع في معنى الإحراز ; لأن النصرة لا تقوم بهن وقصدنا بالتسوية بين أهل الذمة ، والمسلمين وقد سوينا في حق الرجال ، والنساء جميعا ، وجنايات الصبي والمعتوه ، والمجنون عمدها وخطؤها كلها على العاقلة إذا بلغت خمسمائة فإن كانت أقل من خمسمائة ففي أموالهم ; لأن ما دون الخمسمائة في معنى ضمان المال ، والإتلاف الموجب للمال يتحقق من هؤلاء كما يتحقق من العقلاء البالغين فأما الخمسمائة فصاعدا فهي على عاقلتهم العمد ، والخطأ في ذلك سواء .

بلغنا أن مجنونا سعى على رجل بسيف فضربه فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فجعله على عاقلته ، وقال : عمده وخطؤه سواء ، وهو على أحد قولي الشافعي ، وفي قوله الثاني قال : عمده عمد حتى تجب الدية عليه في ماله ; لأن العمد لغة القصد ; لأنه ضد الخطأ فمن يتحقق منه الخطأ يتحقق منه العمد إلا أنه ينبني على هذا القصد حكمان : أحدهما : القود ، والآخر الدية في ماله حالا ، والصبي ليس من أهل أحد الحكمين ، وهو العقوبة ; لأن ذلك ينبني على الخطاب ، وهو غير مخاطب ، وهو من أهل الحكم الآخر ، وهو وجوب الضمان في ماله كما في غرامات الأموال فيلزمه ذلك بمنزلة فعل السرقة يتعلق به حكمان : أحدهما : عقوبة ، وهي القطع ، والصبي ليس بأهل له ، والآخر : غرامة وهو الضمان ، والصبي أهل لذلك فيسوى بالبالغ .

وحجتنا في ذلك : أن العمد في باب القتل ما يكون محظورا محضا ولهذا علق الشرع به ما هو عقوبة محضة ; لقوله : عليه السلام { العمد قود } ، وفعل الصبي لا يوصف بذلك ; لأنه ينبني على الخطاب فلا يتحقق منه العمد شرعا في باب القتل .

والثاني : أن العمد عبارة عن قصد معتبر في الأحكام شرعا فأصل القصد يتحقق من البهيمة ، ولا يوصف فعلها بالعمدية ، وقصد الصبي كذلك ; لأنه غير صالح لبناء أحكام الشرع عليه فاعتبار قصده شرعا فيما ينفعه لا فيما يضره ، ولهذا كان عمده بمنزلة الخطأ دون خطأ البالغ ; لأن البالغ انعدم منه القصد مع [ ص: 87 ] قيام الأهلية للقصد المعتبر شرعا ، وفي حق الصبي .

والمجنون انعدمت الأهلية لذلك ثم خطأ البالغ إنما كان على عاقلته لمعنى النظر ، والتخفيف على القاتل بعذر الخطأ ، والصبي في ذلك أقوى من صفة الخطأ ; ولكون فعل الصبي دون خطأ البالغ في الحكم قلنا : لا يلزمه الكفارة بالقتل ، ولا يحرم الميراث على ما يأتيك بيانه .

وإذا ضرب الرجل بطن المرأة فألقت جنينا ميتا ففيه غرة عبد أو أمة يعدل ذلك بخمسمائة ، والغرة عند بعض أهل اللغة المملوك الأبيض ومنه غرة الفرس وهو البياض الذي على جبينه ، ومنه قوله عليه السلام : { أمتي غر محجلون يوم القيامة } وعند بعضهم الغرة الجيد يقال : هو غرة القبيلة أي كبير أهلها ثم القياس في الجنين أحد شيئين إما أن لا يجب فيه شيء ; لأنه لم تعرف حياته وفعل القتل لا يتحقق إلا في محل هو حي ، والضمان بالشك لا يجب ، ولا يقال الظاهر أنه حي أو معد للحياة ; لأن الظاهر حجة لدفع الاستحقاق دون الاستحقاق به وبهذا لا يجب في جنين البهيمة إلا نقصان الأم إن تمكن فيها نقصان ، وإن لم يتمكن لا يجب شيء .

