[ ص: 8 ] فصل 
في أن نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - معجزتها القرآن  
الذي يوجب الاهتمام التام بمعرفة إعجاز القرآن ، أن نبوة نبينا - عليه السلام - بنيت على هذه المعجزة ، وإن كان قد أيد بعد ذلك بمعجزات كثيرة . إلا أن تلك المعجزات قامت في أوقات خاصة ، وأحوال خاصة ، وعلى أشخاص خاصة . ونقل بعضها نقلا متواترا يقع به العلم وجودا . وبعضها مما نقل نقلا خاصا ، إلا أنه حكي بمشهد من الجمع العظيم وأنهم شاهدوه ، فلو كان الأمر على خلاف ما حكي لأنكروه ، أو لأنكره بعضهم ، فحل محل المعنى الأول ، وإن لم يتواتر أصل النقل فيه . وبعضها مما نقل من جهة الآحاد ، وكان وقوعه بين يدي الآحاد . 
فأما دلالة القرآن فهي عن معجزة عامة ، عمت الثقلين ، وبقيت بقاء العصرين . ولزوم الحجة بها في أول وقت ورودها إلى يوم القيامة على حد واحد ، وإن كان قد يعلم بعجز أهل العصر الأول عن الإتيان بمثله - وجه دلالته ، فيغني ذلك عن نظر مجدد في عجز أهل هذا العصر عن الإتيان بمثله . وكذلك قد يغني عجز أهل هذا العصر عن الإتيان بمثله ، عن النظر في حال أهل العصر الأول . 
وإنما ذكرنا هذا الفصل ، لما حكي عن " بعضهم " أنه زعم أنه وإن كان قد عجز عنه أهل العصر الأول فليس أهل هذا العصر بعاجزين عنه ، ويكفي عجز أهل العصر الأول في الدلالة ، لأنهم خصوا بالتحدي دون غيرهم . 
 [ ص: 9 ] ونحن نبين خطأ هذا القول في موضعه ، إن شاء الله . 
فأما الذي يبين ما ذكرناه من أن الله تعالى حين ابتعثه جعل معجزته القرآن ، وبنى أمر نبوته عليه - فسور كثيرة وآيات نذكر بعضها ، وننبه بالمذكور على غيره ، فليس يخفى بعد التنبيه على طريقه . 
فمن ذلك قوله تعالى : الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد  فأخبر أنه أنزله ليقع الاهتداء به ، ولا يكون كذلك إلا وهو حجة ، ولا يكون حجة إن لم يكن معجزة . 
وقال - عز وجل - : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله  فلولا أن سماعه إياه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه . ولا يكون حجة إلا وهو معجزة . 
وقال - عز وجل - : وإنه لتنزيل رب العالمين  نزل به الروح الأمين  على قلبك لتكون من المنذرين   . وهذا بين جدا فيما قلناه ، من أنه جعله سببا لكونه منذرا . ثم أوضح ذلك بأن قال : بلسان عربي مبين   . فلولا أن كونه بهذا اللسان حجة ، لم يعقب كلامه الأول به . 
وما من سورة افتتحت بذكر الحروف المقطعة إلا وقد أشبع فيها بيان ما قلناه . ونحن نذكر بعضها لتستدل بذلك على ما بعده . 
وكثير من هذه السور إذا تأملته فهو من أوله إلى آخره مبني على لزوم حجة القرآن ، والتنبيه على وجه معجزته . 
فمن ذلك سورة المؤمن . قوله - عز وجل - : حم  تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم   . ثم وصف نفسه بما هو أهله من قوله تعالى : غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير  ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في  [ ص: 10 ] البلاد  فدل على أن الجدال في تنزيله كفر وإلحاد . 
ثم أخبر بما وقع من تكذيب الأمم برسلهم ، بقوله - عز وجل - : كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق  فتوعدهم بأنه آخذهم في الدنيا بذنبهم في تكذيب الأنبياء . 
ورد براهينهم فقال تعالى : فأخذتهم فكيف كان عقاب   . 
ثم توعدهم بالنار ، فقال تعالى : وكذلك حقت كلمت ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار   . 
ثم عظم شأن المؤمنين بهذه الحجة ، بما أخبر من استغفار الملائكة لهم ، وما وعدهم عليه من المغفرة ، فقال تعالى : الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم   . فلولا أنه برهان قاهر لم يذم الكفار على العدول عنه ، ولم يحمد المؤمنين على المصير إليه . 
