الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فأما المستأمن إذا قتل مستأمنا ففي وجوب القصاص على المسلم بقتل المستأمن قياس ، أو استحسان في القياس يلزمه القصاص ذكره في هذا الكتاب ، وهو رواية أحمد بن عمران أستاذ الطحاوي عن أصحابنا ورواه ابن سماعة عن أبي يوسف ، فقالوا : ما ذكره في السير بناء على جواب القياس أن الشبهة المبيحة عن الدم تنفى بعقد الأمان فلا جرم يجب القصاص بقتله على المستأمن ، والمسلم جميعا فأما على جواب الاستحسان فيقول بقيت الشبهة المبيحة في دمه ، وهو كونه حربيا ; لأنه ممكن من الرجوع إلى دار الحرب فجعل في الحكم كأنه في دار الحرب فلا يجب القصاص بقتله على أحد سواء كان القاتل مستأمنا أو ذميا ، أو مسلما ولأن الذمي محقون الدم على التأبيد فيجب القصاص بقتله على المسلم كالمسلم وتحقيقه أن القصاص يعتمد المساواة في الحياة ; لأنه إزهاق الحياة ، وهو مشروع لحكمة الحياة ، وإنما تتحقق المساواة في ذلك شرعا لوجود التساوي في حقن الدم وقد وجد ذلك بين المسلم ، والذمي فإن حقن كل واحد منهما مؤبد بسبب مشروع ، وهو عقد الذمة [ ص: 134 ] خلف عن الإسلام في معنى الحقن ، والخلف يعمل عمل الأصل عند عدم الأصل وهذا الحقن ، والتقوم إنما يثبت بالإحراز ، والإحراز يكون بالدار لا بالدين ; لأن الإحراز بالدين إنما يكون في حق من يعتقده فأما الإحراز بقوة أهل الدار فيكون في حق الكل ، والذمي في الإحراز مساو للمسلم ; لأنه من أهل دارنا حقيقة وحكما .

والدليل عليه أن الإحراز يؤثر في المال ، والنفس جميعا ، ثم في المال إحراز الذمي كإحراز المسلم حتى يجب القطع بسرقة مال الذمي وحد السرقة أقرب إلى السقوط عند تمكن الشبهة من القصاص ولا يدخل عليه المقضي عليه بالرجم ; لأنا لا نقول يباح قتله لنقصان في إحراز كل جزء على جريمته فأما الإحراز فقائم في المال ، والنفس جميعا وهاهنا إن سلم لنا أن الإحراز في حق المسلم والذي سواء يتضح الكلام فإنه لا يمكنه أن يدعي بعد ذلك بقاء الشبهة بسبب إصراره على الكفر ; لأن المبيح كان هو القتال دون الكفر كما قال الله تعالى { ، فإن قاتلوكم فاقتلوهم } ولما { رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مقتولة قال : هاه ما كانت هذه تقاتل فلم قتلت } ، والقتال ينعدم بالإحراز في حق الذمي أصلا كما ينعدم في حق المسلم ، وقد قررنا هذا في السير ، وإذا ثبت انتفاء الشبهة ، والمساواة في الإحراز ثبتت المساواة بينهما في حكم القصاص فلا يجوز أن تكون فضيلة الإسلام في القاتل مانعا ; لأن طريان هذه الفضيلة لا تمنع الاستيفاء فلو كان اقترانها بالسبب يمنع الوجوب لكان طريانها يمنع الاستيفاء كفضيلة الأبوة وفضيلة الإسلام في المنكوحة فإنه لما كان يمنع ابتداء النكاح عليها للكافر يمنع الوطء إذا طرأ بعد النكاح .

فأما المسلم إذا قتل مستأمنا فلا قصاص عليه على طريق الاستحسان لانعدام المساواة في الإحراز ، فالمستأمن غير محرز نفسه بدار الإسلام على التأبيد ; ولهذا لا يوجب القطع بسرقة ماله لبقاء الشبهة المبيحة وهي المحاربة فإنه ممكن من أن يرجع إلى دار الحرب فيعود حربيا للمسلمين وبهذا الطريق نقول لا يقتل الذمي بالمستأمن أيضا خلافا للشافعي ; لأن الذمي محرز نفسه بدارنا على التأبيد فلا تتحقق المساواة بينه وبين المستأمن فأما الآيات في نفي المساواة بين الكفار ، والمؤمنين ، فالمراد بها في أحكام الآخرة وذلك مبين في آخر كل آية وأما قوله عليه السلام { المسلمون تتكافأ دماؤهم } فمن أصلنا أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه فلا يكون هذا بيان أن دماء غير المسلمين لا تكافئ دماء المسلمين وأما قوله عليه السلام { لا يقتل مؤمن بكافر } ، فهو غير مجرى على ظاهره بالاتفاق ; لأن القاتل إذا أسلم يقتل قصاصا وفيه قتل مؤمن بكافر ، ثم المراد به الحربي يعني من لا يحل قتله من أهل الحرب كالنساء ، والصبيان فإنه لا يقتل [ ص: 135 ] المؤمنون بهم بدليل قوله { ولا ذو عهد في عهده } أي ولا يقتل ذو العهد بالكافر ، وإنما لا يقتل ذو العهد بالكافر الحربي ، فإن قيل هذا ابتداء أي لا يقتل ذو العهد في مدة عهده قلنا ابتداء الواو حقيقة للعطف خصوصا فيما لا يكون مستقلا بنفسه ، فإن قيل قد روي ولا بذي عهد فيفهم منه أن المؤمن لا يقتل بذي العهد قلنا إن ثبتت هذه الرواية فهي محمولة على المستأمن وبه نقول إن المسلم لا يقتل بالمستأمن ، وكذلك لو اجتمع نفر من المسلمين على قتل ذمي قتلوا به ; لأنهم في حكم القصاص كالمسلمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية