ما رأيك في قوله : إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين   ؟ 
هذه تشتمل على ست كلمات ، سناؤها وضياؤها على ما ترى ، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد ، ورونقها على ما تعاين ، وفصاحتها على ما تعرف . 
وهي تشتمل على جملة وتفصيل ، وجامعة وتفسير : ذكر العلو في الأرض باستضعاف الخلق بذبح الولدان وسبي النساء ، وإذا تحكم في هذين الأمرين فما ظنك بما دونهما ! ؟ لأن النفوس لا تطمئن على هذا الظلم ، والقلوب لا تقر على هذا الجور . 
 [ ص: 194 ] ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت في التأكيد ، وكفت في التظليم ، وردت آخر الكلام على أوله ، وعطفت عجزه على صدره . 
ثم ذكر وعده تخليصهم بقوله : ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين   . وهذا من التأليف بين المؤتلف ، والجمع بين المستأنس . 
كما أن قوله : وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين    . 
وهي خمس كلمات ، متباعدة في المواقع ، نائية المطارح ، قد جعلها النظم البديع أشد تألفا من الشيء المؤتلف في الأصل ، وأحسن توافقا من المتطابق في أول الوضع . 
ومثل هذه الآية قوله : وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون   . 
ومثلها : وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين   . 
ومن المؤتلف قوله : فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين   . 
وهذه ثلاث كلمات ، كل كلمة منها أعز من الكبريت الأحمر . 
ومن الباب الآخر قوله تعالى : ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون   . 
* * * 
كل سورة من هذه السور تتضمن من القصص ما لو تكلفت العبارة عنها بأضعاف كلماتها ، لم تستوف ما استوفته . ثم تجد فيما تنظم ثقل النظم ،  [ ص: 195 ] ونفور الطبع ، وشراد الكلام ، وتهافت القول ، وتمنع جانبه ، وقصورك في الإيضاح عن واجبه . ثم لا تقدر على أن تنتقل من قصة إلى قصة ، وفصل إلى فصل ، حتى تتبتر عليك مواضع الوصل ، وتستصعب عليك أماكن الفصل ، ثم لا يمكنك أن تصل بالقصص مواعظ زاجرة ، وأمثالا سائرة وحكما جليلة ، وأدلة على التوحيد بينة ، وكلمات في التنزيه والتحميد شريفة . 
وإن أردت أن تتحقق ما وصفت لك ، فتأمل شعر من شئت من الشعراء المفلقين ، هل تجد كلامه في المديح والغزل والفخر والهجو يجري مجرى كلامه في ذكر القصص ؟ 
إنك لتراه إذا جاء إلى وصف وقعة ، أو نقل خبر ، عامي الكلام ، سوقي الخطاب ، مسترسلا في أمره ، متساهلا في كلامه ، عادلا عن المألوف من طبعه ، وناكبا عن المعهود من سجيته . فإن اتفق له في قصة كلام جيد ، كان قدر ثنتين أو ثلاثة ، وكان ما زاد عليها حشوا ، وما تجاوزها لغوا . ولا أقول : إنها تخرج من عادته عفوا ؛ لأنه يقصر عن العفو ، ويقف دون العرف ، ويتعرض للركاكة . 
فإن لم تقنع بما قلت لك من الآيات ، فتأمل غير ذلك من السور ، هل تجد الجميع على ما وصفت لك ؟ 
لو لم تكن إلا سورة واحدة لكفت في الإعجاز ؛ فكيف بالقرآن العظيم ؟ 
ولو لم يكن إلا حديث من سورة لكفى ، وأقنع وشفى . 
ولو عرفت قدر قصة موسى  وحدها من سورة الشعراء  ، لما طلبت بينة سواها . 
بل قصة من قصصه ، وهي قوله : وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون  إلى قوله : فأخرجناهم من جنات وعيون  وكنوز ومقام  [ ص: 196 ] كريم  كذلك وأورثناها بني إسرائيل  فأتبعوهم مشرقين  حتى قال : فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم   . 
ثم قصة إبراهيم   - عليه السلام - . 
ثم لو لم تكن إلا الآيات التي انتهى إليها القول في ذكر القرآن ، وهي قوله : وإنه لتنزيل رب العالمين   نزل به الروح الأمين  على قلبك لتكون من المنذرين  بلسان عربي مبين   . 
وهذه كلمات مفردة بفواصلها ، منها ما يتضمن فاتحة وفاصلة ، ومنها ما هي فاتحة وواسطة وفاصلة ، ومنها كلمة بفاصلتها تامة . 
دل على أنه نزله على قلبه ليكون نذيرا ، وبين أنه آية لكونه نبيا ، ثم وصل بذلك كيفية النذارة فقال : وأنذر عشيرتك الأقربين  واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين   . 
فتأمل آية آية ، لتعرف الإعجاز ، وتتبين التصرف البديع ، والتنقل في الفصول إلى آخر السورة . 
ثم راع المقطع العجيب ، وهو قوله : وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون    . 
هل يحسن أحد أن يأتي بمثل هذا الوعيد ؟ وأن ينظم مثل هذا النظم ، وأن يجد مثل هذه النظائر السابقة ؟ ويصادف مثل هذه الكلمات المتقدمة ؟ 
ولولا كراهة الإملال ، لجئت إلى كل فصل ، فاستقريت على الترتيب كلماته ، وبينت لك ما في كل واحدة منها من البراعة ، وعجيب البلاغة . 
 [ ص: 197 ] ولعلك تستدل بما قلنا على ما بعده ، وتستضيء بنوره ، وتهتدي بهداه . 
* * 
				
						
						