والقياس أن يجب كمال الدية ; لأن الضارب منع حدوث منفعة الحياة فيه فيكون كالمزهق للحياة فيما يلزمه من البدل كولد المغرور فإنه حر بالقيمة لهذا المعنى ، وهو أنه منع حدوث الرق فيه ثم الماء في الرحم ما لم يفسد فهو معد للحياة فيجعل كالحي في إيجاب الضمان بإتلافه كما يجعل بيض الصيد في حق المحرم كالصيد في إيجاب الجزاء عليه بكسره ، ولكنا تركنا القياس بالسنة وهو حديث حمل بن مالك كما روينا وروي أن عمر رضي الله عنه خوصم إليه في إملاص المرأة فقال أنشدكم بالله هل سمع أحد منكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئا فقدم المغيرة بن شعبة وروى حديث الضرتين فقال عمر من يشهد معك فشهد معه محمد بن سلمة بمثل ذلك فقال عمر رضي الله عنه لقد كدنا أن نقضي ما رأينا فيما فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قضى بالغرة .

وعن عبد الرحمن بن فليح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { في الجنين غرة عبد أو أمة } قيمته خمسمائة ثم هذه الآثار دليل لنا على أن الدية تتقدر بعشرة آلاف ; لأن بدل الجنين بالاتفاق نصف عشر الدية ، وقد قدر ذلك بخمسمائة فعرفنا أن جميع الدية عشرة آلاف ، وفيه دليل على أن الحيوان لا يثبت دينا في الذمة ثبوتا صحيحا بل باعتبار صفة المالية ; لأنه كما أوجب في الجنين عبدا أو أمة نص على مقدار المالية ، وهو خمسمائة ، وفيه دليل أن الواجب بدل نفس الجنين ، وأن الأصل في الأبدال المقدرة النفوس ، وأن ما يجب في بدل الجنين بمنزلة ما يجب في بدل المنفصل حيا ; لأنه قضى بذلك على العاقلة [ ص: 88 ] ولهذا قال عامة العلماء : إن بدل الجنين يكون موروثا عنه لورثته إلا أن الضارب إن كان أباه لم يرث شيئا ; لأنه قاتل .

وقال الليث بن سعد يكون لأمه ; لأنه في حكم جزء من أجزائها ، والدليل عليه أنه يكون مؤجلا في سنة ، وبدل الطرف هو الذي يتأجل في سنة ، وأما بدل النفس فيكون في ثلاث سنين قل أو كثر كما لو اشترك عشرون رجلا في قتل رجل يجب على كل واحد منهم نصف عشر الدية في ثلاث سنين .

وحجتنا في ذلك قوله عليه السلام { دوه } أي أدوا ديته فقد جعله في حكم النفوس وسمي الواجب في بدله دية ، وهو : اسم لبدل النفس ، والدليل عليه أن بدل الجزء لا يجب بدون بقاء النقصان حتى لو قلع سنا فنبت مكانه سن أخرى لم يجب شيء ، وهاهنا يجب بدل الجنين ، وإن لم يكن في الأم نقصان دل أن وجوبه باعتبار معنى النفسية ، وبدل النفس يكون موروثا عن صاحبها ، وهي في الحقيقة نفس مودعة في الأم حتى تنفصل عنها حية فالجناية عليها قبل الانفصال معتبرة بالجناية عليها بعد الانفصال إلا أنه من وجه نسبة الجزء فلا يثبت من التأجيل فيه القدر المتيقن به ، وعلى الأصل قلنا لا تجب الكفارة على الضارب إلا أن يتبرع بها احتياطا هكذا نقل عن محمد رحمه الله ، وعند الشافعي تجب الكفارة ; لأنه في حكم النفوس ، وإتلاف النفس موجب الكفارة ، ولكنا نقول : هو جزء من وجه ، واعتبار صفة الجزئية يمنع وجوب الكفارة ، ومع الشك لا تجب الكفارة ، ولكن اعتبار معنى الجزئية لا يمنع وجوب الضمان فأوجبنا الضمان ، وألحقناه في ذلك بالنفوس ثم وجوب الكفارة بطريق السكر حيث سلم الشرع نفسه له فلم يلزمه القود بعذر الخطأ كما بينا وذلك لا يوجد هاهنا فإتلاف الجنين لا يوجب القصاص بحال فلهذا لا يلزمه الكفارة .

ومذهب الشافعي لا يستقر على شيء في الجنين ; لأنه يجعله في حكم الكفارة كالنفوس ثم يقول : البدل الواجب فيه معتبر بأمه لا بنفسه حتى يكون الواجب عشر بدل الأم ، وعندنا هو معتبر بنفسه ، وإنما تبين ذلك في جنين الأمة فالواجب عندنا نصف عشر قيمته إن كان ذكرا وعشر قيمته إن كانت أنثى ، وعند الشافعي الواجب عشر قيمة الأم ذكرا كان أو أنثى قال : لأنه إنما يجب البدل باعتبار معنى الجزئية دون النفسية .

( ألا ترى ) أنه يتنصف بالأنوثة ; وهذا لأن اعتبار النفسية في الجنين ليس يبنى على سبب معلوم حقيقة فلا يجب المصير إليه عند الضرورة ، وذلك في حكم الكفارة ; لأنها لا تجب باعتبار معنى الجزئية ، فأما في حكم البدل لا ضرورة فإيجابه ممكن باعتبار الجزئية ، وهي معلومة حقيقة فكان الواجب عشر دية الأم إذا ثبت هذا في جنين الحرة فكذلك في جنين [ ص: 89 ] الأمة .

; لأن القيمة في حق المماليك كالدية في حق الأحرار ، وفيما ذهبتم إليه تفضل الأنثى على الذكر في ضمان الجنايات ، ولكنا نقول : الجنين في حكم البدل بمنزلة النفوس حتى يكون بدله موروثا عنه ، وذلك يختص ببدل النفس ، وبدل النفس يعتبر بحال صاحب النفس ، والدليل عليه أن جنين أم الولد من المولى يجب فيه الغرة ، ولو كان الوجوب باعتبار صفة الأم لم يجب ; لأنها مملوكة ، وكذلك النصرانية إذا كانت في بطنها جنين من زوج مسلم فيضرب إنسان بطنها يلزمه الغرة ، ولو كان المعتبر حالها لم يجب على أصله ; لأن دية النصرانية عنده على الثلث من دية المسلم ، وكذلك لو كانت مجوسية ، وما في بطنها مسلم بإسلام أبيه فثبت أن المعتبر حاله بنفسه إلا أنه يسوي بين الذكور ، والإناث ; لأنه يتعذر في الجنين التمييز بين الذكر ، والأنثى خصوصا قبل أن يتم خلقه ، فإن وجوب البدل لا يختص بما بعد تمام الخلقة وكما لا يجوز تفضل الأنثى على الذكر في ضمان الجنايات لا تجوز التسوية باعتبار الأصل ثم جازت التسوية هاهنا بالاتفاق ، فكذلك التفضل ; وهذا لأن الوجوب قطع التسوية لا باعتبار صفة المالكية ; لأنه لا مالكية في الجنين .

