ومن كلام - رضي الله عنه - علي بن أبي طالب
قال : لما قبض - رضي الله عنه - ارتجت أبو بكر المدينة بالبكاء ، كيوم قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وجاء باكيا مسترجعا ، وهو يقول : اليوم انقطعت خلافة النبوة ، حتى وقف على باب البيت الذي فيه علي ؛ فقال : أبو بكر
رحمك الله ؛ كنت إلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنسه ، وثقته وموضع سره ؛ كنت أول القوم إسلاما ، وأخلصهم إيمانا ، وأشدهم يقينا ، وأخوفهم لله ، وأعظمهم غناء في دين الله ، وأحوطهم على رسول الله ، وأثبتهم على الإسلام ، وأيمنهم على أصحابه ، وأحسنهم صحبة ، وأكثرهم مناقب ، وأفضلهم سوابق ، وأرفعهم درجة ، وأقربهم وسيلة ، وأشبههم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - سننا وهديا ، ورحمة وفضلا ؛ وأشرفهم منزلة ، وأكرمهم عليه ، وأوثقهم عنده . أبا بكر
[ ص: 144 ] فجزاك الله عن الإسلام وعن رسوله خيرا ؛ كنت عنده بمنزلة السمع والبصر .
صدقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كذبه الناس ، فسماك في تنزيله صديقا ، فقال : والذي جاء بالصدق وصدق به .
واسيته حين بخلوا ، وقمت معه عند المكاره حين قعدوا ، وصحبته في الشدائد أكرم الصحبة ، ثاني اثنين وصاحبه في الغار ، والمنزل عليه السكينة والوقار ؛ ورفيقه في الهجرة ، وخليفته في دين الله وفي أمته - أحسن الخلافة - حين ارتد الناس ، فنهضت حين وهن أصحابك ، وبرزت حين استكانوا ، وقويت حين ضعفوا ، وقمت بالأمر حين فشلوا ، ونطقت حين تتعتعوا ؛ مضيت بنور إذ وقفوا ، واتبعوك فهدوا .
وكنت أصوبهم منطقا ، وأطولهم صمتا ، وأبلغهم قولا ، وأكثرهم رأيا ، وأشجعهم نفسا ، وأعرفهم بالأمور ، وأشرفهم عملا .
كنت للدين يعسوبا ، أولا : حين نفر عنه الناس ؛ وآخرا : حين قفلوا ؛ وكنت للمؤمنين أبا رحيما ؛ إذ صاروا عليك عيالا ، فحملت أثقال ما ضعفوا عنه ، ورعيت ما أهملوا ، وحفظت ما أضاعوا ؛ شمرت إذ خنعوا ، وعلوت إذ هلعوا ، وصبرت إذ جزعوا ؛ وأدركت أوتار ما طلبوا ؛ وراجعوا رشدهم برأيك فظفروا ، ونالوا بك ما لم يحتسبوا .
وكنت كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أمن الناس عليه في صحبتك وذات يدك ؛ وكنت كما قال : ضعيفا في بدنك ، قويا في أمر الله ، متواضعا في نفسك ، عظيما عند الله ، جليلا في أعين الناس ، كبيرا في أنفسهم .
[ ص: 145 ] لم يكن لأحد فيك مغمز ، ولا لأحد مطمع ؛ ولا لمخلوق عندك هوادة ؛ الضعيف الذليل عندك قوي عزيز ، حتى تأخذ له بحقه ؛ والقوي العزيز عندك ضعيف ذليل ، حتى تأخذ منه الحق ؛ القريب والبعيد عندك سواء ؛ أقرب الناس إليك أطوعهم لله .
شأنك الحق والصدق والرفق ؛ وقولك حكم وحتم ، وأمرك حلم وحزم ، ورأيك علم وعزم ؛ فأبلغت وقد نهج السبيل ، وسهل العسير ؛ وأطفأت النيران ، واعتدل بك الدين ، وقوي الإيمان ، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون ؛ وأتعبت من بعدك إتعابا شديدا ، وفزت بالخير فوزا عظيما ؛ فجللت عن البكاء ، وعظمت رزيتك في السماء ؛ وهدت مصيبتك الأيام ؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون ، رضينا عن الله قضاءه ، وسلمنا له أمره ، فوالله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثلك أبدا ؛ فألحقك الله بنبيه ، ولا حرمنا أجرك ، ولا أضلنا بعدك .
وسكت الناس حتى انقضى كلامه ، ثم بكوا حتى علت أصواتهم .
* * *