[ ص: 262 ] فصل
في
nindex.php?page=treesubj&link=28914وصف وجوه من البلاغة
ذكر بعض أهل الأدب والكلام : أن البلاغة على عشرة أقسام :
الإيجاز ، والتشبيه ، والاستعارة ، والتلاؤم ، والفواصل ، والتجانس ، والتصريف ، والتضمين ، والمبالغة ، وحسن البيان .
فأما " الإيجاز " فإنما يحسن مع ترك الإخلال باللفظ والمعنى ، فيأتي باللفظ القليل الشامل لأمور كثيرة .
وذلك ينقسم إلى حذف ، وقصر :
فالحذف : الإسقاط للتخفيف ، كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=82واسأل القرية . وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=21طاعة وقول معروف .
وحذف الجواب كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=31ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى . كأنه قيل : لكان هذا القرآن .
والحذف أبلغ من الذكر ؛ لأن النفس تذهب كل مذهب في القصد من الجواب .
[ ص: 263 ] والإيجاز بالقصر كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179ولكم في القصاص حياة .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=4يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=23إنما بغيكم على أنفسكم .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=43ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله .
والإطناب فيه بلاغة ، فأما التطويل ففيه عي .
* * *
وأما التشبيه ، فهو العقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر في
[ ص: 264 ] حس أو عقل ، كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=39والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=18مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=171وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=24إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=19إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=20تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر .
[ ص: 265 ] وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=37فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=20أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21وجنة عرضها كعرض السماء والأرض .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=5مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا .
وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=176فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=7كأنهم أعجاز نخل خاوية .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=41مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت [ ص: 266 ] بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=24وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=14خلق الإنسان من صلصال كالفخار . ونحو ذلك .
* * *
ومن ذلك : " باب الاستعارة " وذلك يباين " التشبيه " .
كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=23وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا .
وكقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=94فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين .
وكقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=11إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=154ولما سكت عن موسى الغضب .
[ ص: 267 ] وكقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=12فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=18بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق . فالدمغ والقذف مستعار .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=37وآية لهم الليل نسلخ منه النهار .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=7وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=51فذو دعاء عريض .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=4حتى تضع الحرب أوزارها .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=18والصبح إذا تنفس .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214مستهم البأساء والضراء وزلزلوا .
[ ص: 268 ] وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=187فنبذوه وراء ظهورهم .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=24أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=15حصيدا خامدين .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=225ألم تر أنهم في كل واد يهيمون .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=46وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=29ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=21ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=11فضربنا على آذانهم يريد : أن لا إحساس بآذانهم من غير صمم .
[ ص: 269 ] وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=149ولما سقط في أيديهم .
وهذا أوقع من اللفظ الظاهر ، وأبلغ من الكلام الموضوع له .
* * *
وأما " التلاؤم " ، فهو : تعديل الحروف في التأليف . وهو نقيض " التنافر " الذي هو كقول الشاعر :
وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبر حرب قبر
قالوا : هو من شعر الجن ! وحروفه متنافرة ، لا يمكن إنشاده إلا بتتعتع فيه !
" والتلاؤم " على ضربين :
أحدهما في الطبقة الوسطى ، كقوله :
رمتني وستر الله بيني وبينها عشية آرام الكناس رميم
رميم التي قالت لجارات بيتها : ضمنت لكم أن لا يزال يهيم
ألا رب يوم لو رمتني رميتها ولكن عهدي بالنضال قديم
[ ص: 270 ] قالوا : والمتلائم في الطبقة العليا : القرآن كله ، وإن كان بعض الناس أحسن إحساسا له من بعض ، كما أن بعضهم يفطن للموزون بخلاف بعض .
و " التلاؤم " : حسن الكلام في السمع ، وسهولته في اللفظ ، ووقع المعنى في القلب . وذلك كالخط الحسن والبيان الشافي ؛ والمتنافر كالخط القبيح ، فإذا انضاف إلى التلاؤم حسن البيان وصحة البرهان في أعلى الطبقات - ظهر الإعجاز لمن كان جيد الطبع ، وبصيرا بجواهر الكلام ، كما يظهر له أعلى طبقة الشعر .
و " المتنافر " ، ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=14248الخليل إلى أنه من بعد شديد ، أو قرب شديد ؛ فإذا بعد فهو كالطفر ، وإذا قرب جدا كان بمنزلة مشي المقيد . ويبين بقرب مخارج الحروف وتباعدها .
* * *
وأما " الفواصل " : فهي حروف متشاكلة في المقاطع ، يقع بها إفهام المعاني وفيها بلاغة . والأسجاع عيب ؛ لأن السجع يتبعه المعنى ، والفواصل تابعة
[ ص: 271 ] للمعاني . والسجع كقول
" مسيلمة " .
ثم الفواصل قد تقع على حروف متجانسة ، كما قد تقع على حروف متقاربة ؛ ولا تحتمل القوافي ما تحتمل الفواصل ، لأنها ليست في الطبقة العليا في البلاغة ؛ لأن الكلام يحسن فيها بمجانسة القوافي وإقامة الوزن .
وأما " التجانس " ، فهو : بيان أنواع الكلام الذي يجمعه أصل واحد .
وهو على وجهين : مزاوجة ، ومناسبة .
المزاوجة كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=54ومكروا ومكر الله .
وكقول
عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
[ ص: 272 ] * * *
وأما " المناسبة " ، فهي كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=127ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=37يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار .
* * *
وأما " التصريف " فهو : تصريف الكلام في المعاني ، كتصريفه في الدلالات المختلفة ؛ كتصريف " الملك " في معاني الصفات ، فصرف في معنى " مالك " و " ملك " و " ذي الملكوت " و " المليك " ، وفي معنى " التمليك " ، و " التملك " ، و " الإملاك " ؛ وتصريف المعنى في الدلالات المختلفة ، كما كرر من قصة
موسى في مواضع .
* * *
وأما " التضمين " فهو : حصول معنى فيه من غير ذكره له باسم أو صفة هي عبارة عنه .
[ ص: 273 ] وذلك على وجهين :
تضمين توجبه البنية ، كقولنا : " معلوم " ، يوجب أنه لا بد من عالم .
وتضمين يوجبه معنى العبارة من حيث لا يصح إلا به ، كالصفة بضارب ، على مضروب .
والتضمين كله إيجاز ، وذكر : أن التضمين الذي تدل عليه دلالات القياس أيضا إيجاز .
وذكر : أن " بسم الله الرحمن الرحيم " من باب التضمين ؛ لأنه تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه على جهة التعظيم لله - تبارك وتعالى - ، أو التبرك باسمه .
* * *
وأما " المبالغة " ، فهي : الدلالة على كثرة المعنى . وذلك على وجوه :
منها مبالغة في الصفة المبينة لذلك ، كقولك : " رحمان " عدل عن راحم "
[ ص: 274 ] للمبالغة ، وكقوله " غفار " ، وكذلك فعال وفعول ، كقوله : " شكور " ، و " غفور " ، وفعيل ، كقوله : " رحيم " و " قدير " .
ومن ذلك أن يبالغ باللفظة التي هي صفة عامة ، كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=62خالق كل شيء وكقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=26فأتى الله بنيانهم من القواعد .
وكقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=40ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط .
وكقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=24وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين .
وقد يدخل فيه الحذف الذي تقدم ذكره للمبالغة .
* * *
وأما " حسن البيان " فالبيان على أربعة أقسام : كلام ، وحال ، وإشارة ، وعلامة .
ويقع التفاضل في البيان ، ولذلك قال عز من قائل :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=1الرحمن nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=2علم [ ص: 275 ] القرآن nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=3خلق الإنسان nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=4علمه البيان .
ونقيضه العي ، ومنه قيل : أعيا من
باقل ، سئل عن ظبية في يده : بكم اشتراها ؟ فأراد أن يقول : بأحد عشر ، فأشار بيديه مادا أصابعه العشر ، ثم أدلع لسانه ، فأفلتت الظبية من يده ! !
* * *
ثم البيان على مراتب .
قلنا : قد كنا حكينا أن من الناس من يريد أن يأخذ إعجاز القرآن من وجوه البلاغة التي ذكرنا أنها تسمى " البديع " في أول الكتاب ، مما مضت أمثلته في الشعر .
ومن الناس من زعم : أنه يأخذ ذلك من هذه الوجوه التي عددناها في هذا الفصل .
واعلم أن الذي بيناه قبل هذا وذهبنا إليه هو سديد ، وهو أن هذه الأمور تنقسم :
فمنها ما يمكن الوقوع عليه ، والتعمل له ، ويدرك بالتعلم ؛ فما كان كذلك فلا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن به .
وأما ما لا سبيل إليه بالتعلم والتعمل من البلاغات ، فذلك هو الذي يدل على إعجازه ؛ ونحن نضرب لك أمثلة ، لتقف على ما ذهبنا إليه .
وذكرنا في هذا الفصل عن هذا " القائل " أن التشبيه تعرف به البلاغة . وذلك مسلم ، ولكن إن قلنا : ما وقع من التشبيه في القرآن معجز - عرض علينا
[ ص: 276 ] من التشبيهات الجارية في الأشعار ما لا يخفى عليك ، وأنت تجد في شعر
nindex.php?page=showalam&ids=12899ابن المعتز من التشبيه البديع الذي يشبه السحر ، وقد تتبع في هذا ما لم يتتبع غيره ، واتفق له ما لم يتفق لغيره من الشعراء .
وكذلك كثير من وجوه البلاغة ، قد بينا أن تعلمها يمكن ، وليس تقع البلاغة بوجه واحد منها دون غيره .
فإن كان إنما يعني هذا " القائل " أنه إذا أتى في كل معنى يتفق في كلامه بالطبقة العالية ، ثم كان ما يصل به كلامه بعضه ببعض ، وينتهي منه إلى متصرفاته - : على أتم البلاغة وأبدع البراعة - فهذا مما لا نأباه ، بل نقول به .
وإنما ننكر أن يقول قائل : إن بعض هذه الوجوه بانفرادها قد حصل فيه الإعجاز من غير أن يقارنه ما يصل به من الكلام ويفضي إليه ، مثل ما يقول : إن ما أقسم به وحده بنفسه معجز ، وإن التشبيه معجز ، وإن التجنيس معجز ، والمطابقة بنفسها معجزة .
فأما الآية التي فيها ذكر التشبيه ، فإن ادعى إعجازها لألفاظها ونظمها وتأليفها - فإني لا أدفع ذلك وأصححه ، ولكن لا أدعي إعجازها لموضع التشبيه .
وصاحب " المقالة " التي حكيناها ، أضاف ذلك إلى موضع التشبيه وما قرن به من الوجوه ، ومن تلك الوجوه ما قد بينا أن الإعجاز يتعلق به كالبيان ، وذلك لا يختص بجنس من المبين دون جنس ، ولذلك قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=138هذا بيان للناس وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=89تبيانا لكل شيء وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=195بلسان عربي مبين ، فكرر في مواضع - جل ذكره - أنه مبين .
فالقرآن أعلى منازل البيان ، وأعلى مراتبه ما جمع وجوه الحسن وأسبابه ، وطرقه وأبوابه : من تعديل النظم وسلامته ، وحسنه وبهجته ، وحسن موقعه في السمع ، وسهولته على اللسان ، ووقوعه في النفس موقع القبول ، وتصوره تصور المشاهد ،
[ ص: 277 ] وتشكله على جهته حتى يحل محل البرهان ودلالة التأليف ، مما لا ينحصر حسنا وبهجة وسناء ورفعة .
وإذا علا الكلام في نفسه ، كان له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس ، ما يذهل ويبهج ، ويقلق ويؤنس ، ويطمع ويؤيس ، ويضحك ويبكي ، ويحزن ويفرح ، ويسكن ويزعج ، ويشجي ويطرب ، ويهز الأعطاف ، ويستميل نحوه الأسماع ، ويورث الأريحية والعزة ، وقد يبعث على بذل المهج والأموال شجاعة وجودا ، ويرمي السامع من وراء رأيه مرمى بعيدا .
وله مسالك في النفوس لطيفة ، ومداخل إلى القلوب دقيقة .
وبحسب ما يترتب في نظمه ، ويتنزل في موقعه ، ويجري على سمت مطلعه ومقطعه - يكون عجيب تأثيراته ، وبديع مقتضياته .
وكذلك على حسب مصادره ، يتصور وجوه موارده .
وقد ينبئ الكلام عن محل صاحبه ، ويدل على مكان متكلمه ، وينبه على عظيم شأن أهله ، وعلى علو محله .
ألا ترى أن الشعر في الغزل إذا صدر عن محب ، كان أرق وأحسن ؛ وإذا صدر عن متعمل ، وحصل من متصنع - نادى على نفسه بالمداجاة ، وأخبر عن خبيئه في المراءاة ؟ !
وكذلك قد يصدر الشعر في وصف الحرب عن الشجاع ، فيعلم وجه صدوره ، ويدل على كنهه وحقيقته .
وقد يصدر عن المتشبه ، ويخرج عن المتصنع ، فيعرف من حاله ما ظن أنه يخفيه ، ويظهر من أمره خلاف ما يبديه .
وأنت تعرف لقول
nindex.php?page=showalam&ids=15155المتنبي :
فالخيل والليل والبيداء تعرفني والحرب والضرب والقرطاس والقلم
[ ص: 278 ] من الوقع في القلب - لما تعلم أنه من أهل الشجاعة - ما لا تجده
nindex.php?page=showalam&ids=13823للبحتري في قوله :
وأنا الشجاع وقد بدا لك موقفي بعقرقس والمشرفية شهدي
وتجد
لابن المعتز في موقع شعره من القلب ، في الفخر وغيره ، ما لا تجده لغيره ، لأنه إذا قال :
إذا شئت أوقرت البلاد حوافرا وسارت ورائي هاشم ونزار
وعم السماء النقع حتى كأنه دخان وأطراف الرماح شرار
وقال :
قد ترديت بالمكارم دهرا وكفتني نفسي من الافتخار
أنا جيش إذا غزوت وحيدا ووحيد في الجحفل الجرار
وقال :
أيها السائلي عن الحسب الأطـ ـيب ما فوقه لخلق مزيد
نحن آل الرسول والعترة الحقـ ـق وأهل القربى ، فماذا تريد ؟
ولنا ما أضاء صبح عليه وأتته رايات ليل سود
وكما أنشدنا
nindex.php?page=showalam&ids=14785الحسن بن عبد الله ، قال : أنشدنا
محمد بن يحيى لابن المعتز قصيدته التي يقول فيها :
أنا ابن الذي سادهم في الحيا ة وسادهم بي تحت الثرى
وما لي في أحد مرغب بلى في يرغب كل الورى
وأسهر للمجد والمكرمات إذا اكتحلت أعين بالكرى
[ ص: 279 ] فانظر في القصيدة كلها ، ثم في جميع شعره ، تعلم أنه ملك الشعر ، وأنه يليق به من الفخر خاصة ، ثم مما يتبعه مما يتعاطاه - ما لا يليق بغيره ، بل ينفر عن سواه .
ولم أحب أن أكثر عليك ، فأطول الكتاب بما يخرج عن غرضه .
وكما ترى من قول
nindex.php?page=showalam&ids=12126أبي فراس الحمداني في نفسك إذا قال :
ولا أصبح الحي الخلوف بغارة ولا الجيش ما لم تأته قبلي النذر
ويا رب دار لم تخفني منيعة طلعت عليها بالردى أنا والفجر
وساحبة الأذيال نحوي لقيتها فلم يلقها جافي اللقاء ولا وعر
وهبت لها ما حازه الجيش كله وأبت ولم يكشف لأبياتها ستر
وما راح يطغيني بأثوابه الغنى ولا بات يثنيني عن الكرم الفقر
وما حاجتي في المال أبغي وفوره إذا لم أفر وفري فلا وفر الوفر
والشيء إذا صدر من أهله ، وبدا من أصله ، وانتسب إلى ذويه - سلم في نفسه ، وبانت فخامته وشوهد أثر الاستحقاق فيه .
وإذا صدر من متكلف ، وبدا من متصنع - بان أثر الغربة عليه ،
[ ص: 280 ] وظهرت مخايل الاستيحاش فيه ، وعرف شمائل التحير منه .
إنا نعرف في شعر
nindex.php?page=showalam&ids=12185أبي نواس أثر الشطارة ، وتمكن البطالة ، وموقع كلامه في وصف ما هو بسبيله من أمر العيارة ، ووصف الخمر والخمار ؛ كما نعرف موقع كلام
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذي الرمة في وصف المهامه والبوادي والجمال والأنساع والأزمة .
وعيب
nindex.php?page=showalam&ids=12185أبي نواس التصرف في وصف الطلول والرباع والوحش ، ففكر في قوله :
دع الأطلال تسفيها الجنوب وتبلي عهد جدتها الخطوب
وخل لراكب الوجناء أرضا تخب به النجيبة والنجيب
بلاد نبتها عشر وطلح وأكثر صيدها ضبع وذيب
ولا تأخذ عن الأعراب لهوا ولا عيشا ، فعيشهم جديب
دع الألبان يشربها رجال رقيق العيش عندهم غريب
إذا راب الحليب فبل عليه ولا تحرج ، فما في ذاك حوب
فأطيب منه صافية شمول يطوف بكأسها ساق أديب
كأن هديرها في الدن يحكي قراة القس قابله الصليب
أعاذل أقصري عن طول لومي فراجي توبتي عندي يخيب
تعيبين الذنوب ، وأي حر من الفتيان ليس له ذنوب ؟ !
وقوله :
صفة الطلول بلاغة الفدم فاجعل صفاتك لابنة الكرم
[ ص: 281 ] وسمعت الصاحب
إسماعيل بن عباد يقول : سمعت
براكويه الزنجاني يقول :
أنشد بعض الشعراء
هلال بن يزيد قصيدة على وزن قصيدة
الأعشى :
ودع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعا أيها الرجل ؟
وكان وصف فيها الطلل ، قال
براكويه : فقال لي هلال : فقلت بديها :
إذا سمعت فتى يبكي على طلل من أهل زنجان ، فاعلم أنه طلل
* * *
وإنما ذكرت لك هذه الأمور ، لتعلم أن الشيء في معدنه أعز ، وإلى مظانه أحن ، وإلى أصله أنزع ، وبأسبابه أليق ؛ وهو يدل على ما صدر منه ، وينبه ما أنتج عنه ، ويكون قراره على موجب صورته ، وأنواره على حسب محله ؛ ولكل شيء حد ومذهب ، ولكل كلام سبيل ومنهج .
وقد ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في كلام
مسيلمة ما أخبرتك به ، فقال : إن هذا كلام لم يخرج من إل . فدل على أن الكلام الصادر عن عزة الربوبية ورفعة الإلهية ، يتميز عما لم يكن كذلك .
* * *
ثم رجع الكلام بنا إلى ما ابتدأنا به من عظيم شأن البيان ، ولو لم يكن فيه إلا ما من به الله على خلقه بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=3خلق الإنسان nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=4علمه البيان .
[ ص: 282 ] فأما بيان القرآن فهو أشرف بيان وأهداه ، وأكمله وأعلاه ، وأبلغه وأسناه .
تأمل قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=5أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين في شدة التنبيه على تركهم الحق والإعراض عنه . وموضع امتنانه بالذكر والتحذير .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=39ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون وهذا بليغ في التحسير .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=28ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وهذا يدل على كونهم مجبولين على الشر ، معودين لمخالفة النهي والأمر .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=67الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين هو في نهاية المنع من الخلة إلا على التقوى .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=56أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله . وهذا نهاية في التحذير من التفريط .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=40أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير هو النهاية في الوعيد والتهديد .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=44وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من [ ص: 283 ] سبيل nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=45وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي نهاية في الوعيد .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=71وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون نهاية في الترغيب .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=91ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ؛ وكذلك قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=22لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا نهاية في
nindex.php?page=showalam&ids=14078الحجاج .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=13وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=14ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير نهاية في الدلالة على علمه بالخفيات .
ولا وجه للتطويل ؛ فإن بيان الجميع في الرفعة وكبر المنزلة على سواء .
وقد ذكرنا من قبل : أن البيان يصح أن يتعلق به الإعجاز ، وهو معجز من القرآن .
* * *
وما حكينا عن " صاحب الكلام " : من " المبالغة " في اللفظ - فليس ذلك بطريق الإعجاز ؛ لأن الوجوه التي ذكرها قد تتفق في كلام غيره ، وليس ذلك بمعجز ، بل قد يصح أن يقع في المبالغة في المعنى والصفة ، وجوه من اللفظ تثمر الإعجاز .
* * *
و " تضمين المعاني " أيضا قد يتعلق به الإعجاز إذا حصلت للعبارة طريق البلاغة في أعلى درجاتها .
[ ص: 284 ] وأما " الفواصل " فقد بينا أنه يصح أن يتعلق بها الإعجاز ، وكذلك قد بينا في المقاطع والمطالع نحو هذا ، وبينا في " تلاؤم " الكلام ما سبق : من صحة تعلق الإعجاز به .
والتصرف في " الاستعارة " البديعة يصح أن يتعلق به الإعجاز ، كما يصح مثل ذلك في حقائق الكلام ؛ لأن البلاغة في كل واحد من البابين تجري مجرى واحدا وتأخذ مأخذا مفردا .
* * *
وأما " الإيجاز والبسط " فيصح أن يتعلق بهما الإعجاز ، كما يتعلق بالحقائق .
* * *
و " الاستعارة " و " البيان " في كل واحد منهما ما لا يضبط حده ، ولا يقدر قدره ، ولا يمكن التوصل إلى ساحل بحره بالتعلم ، ولا يتطرق إلى غوره بالتسبب . وكل ما يمكن تعلمه ، ويتهيأ تلقنه ، ويمكن تحصيله ، ويستدرك أخذه - فلا يجب أن يطلب وقوع الإعجاز به .
ولذلك قلنا : إن " السجع " ما ليس يلتمس فيه الإعجاز ؛ لأن ذلك أمر محدود ، وسبيل مورود ، ومتى تدرب الإنسان به واعتاده لم يستصعب عليه أن يجعل جميع كلامه منه .
وكذلك " التجنيس " و " التطبيق " متى أخذ أخذهما وطلب وجههما ، استوفى ما شاء ، ولم يتعذر عليه أن يملأ خطابه منه ، كما أولع بذلك
nindex.php?page=showalam&ids=11952أبو تمام nindex.php?page=showalam&ids=13823والبحتري ، وإن كان
nindex.php?page=showalam&ids=13823البحتري أشغف بالمطابق ، وأقل طلبا للمجانس .
فإن قال قائل : هلا قلت : إن هذين البابين يقع فيهما مرتبة عالية ، لا يوصل إليها بالتعلم ، ولا تملك بالتعمل ؛ كما ذكرتم في البيان وغير ذلك ؟
قلنا : لو عمد إلى كتاب " الأجناس " ، ونظر في كتاب " العين " ؛ لم يتعذر عليه التجنيس الكثير .
فأما " الإطباق " فهو أقرب منه . وليس كذلك البيان والوجوه التي رأينا الإعجاز فيها ؛ لأنها لا تستوفى بالتعلم .
[ ص: 285 ] فإن قيل : فالبيان قد يتعلم ؟
قيل : إن الذي يمكن أن يتوصل إليه بالتعلم يتقارب فيه الناس ، وتتناهى فيه العادات ، وهو كما يعلم من مقادير القوى في حمل الثقيل ، وأن الناس يتقاربون في ذلك ، فيرمون فيه إلى حد ، فإذا تجاوزوه وقفوا بعده ولم يمكنهم التخطي ، ولم يقدروا على التعدي ؛ إلا أن يحصل ما يخرق العادة ، وينقض العرف ؛ ولن يكون ذلك إلا للدلالة على النبوات ، على شروط في ذلك .
والقدر الذي يفوت الحد في البيان ، ويتجاوز الوهم ، ويشذ عن الصنعة ، ويقذفه الطبع في النادر القليل ، كالبيت البديع ، والقطعة الشريفة التي تتفق في ديوان شاعر ، والفقرة تتفق في رسالة كاتب ، حتى يكون الشاعر ابن بيت أو بيتين ، أو قطعة أو قطعتين ؛ والأديب شهير كلمة أو كلمتين - ذلك أمر قليل .
ولو كان كلامه كله يطرد على ذلك المسلك ، ويستمر على ذلك المنهج ؛ أمكن أن يدعي فيه الإعجاز .
ولكنك إن كنت من أهل الصنعة : تعلم قلة الأبيات الشوارد ، والكلمات الفرائد ، وأمهات القلائد .
فإن أردت أن تجد قصيدة كلها وحشية ، وأردت أن تراها مثل بيت من أبياتها مرضية - لم تجد ذلك في الدواوين ، ولم تظفر بذلك إلى يوم الدين .
ونحن لم ننكر أن يستدرك البشر كلمة شريفة ، ولفظة بديعة ؛ وإنما أنكرنا أن يقدروا على مثل نظم سورة أو نحوها ، وأحلنا أن يتمكنوا من حد في البلاغة ، ومقدار في الخطابة .
وهذا كما قلناه : من أن صورة الشعر قد تتفق في القرآن ، وإن لم يكن له حكم الشعر .
[ ص: 286 ] * * *
فأما قدر المعجز فقد بينا أنها السورة ، طالت أو قصرت ، وبعد ذلك خلاف :
من الناس من قال : مقدار كل سورة أو أطول آية ، فهو معجز .
وعندنا كل واحد من الأمرين معجز ، والدلالة عليه ما تقدم ، والبلاغة لا تتبين بأقل من ذلك ، فلذلك لم نحكم بإعجازه ، وما صح أن تتبين فيه البلاغة ؛ ومحصولها الإبانة في الإبلاغ عن ذات النفس على أحسن معنى وأجزل لفظ ، وبلوغ الغاية في المقصود بالكلام .
فإذا بلغ الكلام غايته في هذا المعنى ، كان بالغا وبليغا . فإذا تجاوز حد البلاغة إلى حيث لا يقدر عليه أهل الصناعة ، وانتهى إلى أمد يعجز عنه الكامل في البراعة - صح أن يكون له حكم المعجزات ، وجاز أن يقع موقع الدلالات .
وقد ذكرنا أنه بجنسه وأسلوبه مباين لسائر كلامهم ، ثم بما يتضمن من تجاوزه في البلاغة الحد الذي يقدر عليه البشر .
* * *
فإن قيل : فإذا كان يجوز عندكم أن يتفق في شعر الشاعر قطعة عجيبة شاردة ، تباين جميع ديوانه في البلاغة ، ويقع في ديوانه بيت واحد يخالف مألوف طبعه ، ولا يعرف سبب ذلك البيت ، ولا تلك القطعة في التفصيل ، ولو أراد أن يأتي بمثل ذلك أو يجعل جميع كلامه من ذلك النمط ، لم يجد إلى ذلك سبيلا ، وله سبب في الجملة وهو التقدم في الصنعة ؛ لأنه يتفق من المتأخر فيها - فهلا قلتم : إنه إذا بلغ في العلم بالصناعة مبالغه القصوى ،
[ ص: 287 ] كان جميع كلامه من نمط ذلك البيت وسمت تلك القطعة ؟ وهلا قلتم : إن القرآن من هذا الباب ؟
فالجواب : أنا لم نجد أحدا بلغ الحد الذي وصفتم في العادة . وهذا الناس وأهل البلاغة أشعارهم عندنا محفوظة ، وخطبهم منقولة ، ورسائلهم مأثورة ، وبلاغاتهم مروية ، وحكمهم مشهورة ؛ وكذلك أهل الكهانة والبلاغة ، مثل
قس بن ساعدة ،
وسحبان وائل ، ومثل
شق ،
وسطيح ، وغيرهم - كلامهم معروف عندنا ، وموضوع بين أيدينا ، لا يخفى علينا في الجملة بلاغة بليغ ، ولا خطابة خطيب ، ولا براعة شاعر مفلق ، ولا كتابة كاتب مدقق .
فلما لم نجد في شيء من ذلك ما يداني القرآن في البلاغة ، أو يشاكله في الإعجاز ، مع ما وقع من التحدي إليه المدة الطويلة ، وتقدم من التقريع في المجازاة الأمد المديد ، وثبت له وحده خاصة قصب السبق ، والاستيلاء على الأمد ، وعجز الكل عنه ، ووقفوا دونه حيارى ، يعرفون عجزهم ، وإن جهل قوم سببه ، ويعلمون نقصهم ، وإن أغفل قوم وجهه - رأينا أنه ناقض للعادة ، ورأينا أنه خارق للمعروف في الجبلة . وخرق العادة إنما يقع بالمعجزات على وجه إقامة البرهان على النبوات ، وعلى أن من ظهرت عليه ، ووقعت موقع الهداية إليه ، صادق فيما يدعيه من نبوته ، ومحق في قوله ، ومصيب في هديه ، قد شهدت له الحجة البالغة ، والكلمة التامة ، والبرهان النير ، والدليل البين .
