في ذكر البديع من الكلام
إن سأل سائل فقال : ؟ هل يمكن أن يعرف إعجاز القرآن من جهة ما تضمنه من البديع
قيل : ذكر أهل الصنعة ومن صنف في هذا المعنى من صفة البديع ألفاظا نحن نذكرها ، ثم نبين ما سألوا عنه ، ليكون الكلام واردا على أمر مبين ، وباب مقرر مصور .
ذكروا : أن من البديع في القرآن قوله - عز ذكره - : واخفض لهما جناح الذل من الرحمة .
وقوله : وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم .
وقوله : واشتعل الرأس شيبا . وقوله : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون . وقوله : أو يأتيهم عذاب يوم عقيم . وقوله : نور على نور .
وقد يكون البديع في الكلمات الجامعة الحكيمة ، كقوله : ولكم في القصاص حياة .
وفي الألفاظ الفصيحة ، كقوله : فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا .
وفي الألفاظ الإلهية ، كقوله : وله كل شيء . وقوله : وما بكم من نعمة فمن الله . وقوله : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار .
* * *
[ ص: 67 ] ويذكرون من البديع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :
. " خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله ، كلما سمع هيعة طار إليها "
وقوله : . " ربنا تقبل توبتي ، واغسل حوبتي "
وقوله : . " غلب عليكم داء الأمم قبلكم : الحسد والبغضاء ، وهي حالقة الدين ، لا حالقة الشعر "
وقوله : . " الناس كإبل مائة ، لا تجد فيها راحلة "
وقوله : . " وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم "
وقوله : . " إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم "
وكقول - رضي الله عنه - ، في كلام له قد نقلناه بعد هذا على [ ص: 68 ] وجهه ، وقوله أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - : " احرص على الموت توهب لك الحياة " . لخالد بن الوليد
وقوله : " فر من الشرف يتبعك الشرف " .
وكقول في كتابه إلى علي بن أبي طالب ، وهو عامله على ابن عباس البصرة : " أرغب راغبهم ، واحلل عقدة الخوف عنهم " . وقوله - رضي الله عنه - حين سئل عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " - : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قال ذلك والدين في قل ، فأما وقد اتسع نطاق الإسلام ، فكل امرئ وما اختار " . غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود
وسأل - رضي الله عنه - بعض كبراء فارس ، عن أحد ملوكهم عندهم ؟ فقال : علي لأردشير فضيلة السبق ، غير أن أحمدهم أنوشروان . قال : فأي أخلاقه كان أغلب عليه ؟ قال : الحلم والأناة . فقال -رضي الله عنه - : " هما توأمان ينتجهما علو الهمة " . علي
وقال : " قيمة كل امرئ ما يحسن " .
وقال : " العلم قفل ، ومفتاحه المسألة " .
وكتب إلى مرازبة فارس: " أما بعد ؛ فالحمد لله الذي فض خدمتكم ، وفرق كلمتكم " . والخدمة : الحلقة المستديرة ، ولذلك قيل للخلاخيل : خدام . خالد بن الوليد
وقال : " دلوني على رجل سمين الأمانة " . الحجاج
ولما عقدت الرئاسة لعبد الله بن وهب الراسبي على الخوارج ، أرادوه [ ص: 69 ] على الكلام ، فقال : " لا خير في الرأي الفطير " ، وقال : " دعوا الرأي يغب " .
وقال أعرابي في شكر نعمة : " ذاك عنوان نعمة الله - عز وجل - " .
ووصف أعرابي قوما فقال : " إذا اصطفوا سفرت بينهم السهام ، وإذا تصافحوا بالسيوف قعد الحمام " .
وسئل أعرابي عن رجل ؟ فقال : " صفرت عياب الود بيني وبينه بعد امتلائها ، واكفهرت وجوه كانت بمائها " .
وقال آخر : " من ركب ظهر الباطل نزل دار الندامة " .
وقيل لرؤبة : كيف خلفت ما وراءك ؟ فقال : " التراب يابس ، والمال عابس " .
* * *
ومن البديع في الشعر طرق كثيرة . قد نقلنا منها جملة ، لتستدل بها على ما بعدها :
فمن ذلك قول امرئ القيس :
وقد أغتدي والطير في وكناتها بمنجرد قيد الأوابد هيكل
[ ص: 70 ] قوله : " قيد الأوابد " عندهم من البديع ومن الاستعارة ، ويرونه من الألفاظ الشريفة ، وعنى بذلك أنه إذا أرسل هذا الفرس على الصيد صار قيدا لها ، وكانت بحالة المقيد من جهة سرعة إحضاره .
واقتدى به الناس ، واتبعه الشعراء ، فقيل : " قيد النواظر " و " قيد الألحاظ " و " قيد الكلام " و " قيد الحديث " و " قيد الرهان " .
وقال الأسود بن يعفر :
بمقلص عتد جهيز شده قيد الأوابد والرهان جواد
لها منظر قيد الأوابد لم يزل يروح ويغدو في خفارته الحب
وقال آخر :
ألحاظه قيد عيون الورى فليس طرف يتعداه
وقال آخر :
قيد الحسن عليه الحدقا
وذكر الأصمعي وأبو عبيد وحماد ، وقبلهم أبو عمرو : أنه أحسن في هذه [ ص: 71 ] اللفظة ، وأنه اتبع فلم يلحق ، وذكروه في باب الاستعارة البليغة .
وسماها بعض أهل الصنعة باسم آخر ، وجعلوها من باب " الإرداف " ، وهو : أن يريد الشاعر دلالة على معنى فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى ، بل بلفظ هو تابع له وردف .
قالوا : ومثله قوله :
نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
وإنما أراد ترفهها بقوله : " نؤوم الضحى " .
ومن هذا الباب قول الشاعر :
بعيدة مهوى القرط إما لنوفل أبوها ، وإما عبد شمس وهاشم
وإنما أراد أن يصف طول جيدها ، فأتى بردفه .
ومن ذلك قول امرئ القيس :
وليل كموج البحر أرخى سدوله
وذلك من الاستعارة المليحة .
ويجعلون من هذا القبيل ما قدمنا ذكره من القرآن : واشتعل الرأس [ ص: 72 ] شيبا ، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة .
ومما يعدونه من البديع " التشبيه الحسن " كقول امرئ القيس :
كأن عيون الوحش حول خبائنا وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
وقوله :
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي
واستبدعوا تشبيه شيئين بشيئين على حسن تقسيم ، ويزعمون أن أحسن ما وجد في هذا للمحدثين قول : بشار
كأن مثار النقع فوق رؤوسهم وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وقد سبق امرؤ القيس إلى صحة التقسيم في التشبيه ، ولم يتمكن إلا من تشبيه إحدى الجملتين بالأخرى ، دون صحة التقسيم والتفصيل . بشار
وكذلك عدوا من البديع قول امرئ القيس في أذني الفرس :
وسامعتان يعرف العتق فيهما كسامعتي مذعورة وسط ربرب
[ ص: 73 ] اتبعه طرفة ، فقال فيه :
وسامعتان يعرف العتق فيهما كسامعتي شاة بحومل مفرد
ومثله قول امرئ القيس في وصف الفرس :
وعينان كالماويتين ومحجر إلى سند مثل الصفيح المنصب
وقال طرفة في وصف عيني ناقته :
وعينان كالماويتين استكنتا بكهفي حجاجي صخرة قلت مورد
ومن البديع في التشبيه قول امرئ القيس :
له أيطلا ظبي وساقا نعامة وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
وذلك في تشبيه أربعة أشياء بأربعة أشياء ، أحسن فيها .
* * *
ومن التشبيه الحسن في القرآن قوله تعالى : وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام . وقوله تعالى : كأنهن بيض مكنون .
ومواضع نذكرها بعد هذا .
[ ص: 74 ] ومن البديع في " الاستعارة " قول امرئ القيس :
وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازا وناء بكلكل
وهذه كلها استعارات أتى بها في ذكر طول الليل .
ومن ذلك قول : النابغة
وصدر أراح الليل عازب همه تضاعف فيه الحزن من كل جانب
فاستعاره من إراحة الراعي إبله إلى مواضعها التي تأوي إليها بالليل .
وأخذ منه ابن الدمينة فقال :
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ويجمعني والهم بالليل جامع
ومن ذلك قول زهير :
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله وعري أفراس الصبا ورواحله
ومن ذلك قول امرئ القيس :
سموت إليها بعد ما نام أهلها سمو حباب الماء حالا على حال
[ ص: 75 ] وأخذه فقال : أبو تمام
سمو عباب الماء جاشت غواربه
وإنما أراد امرؤ القيس إخفاء شخصه .
ومن ذلك قوله :
كأني وأصحابي على قرن أعفرا
يريد أنهم غير مطمئنين .
ومن ذلك ما كتب إلي ، قال : أخبرني أبي ، قال : أخبرنا الحسن بن عبد الله بن سعيد عسل بن ذكوان ، أخبرنا ، قال : سمعت أبو عثمان المازني يقول : أجمع أصحابنا أنه لم يقل أحسن ولا أجمع من قول الأصمعي : النابغة
فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
قال : وأخبرنا الحسن بن عبد الله محمد بن يحيى ، أخبرنا عون بن محمد الكندي ، أخبرنا قعنب بن محرز ، قال : سمعت يقول : سمعت الأصمعي أبا عمرو يقول : كان زهير يمدح السوق ، ولو ضرب على أسفل قدميه مئتا دقل صيني على أن يقول كقول : النابغة
فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
[ ص: 76 ] - لما قال . يريد أن سلطانه كالليل إلى كل مكان .
واتبعه فقال : الفرزدق
ولو حملتني الريح ثم طلبتني لكنت كشيء أدركتني مقادره
فلم يأت بالمعنى ولا اللفظ على ما سبق إليه . النابغة
ثم أخذه فقال : الأخطل
وإن أمير المؤمنين وفعله لكالدهر لا عار بما فعل الدهر
وقد روي نحو هذا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : " نصرت بالرعب ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وليدخلن هذا الدين على ما دخل عليه الليل " .
وأخذه علي بن جبلة فقال :
وما لامرئ حاولته منك مهرب ولو رفعته في السماء المطالع
بلى هارب لا يهتدي لمكانه ظلام ولا ضوء من الصبح ساطع
ومثله قول : سلم الخاسر
فأنت كالدهر مبثوثا حبائله والدهر لا ملجأ منه ولا هرب
ولو ملكت عنان الريح أصرفه في كل ناحية ما فاتك الطلب
فأخذه فقال : البحتري
ولو انهم ركبوا الكواكب لم يكن ينجيهم عن خوف بأسك مهرب
ومن بديع الاستعارة قول زهير :
فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم
[ ص: 77 ] وقول الأعشى :
وإن عتاق العيس سوف يزوركم ثناء على أعجازهن معلق
ومنه أخذ نصيب فقال :
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
ومن ذلك قول تأبط شرا :
فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا به كدحة والموت خزيان ينظر
ومن الاستعارة في القرآن كثير ، كقوله : وإنه لذكر لك ولقومك يريد ما يكون الذكر عنه شرفا .
وقوله : صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة . قيل : دين الله أراد .
وقوله : اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم .
* * *
ومن البديع عندهم الغلو والإفراط في الصفة ، كقول النمر بن تولب :
أبقى الحوادث والأيام من نمر أسباد سيف قديم أثره بادي
تظل تحفر عنه إن ضربت به بعد الذراعين والقيدين والهادي
وكقول : النابغة
تقد السلوقي المضاعف نسجه ويوقدن بالصفاح نار الحباحب
وكقول عنترة :
فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحم
[ ص: 78 ] وكقول : أبي تمام
لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه لخر يلثم منه موطئ القدم
وكقول : البحتري
ولو أن مشتاقا تكلف فوق ما في وسعه لمشى إليك المنبر
ومن هذا الجنس في القرآن : يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد .
وقوله : إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا .
وقوله : تكاد تميز من الغيظ .
* * *
ومما يعدونه من البديع " المماثلة " وهو ضرب من الاستعارة سماه قدامة التمثيل ، وهو على العكس من الإرداف ؛ لأن الإرداف مبني على الإسهاب والبسط ، وهو مبني على الإيجاز والجمع .
وذلك أن يقصد الإشارة إلى معنى ، فيضع ألفاظا تدل عليه ؛ وذلك المعنى بألفاظه مثال للمعنى الذي قصد الإشارة إليه .
نظيره من المنثور : أن يزيد بن الوليد بلغه أن مروان بن محمد يتلكأ عن بيعته ، فكتب إليه : " أما بعد ؛ فإني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ، فاعتمد على أيتهما شئت " .
وكنحو ما كتب به إلى الحجاج : " فإن أنت فعلت ذاك ؛ وإلا أشرعت إليك الرمح " . فأجابه المهلب : " فإن أشرع الأمير الرمح ، قلبت إليه ظهر المجن " . المهلب
[ ص: 79 ] وكقول زهير :
ومن يعص أطراف الزجاج فإنه يطيع العوالي ركبت كل لهذم
وكقول امرئ القيس :
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي بسهميك في أعشار قلب مقتل
وكقول عمرو بن معدي كرب :
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت
وكقول القائل :
بني عمنا لا تذكروا الشعر بعدما دفنتم بصحراء الغمير القوافيا
[ ص: 80 ] وكقول الآخر :
أقول وقد شدوا لساني بنسعة أمعشر تيم أطلقوا عن لسانيا
ومن هذا الباب في القرآن قوله : فما أصبرهم على النار .
وكقوله : وثيابك فطهر . قال : أراد البدن ، قال : وتقول العرب : " فدى لك ثوباي " . يريد نفسه . وأنشد : الأصمعي
ألا أبلغ رسولا فدى لك من أخي ثقة إزاري أبا حفص
* * *
ويرون من البديع أيضا ما يسمونه " المطابقة " ، وأكثرهم على أن معناها أن يذكر الشيء وضده ، كالليل والنهار ، والسواد والبياض . وإليه ذهب الخليل بن أحمد ، ومن المتأخرين والأصمعي . عبد الله بن المعتز
وذكر من نظائره من المنثور ما قاله بعضهم : " أتيناك لتسلك بنا سبيل التوسع ، فأدخلتنا في ضيق الضمان " . ابن المعتز
ونظيره من القرآن : ولكم في القصاص حياة .
وقوله : يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي .
وقوله : يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل . ومثله كثير جدا .
[ ص: 81 ] وكقول النبي -صلى الله عليه وسلم- للأنصار : " إنكم تكثرون عند الفزع ، وتقلون عند الطمع " .
وقال آخرون : بل المطابقة أن يشترك معنيان بلفظة واحدة ، وإليه ذهب قدامة بن جعفر الكاتب .
فمن ذلك قول الأفوه الأودي :
وأقطع الهوجل مستأنسا بهوجل مستأنس عنتريس
عنى بالهوجل الأول : الأرض ، وبالثاني : الناقة .
ومثله قول : زياد الأعجم
ونبئتهم يستنصرون بكاهل وللؤم فيهم كاهل وسنام
ومثله قول أبي دواد :
عهدت لها منزلا داثرا وآلا على الماء يحملن آلا
فالآل الأول : أعمدة الخيام تنصب على البئر للسقي ، والآل الثاني : السراب .
وليس عنده قول من قال : المطابقة إنما تكون باجتماع الشيء وضده - بشيء .
[ ص: 82 ] ومن المعنى الأول قول الشاعر :
أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ولن تكرم النفس التي لا تهينها
ومثله قول امرئ القيس :
وتردي على صم صلاب ملاطس شديدات عقد لينات متان
وكقول : النابغة
ولا يحسبون الخير لا شر بعده ولا يحسبون الشر ضربة لازب
وكقول زهير ، وقد جمع فيه طباقين :
بعزمة مأمور مطيع وآمر مطاع فلا يلفى لحزمهم مثل
وكقول : الفرزدق
والشيب ينهض في الشباب كأنه ليل يصيح بجانبيه نهار
ومما قيل فيه ثلاث تطبيقات قول : جرير
وباسط خير فيكم بيمينه وقابض شر عنكم بشماليا
وكقول رجل من بلعنبر :
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحسانا
[ ص: 83 ] وروي عن -رضي الله عنهما- أنه تمثل بقول القائل : الحسن بن علي
فلا الجود يفني المال والجد مقبل ولا البخل يبقي المال والجد مدبر
وكقول الآخر :
فسري كإعلاني وتلك سجيتي وظلمة ليلي مثل ضوء نهاريا
وكقول قيس بن الخطيم :
إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كيما يضر وينفعا
وكقول السموأل :
وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل
فهذا باب يرونه من البديع .
* * *
وباب آخر وهو " التجنيس " . ومعنى ذلك : أن تأتي بكلمتين متجانستين :
فمنه ما تكون الكلمة تجانس الأخرى في تأليف حروفها ومعناها . وإليه ذهب . الخليل
ومنهم من زعم أن المجانسة أن تشترك اللفظتان على جهة الاشتقاق .
كقوله - عز وجل - : فأقم وجهك للدين القيم .
وكقوله : وأسلمت مع سليمان .
وكقوله : يا أسفى على يوسف .
[ ص: 84 ] وكقوله : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون .
وكقوله : وهم ينهون عنه وينأون عنه .
وكقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : أسلم سالمها الله ، وغفار غفر الله لها ، وعصية عصت الله ورسوله ، وتجيب أجابت الله ورسوله " . "
وكقوله : . " الظلم ظلمات يوم القيامة "
وقوله : " لا يكون ذو الوجهين وجيها عند الله " .
وكتب بعض الكتاب : " العذر مع التعذر واجب ، فرأيك فيه " .
وقال معاوية : ما لكم يا لابن عباس بني هاشم تصابون في أبصاركم ؟ فقال : كما تصابون في بصائركم .
وقال -رضي الله عنه- : " هاجروا ولا تهجروا " . عمر بن الخطاب
ومن ذلك قول قيس بن عاصم :
ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة كسته نجيعا من دم الجوف أشكلا
[ ص: 85 ] وقال آخر :
أمل عليها بالبلى الملوان
وقال الآخر :
وذاكم أن ذل الجار حالفكم وأن أنفكم لا تعرف الأنفا
وكتب إلي بعض مشايخنا ، قال : أنشدنا عن الأخفش ، عن المبرد التوزي :
وقالوا : حمامات فحم لقاؤها وطلح فزيرت والمطي طلوح
عقاب بأعقاب من النأي بعدما جرت نية تنسي المحب طروح
وقال صحابي : هدهد فوق بانة هدى وبيان بالنجاح يلوح
وقالوا دم دامت مواثيق عهده ودام لنا حسن الصفاء صريح
[ ص: 86 ] وقال آخر :
أقبلن من مصر يبارين البرى
وقال القطامي :
ولما ردها في الشول شالت بذيال يكون لها لفاعا
وقد يكون التجنيس بزيادة حرف أو بنقصان حرف أو ما يقارب ذلك ، كقول : البحتري
هل لما فات من تلاق تلاف أم لشاك من الصبابة شاف ؟
وقال ابن مقبل :
يمشين هيل النقا مالت جوانبه ينهال حينا وينهاه الثرى حينا
وقال زهير :
هم يضربون حبيك البيض إذ لحقوا لا ينكلون إذا ما استلحموا وحموا
[ ص: 87 ] ومن ذلك قول : أبي تمام
يمدون من أيد عواص عواصم تصول بأسياف قواض قواضب
يقصد في مصراعي مقدمات شعره هذا الباب ، كقوله : وأبو نواس
ألا دارها بالماء حتى تلينها فلن تكرم الصهباء حتى تهينها
وكذلك قوله :
ديار نوار ما ديار نوار كسونك شجوا هن منه عوار
وكقول : ابن المعتز
سأثني على عهد المطيرة والقصر وأدعو لها بالساكنين وبالقطر
وكقوله أيضا :
هي الدار إلا أنها منهم قفر وأني بها ثاو وأنهم سفر
وكقوله :
للأماني حديث قد يقر ويسوء الدهر من قد يسر
وكقول : المتنبي
وقد أراني الشباب الروح في بدني وقد أراني المشيب الروح في بدلي
وقد قيل : إن من هذا القبيل قوله - عز وجل - : خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون ، وقوله : قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه .
* * *
ويعدون من البديع " المقابلة " ، وهي أن يوفق بين معان ونظائرها والمضاد بضده ، وذلك مثل قول : النابغة الجعدي
[ ص: 88 ]
فتى تم فيه ما يسر صديقه على أن فيه ما يسوء الأعاديا
وقال تأبط شرا :
أهز به في ندوة الحي عطفه كما هز عطفي بالهجان الأوارك
وكقول الآخر :
وإذا حديث ساءني لم أكتئب وإذا حديث سرني لم أشرر
وكقول الآخر :
وذي إخوة قطعت أرحام بينهم كما تركوني واحدا لا أخا ليا
ونظيره من القرآن : ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون .
ومن هذا الجنس قول هند بنت النعمان ، وقد أحسن إليها : برتك يد نالتها خصاصة بعد ثروة ، وأغناك الله عن يد نالت ثروة بعد فاقة . للمغيرة بن شعبة
* * *
ويعدون من البديع " الموازنة " ، وذلك كقول بعضهم : اصبر على حر اللقاء ، ومضض النزال ، وشدة المصاع .
[ ص: 89 ] وكقول امرئ القيس :
سليم الشظا عبل الشوى شنج النسا له حجبات مشرفات على الفال
ونظيره من القرآن : والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود .
* * *
ويعدون من البديع " المساواة " ، وهي أن يكون اللفظ مساويا للمعنى ، لا يزيد عليه ولا ينقص عنه . وذلك يعد من البلاغة ، وذلك كقول زهير :
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وكقول : جرير
فلو شاء قومي كان حلمي فيهم وكان على جهال أعدائهم جهلي
وكقول الآخر :
إذا أنت لم تقصر عن الجهل والخنا أصبت حليما أو أصابك جاهل
وكقول الهذلي :
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها وأول راض سنة من يسيرها
[ ص: 90 ] وكقول الآخر :
فإن هم طاوعوك فطاوعيهم وإن عاصوك فاعصي من عصاك
ونظير ذلك في القرآن كثير .
* * *
ومما يعدونه من البديع " الإشارة " وهو اشتمال اللفظ القليل على المعاني الكثيرة . وقال بعضهم في وصف البلاغة : البلاغة لمحة دالة .
ومن ذلك قول طرفة :
فظل لنا يوم لذيذ بنعمة فقل في مقيل نحسه متغيب
وكقول زيد الخيل :
فخيبة من يخيب على غني وباهلة بن أعصر والرباب
[ ص: 91 ] ونظيره من القرآن : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا . ومواضع كثيرة .
* * *
ويعدون من البديع " المبالغة " ، و " الغلو " .
والمبالغة : تأكيد معاني القول ، وذلك كقول الشاعر :
ونكرم جارنا ما كان فينا ونتبعه الكرامة حيث مالا
ومن ذلك قول الآخر :
وهم تركوك أسلح من حبارى رأت صقرا وأشرد من نعام
فقوله : " رأت صقرا " مبالغة .
ومن الغلو قول : أبي نواس
توهمتها في كأسها فكأنما توهمت شيئا ليس يدركه العقل
فما يرتقي التكييف فيها إلى مدى يحد به إلا ومن قبله قبل
وقول زهير :
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم قوم بأولهم أو مجدهم - قعدوا
وكقول : النابغة
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
[ ص: 92 ] وكقول الخنساء :
وما بلغت كف امرئ متناول بها المجد إلا حيثما نلت أطول
وما بلغ المهدون في القول مدحة وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفضل
وقول الآخر :
له همم لا منتهى لكبارها وهمته الصغرى أجل من الدهر
له راحة لو أن معشار جودها على البر صار البر أندى من البحر
* * *
ويرون من البديع " الإيغال " في الشعر خاصة ، فلا يطلب مثله في القرآن إلا في الفواصل ، كقول امرئ القيس :
كأن عيون الوحش حول خبائنا وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
فقد أوغل بالقافية في الوصف وأكد التشبيه بها ، والمعنى قد يستقل دونها .
* * *
ومن البديع عندهم " التوشيح " . وهو أن يشهد أول البيت بقافيته وأول الكلام بآخره ، كقول : البحتري
فليس الذي حللته بمحلل وليس الذي حرمته بحرام
ومثله في القرآن : فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم .
* * *
[ ص: 93 ] ومن ذلك " رد عجز الكلام على صدره " . كقول الله - عز وجل - : انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ، وكقوله : لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى .
ومن هذا الباب قول القائل :
وإن لم يكن إلا تعلل ساعة قليلا فإني نافع لي قليلها
وكقول : جرير
سقى الرمل جون مستهل غمامه وما ذاك إلا حب من حل بالرمل
وكقول الآخر :
يود الفتى طول السلامة والغنى فكيف يرى طول السلامة يفعل
وكقول أبي صخر الهذلي :
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
وكقول الآخر :
أصد بأيدي العيس عن قصد أرضها وقلبي إليها بالمودة قاصد
[ ص: 94 ] وكقول عمرو بن معدي كرب :
إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
* * *
ومن البديع " صحة التقسيم " ، ومن ذلك قول نصيب :
فقال فريق القوم : لا ، وفريقهم : نعم ، وفريق قال : ويحك ما ندري
وليس في أقسام الجواب أكثر من هذا .
وكقول الآخر :
فكأنها فيه نهار ساطع وكأنه ليل عليها مظلم
وقول المقنع الكندي :
وإن يأكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدا
وإن زجروا طيرا بنحس تمر بي زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا
وكقول عروة بن حزام :
بمن لو أراه عانيا لفديته ومن لو رآني عانيا لفداني
ونحوه قول الله - عز وجل - : الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات [ ص: 95 ] إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات .
* * *
ونحوه : " صحة التفسير " . وهو أن توضع معان تحتاج إلى شرح أحوالها ، فإذا شرحت أثبتت تلك المعاني من غير عدول عنها ولا زيادة ولا نقصان . كقول القائل :
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
* * *
ومن البديع : " التكميل والتتميم " .
وهو أن يأتي بالمعنى الذي بدأ به بجميع المعاني المصححة المتممة لصحته ، المكملة لجودته ، من غير أن يخل ببعضها ، ولا أن يغادر شيئا منها . كقول القائل : "وما عسيت أن أشكرك عليه من مواعيد لم تشن بمطل ، ومرافد لم تشب بمن ، وبشر لم يمازجه ملق ، ولم يخالطه مذق .
وكقول نافع بن خليفة :
رجال إذا لم يقبلوا الحق منهم ويعطوه عادوا بالسيوف القواطع
وإنما تم جودة المعنى بقوله : " ويعطوه " .
وذلك كقول الله - عز وجل - : إن الله عنده علم الساعة إلى آخر الآية . ثم قال : إن الله عليم خبير .
* * *
ومن البديع : " الترصيع " . وذلك على ألوان .
[ ص: 96 ] منها قول امرئ القيس :
مخش مجش مقبل مدبر معا كتيس ظباء الحلب العدوان
ومن ذلك كثير من مقدمات : أبي نواس
يامنة امتنها السكر ما ينقضي مني لها الشكر
وكقوله ، وقد ذكرناه قبل هذا :
ديار نوار ما ديار نوار كسونك شجوا هن منه عوار
* * *
ومن ذلك : " الترصيع مع التجنيس " ، كقول : ابن المعتز
ألم تجزع على الربع المحيل وأطلال وآثار محول
ونظيره من القرآن كقوله : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون .
وقوله : ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون .
وكقوله : وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد .
وكقوله : والطور وكتاب مسطور .
وقوله : والسابحات سبحا فالسابقات سبقا .
وقد أولع الشعراء بنحو هذا ، فأكثروا فيه . ومنهم من اقتنع بالترصيع في بعض أطراف الكلام . ومنهم من بنى كلامه كله عليه ، كقول : ابن الرومي
أبدانهن وما لبسـ ـن من الحرير معا حرير
[ ص: 97 ]
أردانهن وما مسسـ ـن من العبير معا عبير
وكقوله :
فلراهب أن لا يريث مكانه ولراغب أن لا يريث نجاحه
ومما يقارب الترصيع ضرب يسمى : " المضارعة " ، وذلك كقول الخنساء :
حامي الحقيقة محمود الخليقة مهـ ـدي الطريقة نفاع وضرار
جواب قاصية جزاز ناصية عقاد ألوية للخيل جرار
* * *
ومن البديع باب : " التكافؤ " . وذلك قريب من " المطابقة " كقول المنصور : لا تخرجوا من عز الطاعة ، إلى ذل المعصية . وقول : إنا لم نجد لك إذ عصيت الله فينا خيرا من أن نطيع الله فيك . عمر بن ذر
ومنه قول : بشار
إذا أيقظتك حروب العدا فنبه لها عمرا ثم نم
ومنه قول أعرابي يذم قومه : ألسن عامرة من الوعد ، وقلوب خربة من العزم . وقال آخر : وساع في الهوى ، وطرب في الحاجة .
[ ص: 98 ] ومن البديع باب : " التعطف " كقول امرئ القيس :
عود على عود على عود خلق
وقد تقدم مثاله .
* * *
ومن البديع : " السلب والإيجاب " ، كقول القائل :
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ولا ينكرون القول حين نقول
* * *
ومن البديع " الكناية والتعريض " . كقول القائل :
وأحمر كالديباج ، أما سماؤه فريا ، وأما أرضه فمحول
ومن هذا الباب " لحن القول " .
* * *
ومن ذلك : " العكس والتبديل " كقول : "إن من خوفك لتأمن خير ممن أمنك لتخاف " وكقوله : " اللهم أغنني بالفقر إليك ، ولا تفقرني بالاستغناء عنك " . وكقوله : " بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا ، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا " . الحسن
[ ص: 99 ] وكقول القائل :
وإذا الدر زان حسن وجوه كان للدر حسن وجهك زينا
وقد يدخل في هذا الباب قوله تعالى : يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل .
* * *
ومن البديع : " الالتفات " فمن ذلك ما كتب إلي ، أخبرنا الحسن بن عبد الله العسكري محمد بن يحيى الصولي ، قال : حدثني يحيى بن علي المنجم ، عن أبيه ، عن إسحاق بن إبراهيم ، قال : قال لي : أتعرف التفاتات الأصمعي ؟ قلت : لا ، فما هي ؟ قال : جرير
أتنسى إذ تودعنا سليمى بفرع بشامة ؟ سقي البشام
ومثل ذلك : لجرير
متى كان الخيام بذي طلوح - سقيت الغيث - أيتها الخيام ؟
ومعنى الالتفاتات أنه اعترض في الكلام قوله : " سقيت الغيث " ، ولو لم يعترض لم يكن ذلك التفاتا ، وكان الكلام منتظما ، وكان يقول : " متى كان الخيام بذي طلوح أيتها الخيام ؟ " فمتى خرج عن الكلام الأول ثم رجع إليه على وجه يلطف - كان ذلك التفاتا .
ومثله قول : النابغة الجعدي
ألا زعمت بنو سعد بأني - ألا كذبوا - كبير السن فاني
[ ص: 100 ] ومنه قول : كثير
لو ان الباذلين - وأنت منهم - رأوك ، تعلموا منك المطالا
ومثله قول : أبي تمام
وأنجدتم من بعد إتهام داركم فيا دمع أنجدني على ساكني نجد
وكقول : جرير
طرب الحمام بذي الأراك فشاقني لا زلت في غلل وأيك ناضر
التفت إلى الحمام فدعا لها .
ومثله قول : حسان
إن التي ناولتني فرددتها قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
ومثله قول عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر :
وأجمل إذا ما كنت لا بد مانعا وقد يمنع الشيء الفتى وهو مجمل
وكقول ابن ميادة :
فلا صرمه يبدو وفي اليأس راحة ولا وصله يصفو لنا فنكارمه
ونظير ذلك من القرآن ما حكى الله تعالى عن إبراهيم الخليل من قوله : اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إلى قوله : فما كان جواب قومه .
[ ص: 101 ] وقوله - عز وجل - : إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز وبرزوا لله جميعا .
ومثله قوله : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين .
ومثله قوله : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث .
ومثله قوله : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه .
ومنهم من لا يعد الاعتراض والرجوع من هذا الباب . ومنهم من يفرده عنه ، كقول زهير :
قف بالديار التي لم يعفها القدم نعم ، وغيرها الأرواح والديم
وكقول الأعرابي :
أليس قليلا نظرة إن نظرتها إليك ، وكلا ليس منك قليل
وكقول ابن هرمة :
ليت حظي كلحظة العين منها وكثير منها القليل المهنا
* * *
[ ص: 102 ] ومن الرجوع قول القائل :
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا على أن قرب الدار خير من البعد
وقال الأعشى :
صرمت ولم أصرمكم وكصارم أخ قد طوى كشحا وأب ليذهبا
وكقول : بشار
لي حيلة فيمن ينمـ ـم وليس في الكذاب حيله
من كان يخلق ما يقو ل فحيلتي فيه قليله
وقال آخر :
وما بي انتصار إن عدا الدهر ظالما علي ، بلى إن كان من عندك النصر
* * *
وباب آخر من البديع يسمى : " التذييل " وهو ضرب من التأكيد ، وهو ضد ما قدمنا ذكره من الإشارة ، كقول أبي دواد :
[ ص: 103 ]
إذا ما عقدنا له ذمة شددنا العناج وعقد الكرب
وأخذه الحطيئة فقال :
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
وكقول الآخر :
فدعوا نزال فكنت أول نازل وعلام أركبه إذا لم أنزل ؟
وكقول : جرير
لقد كنت فيها يا فرزدق تابعا وريش الذنابى تابع للقوادم
ومثله قوله - عز وجل - : إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ، إلى قوله : كانوا خاطئين .
* *