والأنثى في معنى النشو يسوى بالذكر وربما يكون الأنثى أسرع نشوا كما بعد الانفصال فلهذا جوزنا تفضيل الأنثى على الذكر ثم وجوب البدل في جنين الأمة قول أبي حنيفة ومحمد ، وهو الظاهر من قول أبي يوسف وعنه في رواية أنه لا يجب إلا نقصان الأم إن تمكن فيها نقص ، وإن لم يتمكن لا يجب فيها شيء كما في جنين البهيمة ، ولكنا نقول : وجوب بدل جنين الآدمية ; لتحقيق معنى الصيانة عن الهدر وجنين الأمة في ذلك كجنين الحرة ، وهذه المسألة في الحقيقة تنبني على اختلافهم في ضمان الجناية على المماليك فإن عند أبي يوسف هو بمنزلة ضمان المال يجب بالغا ما بلغ ، وعند أبي حنيفة ومحمد هو بدل عن النفس ، ولهذا لا يزاد على مقدار الدية بحال على ما يأتيك بيانه .

وإن خرج الجنين حيا بعد الضربة ثم مات ففيه الدية كاملة ; لأنه لما انفصل حيا كان نفسا من كل وجه ، وقتل النفس المؤمنة يوجب الدية ، والكفارة قال الله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } ولو قتلت الأم ثم خرج الجنين بعد ذلك منها ميتا ففي الأم الدية ، ولا شيء في الجنين عندنا ، وعلى قول الشافعي تجب الغرة في الجنين ; لأن في إتلاف الجنين لا فرق بين أن ينفصل ميتا ، وهي حية أو ، وهي ميتة وقد تبين أن الضارب أتلف بفعله نفسين فيلزمه بدل كل واحد منهما ، ولكنا إنما أوجبنا البدل في الجنين بالنص بخلاف القياس .

وورود النص به فيما إذا انفصل منها ، وهي حية ; لأنه [ ص: 90 ] قال فألقت جنينا ميتا ، وإنما أضاف الإلقاء إليها إذا كانت حية فبقي ما إذا انفصل بعد موتها على أصل القياس ثم يتمكن الاشتباه في هلاكه إذا انفصل بعد موتها فربما كان ذلك بالضربة وربما كان بانحباس نفسه بهلاكها ، ومع اشتباه السبب لا يجب الضمان بخلاف ما إذا كانت حية حين انفصل الجنين ميتا عنها ثم هذا على أصل أبي حنيفة ظاهر ; لأنه لا يجعل ذكاة الأم ذكاة الجنين فكذلك لا يجعل قتل الأم قتلا للجنين والشافعي جعل ذكاة الأم ذكاة الجنين فكذلك يجعل قتل الأم قتلا للجنين وأبو يوسف ومحمد قالا : القياس ما قاله أبو حنيفة ولكنا تركنا ذلك في حكم الذكاة بالسنة ; ولأن الذكاة تنبني على الوسع فبقي القياس معتبرا في حكم القتل فلا يكون قتل الأم قتلا للجنين ، وإن كان في بطنها جنينان فخرج أحدهما قبل موتها ، وخرج الآخر بعد موتها ، وهما ميتان ففي الذي خرج قبل موتها خمسمائة درهم ، وليس في الذي خرج بعد موتها شيء اعتبارا لكل واحد منهما بما لو كان وحده ; وهذا لأنه لا سبب لموت الذي خرج قبل موتها سوى الضربة ، واشتبه السبب في الذي خرج بعد موتها ، ومع اشتباه السبب لا يجب الضمان ثم الذي خرج قبل موتها ميتا لا يرث من دية أمه ; لأن شرط التوريث بقاء الوارث حيا بعد موت المورث ، ولها ميراثها منه ; لأنها كانت حية بعدما وجب بدل هذا الجنين بانفصاله ميتا فلها ميراثها منه ، وإن كان الذي خرج بعد موتها خرج حيا ثم مات ففيه الدية أيضا ; لأن الاشتباه زال حين انفصل حيا ، وقد مات بالضربة بعدما صار نفسا من كل وجه فتجب فيه الدية كاملة ، وله ميراثه من دية أمه ومما ورثت أمه من أخيه ، وإن لم يكن لأخيه أب حي فله ميراثه من أخيه أيضا ; لأنه كان حيا بعد موتهما فيكون له الميراث منهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية