[ ص: 148 ] خطبة - رضي الله عنه - لمعاوية بن أبي سفيان
قال الراوي : لما حضرته الوفاة قال لولي له : من بالباب ؟
فقال : نفر من قريش يتباشرون بموتك !
فقال : ويحك ، ولم ؟ ! ثم أذن للناس ، فحمد الله وأثنى عليه ؛ فأوجز ؛ ثم قال :
أيها الناس ، إنا قد أصبحنا في دهر عنود ، وزمن شديد ؛ يعد فيه المحسن مسيئا ، ويزداد الظالم فيه عتوا ؛ لا ننتفع بما علمنا ، ولا نسأل عما جهلنا ، ولا نتخوف قارعة حتى تحل بنا ؛ فالناس على أربعة أصناف :
منهم : من لا يمنعه من الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه ، وكلال حده ، ونضيض وفره .
ومنهم : المصلت لسيفه ، والمجلب برجله ، والمعلن بشره ؛ قد أشرط نفسه ، وأوبق دينه ؛ لحطام ينتهزه ، أو مقنب يقوده ، أو منبر يفرعه ؛ وبئس المتجر أن تراها لنفسك ثمنا ، ومما لك عند الله عوضا .
ومنهم : من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ؛ ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا ؛ قد طامن من شخصه ، وقارب من خطوه ، وشمر من ثوبه ، وزخرف [ ص: 149 ] نفسه للأمانة ، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية .
ومنهم : من أقعده عن الملك ضئولة في نفسه ، وانقطاع سببه ؛ فقصر به الحال عن حال ؛ فتحلى باسم القناعة ، وتزين بلباس الزهاد ؛ وليس من ذلك في مراح ولا مغدى .
وبقي رجال أغض أبصارهم ذكر المرجع ، وأراق دموعهم خوف المحشر ، فهم بين شريد ناد ، وخائف منقمع ، وساكت مكعوم ، وداع مخلص ، وموجع ثكلان ؛ قد أخملتهم التقية ، وشملتهم الذلة ؛ في بحر أجاج ، أفواههم دامية ، وقلوبهم قرحة ؛ قد وعظوا حتى ملوا ، وقهروا حتى ذلوا ، وقتلوا حتى قلوا .
فلتكن الدنيا في عيونكم أقل من حتاتة القرظ ، وقراضة الجلم ؛ واتعظوا بمن كان قبلكم ، قبل أن يتعظ بكم من بعدكم ؛ فارفضوها ذميمة ؛ فإنها قد رفضت من كان أشغف بها منكم .