الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 160 ] وإن ادعى القاتل العفو على الورثة ولا بينة له حلف الوارث على ذلك ; لأنه يدعي عليه ما لو أقر به لزمه ، فإن حلف أحد بالقصاص لا يحلف ، بل بالقتل السابق ، ولكن يحلفه كما انتفى ما ادعاه من العفو ، وإن نكل عن اليمين بطل حقه ; لأن نكوله كإقراره ولشركائه حصتهم من الدية كما لو أقر الناكل العفو .

وإن شهد شاهدان للقاتل أنه صالح على الدية ، وأنهما كفلا عنه بعد ذلك في غير صلح ، والولي منكر لذلك لم تجز شهادتهما إن ذكرا أن الكفالة كانت في الصلح ; لأن الصلح المشروط فيه كفالة الكفيل بعينه لا يتم إلا بقبوله فإنما يشهدان على عقد تم بهما ، وهو الصلح الذي تم بكفالتهما فيكون هذا شهادة على فعل أنفسهما فلا تقبل ، وإن ذكرا أنها بعد الصلح فشهادتهما على الصلح جائزة ; لأنهما أجنبيان لا تهمة في شهادتهما ويؤخذان بالكفالة بإقرارهما على أنفسهما ولا يرجعان بذلك على الذي كفلا عنه إلا أن يكون أمرهما بذلك ; لأن الكفيل بغير الأمر متبرع فيما يلزم ويؤدي ، وإن ادعى الولي شهادتهما وجحد ذلك القاتل جازت شهادتهما على أنفسهما ; لأن القود قد سقط بدعوى الولي الصلح ، وقد أقر بوجوب المال عليهما وعلى القاتل ويلزمهما ما أقرا به على أنفسهما ولا يرجعان على القاتل بشيء ; لأن إقرارهما ليس بحجة عليه .

وإذا شهد شاهدان على العفو وقضى القاضي ، ثم رجعا فلا ضمان عليهما ; لأن القود ليس بمال ، والشاهد عند الرجوع إنما يضمن ما أتلف من المال بشهادته فأما ما ليس بمال فيما هو مبتذل لا يكون مضمونا بالمال عند الإتلاف ، وقد بينا هذا في الرجوع عن الشهادات ، وإن لم يقض القاضي بشهادتهما حتى رجعا ، فالقصاص كما هو على حاله ; لأن الشهادة لا توجب شيئا ما لم يتصل بها القضاء ، فإذا لم يقض القاضي هاهنا لم يسقط القود فانعدم المانع من استيفاء القود واختلاف شهود العفو في الوقت ، والمكان لا يمنع قبول الشهادة ; لأن العفو قول يعاد ويكرر فيكون الثاني هو الأول ولو شهدا على أحد الورثة بالعفو ولم يعرفوا أنه هو فشهادتهما باطلة ; لأن المشهود عليه مجهول وجهالته تمنع القاضي من القضاء بالشهادة فيبقى القصاص كما كان ولو شهد أحدهما أنه عفا على ألف درهم وشهد الآخر أنه عفا على غير جعل ، فالشهادة باطلة لاختلافهما في المشهود به ، وهو نظير الطلاق ، والعتاق إذا اختلف الشاهدان فيه بهذه الصفة ، وكذلك إن شهد أحدهما بالصلح بألف والآخر بخمسمائة ; لأن القاتل لا بد أن يدعي شهادة أحدهما ، وهو الذي شهد بخمسمائة فيكون مكذبا شهادة الآخر ، وهو شهادة من شهد بألف ، وإن لم يدعه القاتل وادعاه ولي الدم ، فقد جاز العفو بإقرار الولي بسقوط حقه في القود ، ثم لا يقضي بشيء من المال [ ص: 161 ] عند أبي حنيفة لما ذكرنا أن المدعي مكذب أحد الشاهدين وعندهما يقبل في الأقل ; لأن مدعي ألف مدع بخمسمائة ضرورة فهذا بمنزلة اختلافهم في دعوى المال مطلقا .

وكذلك إن شهد أحدهما بالصلح على عبد والآخر بالصلح على ألف درهم ; لأن كل واحد منهما شهد بعقد آخر ، والمدعي لا بد أن يدعي أحد العقدين فيكون مكذبا شهادة الآخر .

التالي السابق


الخدمات العلمية