ثم ذكر تمام الآيات في دعاء الملائكة للمؤمنين ، ثم عطف على وعيد الكافرين ، فذكر آيات ، ثم قال : هو الذي يريكم آياته   . فأمر بالنظر في آياته وبراهينه ، إلى أن قال : رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق  فجعل القرآن والوحي به كالروح ؛ لأنه يؤدي إلى حياة الأبد ، ولأنه لا فائدة للجسد من دون الروح . فجعل هذا الروح سببا للإنذار ، وعلما عليه ، وطريقا إليه . ولولا أن ذلك برهان بنفسه لم يصح أن يقع به الإنذار والإخبار عما يقع عند مخالفته ، ولم يكن الخبر عن الواقع في الآخرة عند ردهم دلالته من الوعيد - حجة ولا معلوما صدقه ، فكان لا يلزمهم قبوله . 
فلما خلص من الآيات في ذكر الوعيد على ترك القبول ، ضرب لهم  [ ص: 11 ] المثل بمن خالف الآيات ، وجحد الدلالات والمعجزات ، فقال : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم  كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق   . 
ثم بين أن عاقبتهم صارت إلى السوأى ، بأن رسلهم كانت تأتيهم بالبينات ، وكانوا لا يقبلونها منهم . فعلم أن ما قدم ذكره في السورة بينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . 
ثم ذكر قصة موسى  ويوسف   - عليهما السلام - ، ومجيئهما بالبينات ، ومخالفتهم حكمها ، إلى أن قال تعالى : الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا  كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار   . فأخبر أن جدالهم في هذه الآيات لا يقع بحجة ، وإنما يقع عن جهل ، وأن الله يطبع على قلوبهم ، ويصرفهم عن تفهم وجه البرهان . لجحودهم وعنادهم واستكبارهم . 
ثم ذكر كثيرا من الاحتجاج على التوحيد ، ثم قال تعالى : ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون   . 
ثم بين هذه الجملة ، وإن من آياته الكتاب ، فقال : الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون   . إلى أن قال : وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله   . 
فدل على أن الآيات على ضربين : أحدهما كالمعجزات التي هي أدلة في دار التكليف ، والثاني الآيات التي ينقطع عندها العذر ، ويقع عندها العلم الضروري ، وأنها إذا جاءت ارتفع التكليف ، ووجب الإهلاك . إلى أن قال تعالى : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا   . فأعلمنا أنه قادر على هذه الآيات ، ولكنه إذا أقامها زال التكليف ، وحقت العقوبة على الجاحدين . 
 [ ص: 12 ] وكذلك ذكر في " حم " السجدة على هذا المنهاج الذي شرحنا ، فقال - عز وجل - : حم  تنزيل من الرحمن الرحيم  كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون  بشيرا ونذيرا  فلولا أنه جعله برهانا لم يكن بشيرا ولا نذيرا ، ولم يختلف بأن يكون عربيا مفصلا أو بخلاف ذلك . 
ثم أخبر عن جحودهم وقلة قبولهم ، بقوله تعالى : فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون   . ولولا أنه حجة لم يضرهم الإعراض عنه . 
وليس لقائل أن يقول : قد يكون حجة ولكن يحتاج في كونه حجة إلى دلالة أخرى ، كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حجة ، ولكنه يحتاج إلى دلالة على صدقه ، وصحة نبوته . 
وذلك : أنه إنما احتج عليهم بنفس هذا التنزيل ، ولم يذكر حجة غيره . 
ويبين ذلك : أنه قال عقيب هذا : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي   . فأخبر أنه مثلهم لولا الوحي . 
ثم عطف عليه بحمد المؤمنين به المصدقين له ، فقال : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون   . ومعناه : الذين آمنوا بهذا الوحي والتنزيل ، وعرفوا هذه الحجة . 
ثم تصرف في الاحتجاج على الوحدانية والقدرة ، إلى أن قال : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود   . فتوعدهم بما أصاب من قبلهم من المكذبين بآيات الله من قوم عاد  وثمود  في الدنيا . ثم توعدهم بأمر الآخرة ، فقال : ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون  ، إلى انتهاء ما ذكره فيه . 
ثم رجع إلى ذكر القرآن ، فقال : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون   . 
 [ ص: 13 ] ثم أثنى بعد ذلك على من تلقاه بالقبول ، فقال : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا   . ثم قال : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم   . 
وهذا ينبه على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرف إعجاز القرآن ، وأنه دلالة له على جهة الاستدلال ، لأن الضروريات لا يقع فيها نزغ الشيطان . ونحن نبين ما يتعلق بهذا الفصل في موضعه . 
ثم قال : إن الذين يلحدون في آياتنا  ، إلى أن قال : إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز  لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه   . وهذا وإن كان متأولا على أنه لا يوجد فيه غير الحق مما يتضمنه من أقاصيص الأولين وأخبار المرسلين ، وكذلك لا يوجد خلف فيما يتضمنه من الأخبار عن الغيوب وعن الحوادث التي أنبأ أنها تقع في الآتي - فلا يخرج عن أن يكون متأولا على ما يقتضيه نظام الخطاب ، من أنه لا يأتيه ما يبطله من شبهة سابقة تقدح في معجزته أو تعارضه في طريقه . وكذلك لا يأتيه من بعده قط أمر يشكك في وجه دلالته وإعجازه . وهذا أشبه بسياق الكلام ونظامه . 
ثم قال : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي  فأخبر أنه لو كان أعجميا لكانوا يحتجون في رده : إما بأن ذلك خارج عن عرف خطابهم ، أو كانوا يعتذرون بذهابهم عن معرفة معناه ، وبأنهم لا يبين لهم وجه الإعجاز فيه . لأنه ليس من شأنهم ولا من لسانهم ، أو بغير ذلك من الأمور ، وأنه إذا تحداهم إلى ما هو من لسانهم وشأنهم فعجزوا عنه - وجبت الحجة عليهم به ، على ما نبينه في وجه هذا الفصل . إلى أن قال : قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد   . 
 [ ص: 14 ] والذي ذكرناه من نظم هاتين السورتين ينبه على غيرهما من السور ، فكرهنا سرد القول فيها . فليتأمل المتأمل ما دللناه عليه يجده كذلك . 
ثم مما يدل على هذا قوله - عز وجل - : وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين  أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم  فأخبر أن الكتاب آية من آياته ، وعلم من أعلامه ، وأن ذلك يكفي في الدلالة ، ويقوم مقام معجزات غيره وآيات سواه من الأنبياء ، صلوات الله عليهم . 
ويدل عليه قوله - عز وجل - : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا  الذي له ملك السماوات والأرض   . 
ويدل عليه قوله : أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته   . 
فدل على أنه جعل قلبه مستودعا لوحيه ، ومستنزلا لكتابه ، وأنه لو شاء صرف ذلك عنه إلى غيره . وكان له حكم دلالته على تحقيق الحق ، وإبطال الباطل مع صرفه عنه . ولذلك أشباه كثيرة تدل على نحو الدلالة التي وصفناها . 
فبان بهذا وبنظائره ما قلناه ، من أن بناء نبوته - صلى الله عليه وسلم - على دلالة القرآن ومعجزته ، وصار له من الحكم في دلالته على نفسه وصدقه أنه يمكن أن يعلم أنه كلام الله تعالى ، وفارق حكمه حكم غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء ؛ لأنها لا تدل على أنفسها إلا بأمر زائد عليها ، ووصف منضاف إليها ؛ لأن نظمها ليس معجزا ، وإن كان ما تتضمنه من الإخبار عن الغيوب معجزا . 
وليس كذلك القرآن ؛ لأنه يشاركها في هذه الدلالة ، ويزيد عليها  [ ص: 15 ] في أن نظمه معجز ، فيمكن أن يستدل به عليه ، وحل في هذا من وجه محل سماع الكلام من القديم - سبحانه وتعالى - ؛ لأن موسى   - عليه السلام - لما سمع كلامه علم أنه في الحقيقة كلامه . 
وكذلك من يسمع القرآن يعلم أنه كلام الله ، وإن اختلف الحال في ذلك من بعض الوجوه ؛ لأن موسى   - عليه السلام - سمعه من الله - عز وجل - ، وأسمعه نفسه متكلما ، وليس كذلك الواحد منا . وكذلك قد يختلفان في غير هذا الوجه ، وليس ذلك قصدنا بالكلام في هذا الفصل . 
والذي نرومه الآن ما بيناه من اتفاقهما في المعنى الذي وصفناه ، وهو : أنه - عليه السلام - يعلم أن ما يسمعه كلام الله من جهة الاستدلال ، وكذلك نحن نعلم ما نقرؤه من هذا على جهة الاستدلال . 
				
						
						