[ ص: 262 ] فَصْلٌ
فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28914وَصْفِ وُجُوهٍ مِنَ الْبَلَاغَةِ
ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ وَالْكَلَامِ : أَنَّ الْبَلَاغَةَ عَلَى عَشَرَةِ أَقْسَامٍ :
الْإِيجَازُ ، وَالتَّشْبِيهُ ، وَالِاسْتِعَارَةُ ، وَالتَّلَاؤُمُ ، وَالْفَوَاصِلُ ، وَالتَّجَانُسُ ، وَالتَّصْرِيفُ ، وَالتَّضْمِينُ ، وَالْمُبَالَغَةُ ، وَحُسْنُ الْبَيَانِ .
فَأَمَّا " الْإِيجَازُ " فَإِنَّمَا يَحْسُنُ مَعَ تَرْكِ الْإِخْلَالِ بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى ، فَيَأْتِي بِاللَّفْظِ الْقَلِيلِ الشَّامِلِ لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ .
وَذَلِكَ يَنْقَسِمُ إِلَى حَذْفٍ ، وَقَصْرٍ :
فَالْحَذْفُ : الْإِسْقَاطُ لِلتَّخْفِيفِ ، كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=82وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ . وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=21طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ .
وَحَذْفُ الْجَوَابِ كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=31وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى . كَأَنَّهُ قِيلَ : لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنَ .
وَالْحَذْفُ أَبْلَغُ مِنَ الذِّكْرِ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَذْهَبُ كُلَّ مَذْهَبٍ فِي الْقَصْدِ مِنَ الْجَوَابِ .
[ ص: 263 ] وَالْإِيجَازُ بِالْقَصْرِ كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=179وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=4يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=23إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=43وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ .
وَالْإِطْنَابُ فِيهِ بَلَاغَةٌ ، فَأَمَّا التَّطْوِيلُ فَفِيهِ عِيٌّ .
* * *
وَأَمَّا التَّشْبِيهُ ، فَهُوَ الْعَقْدُ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ يَسُدُّ مَسَدَّ الْآخَرِ فِي
[ ص: 264 ] حِسٍّ أَوْ عَقْلٍ ، كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=39وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=18مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=171وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=24إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضِ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=19إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=20تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ .
[ ص: 265 ] وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=37فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=20أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=5مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=176فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=7كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=41مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ [ ص: 266 ] بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=24وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=14خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ . وَنَحْوِ ذَلِكَ .
* * *
وَمِنْ ذَلِكَ : " بَابُ الِاسْتِعَارَةِ " وَذَلِكَ يُبَايِنُ " التَّشْبِيهَ " .
كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=23وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا .
وَكَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=94فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ .
وَكَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=11إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=154وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ .
[ ص: 267 ] وَكَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=12فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=18بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ . فَالدَّمْغُ وَالْقَذْفُ مُسْتَعَارٌ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=37وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=7وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=51فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=4حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=18وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=214مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا .
[ ص: 268 ] وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=187فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=24أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=15حَصِيدًا خَامِدِينَ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=225أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=46وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=29وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=21وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=11فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ يُرِيدُ : أَنْ لَا إِحْسَاسَ بِآذَانِهِمْ مِنْ غَيْرِ صَمَمٍ .
[ ص: 269 ] وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=149وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ .
وَهَذَا أَوْقَعُ مِنَ اللَّفْظِ الظَّاهِرِ ، وَأَبْلَغُ مِنَ الْكَلَامِ الْمَوْضُوعِ لَهُ .
* * *
وَأَمَّا " التَّلَاؤُمُ " ، فَهُوَ : تَعْدِيلُ الْحُرُوفِ فِي التَّأْلِيفِ . وَهُوَ نَقِيضُ " التَّنَافُرِ " الَّذِي هُوَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ :
وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَانٍ قَفْرٍ وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ
قَالُوا : هُوَ مِنْ شِعْرِ الْجِنِّ ! وَحُرُوفُهُ مُتَنَافِرَةٌ ، لَا يُمْكِنُ إِنْشَادُهُ إِلَّا بِتَتَعْتُعٍ فِيهِ !
" وَالتَّلَاؤُمُ " عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا فِي الطَّبَقَةِ الْوُسْطَى ، كَقَوْلِهِ :
رَمَتْنِي وَسَتْرُ اللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَهَا عَشِيَّةَ آرَامِ الْكِنَاسِ رَمِيمُ
رَمِيمُ الَّتِي قَالَتْ لِجَارَاتِ بَيْتِهَا : ضَمِنْتُ لَكُمْ أَنْ لَا يَزَالَ يَهِيمُ
أَلَا رُبَّ يَوْمٍ لَوْ رَمَتْنِي رَمَيْتُهَا وَلَكِنَّ عَهْدِي بِالنِّضَالِ قَدِيمُ
[ ص: 270 ] قَالُوا : وَالْمُتَلَائِمُ فِي الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا : الْقُرْآنُ كُلُّهُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ أَحْسَنَ إِحْسَاسًا لَهُ مِنْ بَعْضٍ ، كَمَا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَفْطَنُ لِلْمَوْزُونِ بِخِلَافِ بَعْضٍ .
وَ " التَّلَاؤُمُ " : حُسْنُ الْكَلَامِ فِي السَّمْعِ ، وَسُهُولَتُهُ فِي اللَّفْظِ ، وَوَقْعُ الْمَعْنَى فِي الْقَلْبِ . وَذَلِكَ كَالْخَطِّ الْحَسَنِ وَالْبَيَانِ الشَّافِي ؛ وَالْمُتَنَافِرُ كَالْخَطِّ الْقَبِيحِ ، فَإِذَا انْضَافَ إِلَى التَّلَاؤُمِ حُسْنُ الْبَيَانِ وَصِحَّةُ الْبُرْهَانِ فِي أَعْلَى الطَّبَقَاتِ - ظَهَرَ الْإِعْجَازُ لِمَنْ كَانَ جَيِّدَ الطَّبْعِ ، وَبَصِيرًا بِجَوَاهِرِ الْكَلَامِ ، كَمَا يَظْهَرُ لَهُ أَعْلَى طَبَقَةِ الشِّعْرِ .
وَ " الْمُتَنَافِرُ " ، ذَهَبَ
nindex.php?page=showalam&ids=14248الْخَلِيلُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ بُعْدٍ شَدِيدٍ ، أَوْ قُرْبٍ شَدِيدٍ ؛ فَإِذَا بَعُدَ فَهُوَ كَالطَّفْرِ ، وَإِذَا قَرُبَ جِدًّا كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَشْيِ الْمُقَيَّدِ . وَيَبِينُ بِقُرْبِ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ وَتَبَاعُدِهَا .
* * *
وَأَمَّا " الْفَوَاصِلُ " : فَهِيَ حُرُوفٌ مُتَشَاكِلَةٌ فِي الْمَقَاطِعِ ، يَقَعُ بِهَا إِفْهَامُ الْمَعَانِي وَفِيهَا بَلَاغَةٌ . وَالْأَسْجَاعُ عَيْبٌ ؛ لِأَنَّ السَّجْعَ يَتْبَعُهُ الْمَعْنَى ، وَالْفَوَاصِلُ تَابِعَةٌ
[ ص: 271 ] لِلْمَعَانِي . وَالسَّجْعُ كَقَوْلِ
" مُسَيْلِمَةَ " .
ثُمَّ الْفَوَاصِلُ قَدْ تَقَعُ عَلَى حُرُوفٍ مُتَجَانِسَةٍ ، كَمَا قَدْ تَقَعُ عَلَى حُرُوفٍ مُتَقَارِبَةٍ ؛ وَلَا تَحْتَمِلُ الْقَوَافِي مَا تَحْتَمِلُ الْفَوَاصِلُ ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا فِي الْبَلَاغَةِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَحْسُنُ فِيهَا بِمُجَانَسَةِ الْقَوَافِي وَإِقَامَةِ الْوَزْنِ .
وَأَمَّا " التَّجَانُسُ " ، فَهُوَ : بَيَانُ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ الَّذِي يَجْمَعُهُ أَصْلٌ وَاحِدٌ .
وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ : مُزَاوَجَةٌ ، وَمُنَاسَبَةٌ .
الْمُزَاوَجَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=54وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ .
وَكَقَوْلِ
عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ :
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا
[ ص: 272 ] * * *
وَأَمَّا " الْمُنَاسَبَةُ " ، فَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=127ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ، وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=37يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ .
* * *
وَأَمَّا " التَّصْرِيفُ " فَهُوَ : تَصْرِيفُ الْكَلَامِ فِي الْمَعَانِي ، كَتَصْرِيفِهِ فِي الدَّلَالَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ ؛ كَتَصْرِيفِ " الْمُلْكِ " فِي مَعَانِي الصِّفَاتِ ، فَصُرِّفَ فِي مَعْنَى " مَالِكٍ " وَ " مَلِكٍ " وَ " ذِي الْمَلَكُوتِ " وَ " الْمَلِيكِ " ، وَفِي مَعْنَى " التَّمْلِيكِ " ، وَ " التَّمَلُّكِ " ، وَ " الْإِمْلَاكِ " ؛ وَتَصْرِيفُ الْمَعْنَى فِي الدَّلَالَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ ، كَمَا كَرَّرَ مِنْ قِصَّةِ
مُوسَى فِي مَوَاضِعَ .
* * *
وَأَمَّا " التَّضْمِينُ " فَهُوَ : حُصُولُ مَعْنًى فِيهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِهِ لَهُ بِاسْمٍ أَوْ صِفَةٍ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْهُ .
[ ص: 273 ] وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ :
تَضْمِينٌ تُوجِبُهُ الْبِنْيَةُ ، كَقَوْلِنَا : " مَعْلُومٌ " ، يُوجِبُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَالِمٍ .
وَتَضْمِينٌ يُوجِبُهُ مَعْنَى الْعِبَارَةِ مِنْ حَيْثُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ ، كَالصِّفَةِ بِضَارِبٍ ، عَلَى مَضْرُوبٍ .
وَالتَّضْمِينُ كُلُّهُ إِيجَازٌ ، وَذُكِرَ : أَنَّ التَّضْمِينَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَاتُ الْقِيَاسِ أَيْضًا إِيجَازٌ .
وَذُكِرَ : أَنَّ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " مِنْ بَابِ التَّضْمِينِ ؛ لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ تَعْلِيمَ الِاسْتِفْتَاحِ فِي الْأُمُورِ بِاسْمِهِ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - ، أَوِ التَّبَرُّكِ بِاسْمِهِ .
* * *
وَأَمَّا " الْمُبَالَغَةُ " ، فَهِيَ : الدَّلَالَةُ عَلَى كَثْرَةِ الْمَعْنَى . وَذَلِكَ عَلَى وُجُوهٍ :
مِنْهَا مُبَالَغَةٌ فِي الصِّفَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِذَلِكَ ، كَقَوْلِكَ : " رَحْمَانُ " عَدَلَ عَنْ رَاحِمٍ "
[ ص: 274 ] لِلْمُبَالَغَةِ ، وَكَقَوْلِهِ " غَفَّارٌ " ، وَكَذَلِكَ فَعَّالٌ وَفَعُولٌ ، كَقَوْلِهِ : " شَكُورٌ " ، وَ " غَفُورٌ " ، وَفَعِيلٌ ، كَقَوْلِهِ : " رَحِيمٌ " وَ " قَدِيرٌ " .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُبَالِغَ بِاللَّفْظَةِ الَّتِي هِيَ صِفَةٌ عَامَّةٌ ، كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=62خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَكَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=26فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ .
وَكَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=40وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ .
وَكَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=24وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ .
وَقَدْ يَدْخُلُ فِيهِ الْحَذْفُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِلْمُبَالَغَةِ .
* * *
وَأَمَّا " حُسْنُ الْبَيَانِ " فَالْبَيَانُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : كَلَامٌ ، وَحَالٌ ، وَإِشَارَةٌ ، وَعَلَامَةٌ .
وَيَقَعُ التَّفَاضُلُ فِي الْبَيَانِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=1الرَّحْمَنُ nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=2عَلَّمَ [ ص: 275 ] الْقُرْآنَ nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=3خَلَقَ الإِنْسَانَ nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=4عَلَّمَهُ الْبَيَانَ .
وَنَقِيضُهُ الْعِيُّ ، وَمِنْهُ قِيلَ : أَعْيَا مِنْ
بَاقِلٍ ، سُئِلَ عَنْ ظَبْيَةٍ فِي يَدِهِ : بِكَمِ اشْتَرَاهَا ؟ فَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ : بِأَحَدَ عَشَرَ ، فَأَشَارَ بِيَدَيْهِ مَادًّا أَصَابِعَهُ الْعَشْرَ ، ثُمَّ أَدْلَعَ لِسَانَهُ ، فَأَفْلَتَتِ الظَّبْيَةُ مِنْ يَدِهِ ! !
* * *
ثُمَّ الْبَيَانُ عَلَى مَرَاتِبَ .
قُلْنَا : قَدْ كُنَّا حَكَيْنَا أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ مِنْ وُجُوهِ الْبَلَاغَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا تُسَمَّى " الْبَدِيعَ " فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ، مِمَّا مَضَتْ أَمْثِلَتُهُ فِي الشِّعْرِ .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ : أَنَّهُ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا فِي هَذَا الْفَصْلِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ قَبْلَ هَذَا وَذَهَبْنَا إِلَيْهِ هُوَ سَدِيدٌ ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تَنْقَسِمُ :
فَمِنْهَا مَا يُمْكِنُ الْوُقُوعُ عَلَيْهِ ، وَالتَّعَمُّلُ لَهُ ، وَيُدْرَكُ بِالتَّعَلُّمِ ؛ فَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِهِ .
وَأَمَّا مَا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّعَمُّلِ مِنَ الْبَلَاغَاتِ ، فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى إِعْجَازِهِ ؛ وَنَحْنُ نَضْرِبُ لَكَ أَمْثِلَةً ، لِتَقِفَ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ .
وَذَكَرْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ عَنْ هَذَا " الْقَائِلِ " أَنَّ التَّشْبِيهَ تُعْرَفُ بِهِ الْبَلَاغَةُ . وَذَلِكَ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنْ إِنْ قُلْنَا : مَا وَقَعَ مِنَ التَّشْبِيهِ فِي الْقُرْآنِ مُعْجِزٌ - عَرَضَ عَلَيْنَا
[ ص: 276 ] مِنَ التَّشْبِيهَاتِ الْجَارِيَةِ فِي الْأَشْعَارِ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْكَ ، وَأَنْتَ تَجِدُ فِي شِعْرِ
nindex.php?page=showalam&ids=12899ابْنِ الْمُعْتَزِّ مِنَ التَّشْبِيهِ الْبَدِيعِ الَّذِي يُشْبِهُ السِّحْرَ ، وَقَدْ تَتَبَّعَ فِي هَذَا مَا لَمْ يَتَتَبَّعْ غَيْرُهُ ، وَاتَّفَقَ لَهُ مَا لَمْ يَتَّفِقْ لِغَيْرِهِ مِنَ الشُّعَرَاءِ .
وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ وُجُوهِ الْبَلَاغَةِ ، قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَعَلُّمَهَا يُمْكِنُ ، وَلَيْسَ تَقَعُ الْبَلَاغَةُ بِوَجْهٍ وَاحِدٍ مِنْهَا دُونَ غَيْرِهِ .
فَإِنْ كَانَ إِنَّمَا يَعْنِي هَذَا " الْقَائِلُ " أَنَّهُ إِذَا أَتَى فِي كُلِّ مَعْنًى يَتَّفِقُ فِي كَلَامِهِ بِالطَّبَقَةِ الْعَالِيَةِ ، ثُمَّ كَانَ مَا يَصِلُ بِهِ كَلَامَهُ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ ، وَيَنْتَهِي مِنْهُ إِلَى مُتَصَرَّفَاتِهِ - : عَلَى أَتَمِّ الْبَلَاغَةِ وَأَبْدَعِ الْبَرَاعَةِ - فَهَذَا مِمَّا لَا نَأْبَاهُ ، بَلْ نَقُولُ بِهِ .
وَإِنَّمَا نُنْكِرُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ : إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْوُجُوهِ بِانْفِرَادِهَا قَدْ حَصَلَ فِيهِ الْإِعْجَازُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَارِنَهُ مَا يَصِلُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ وَيُفْضِي إِلَيْهِ ، مِثْلَ مَا يَقُولُ : إِنَّ مَا أَقْسَمَ بِهِ وَحْدَهُ بِنَفْسِهِ مُعْجِزٌ ، وَإِنَّ التَّشْبِيهَ مُعْجِزٌ ، وَإِنَّ التَّجْنِيسَ مُعْجِزٌ ، وَالْمُطَابَقَةَ بِنَفْسِهَا مُعْجِزَةٌ .
فَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ التَّشْبِيهِ ، فَإِنِ ادَّعَى إِعْجَازَهَا لِأَلْفَاظِهَا وَنَظْمِهَا وَتَأْلِيفِهَا - فَإِنِّي لَا أَدْفَعُ ذَلِكَ وَأُصَحِّحُهُ ، وَلَكِنْ لَا أَدَّعِي إِعْجَازَهَا لِمَوْضِعِ التَّشْبِيهِ .
وَصَاحِبُ " الْمَقَالَةِ " الَّتِي حَكَيْنَاهَا ، أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى مَوْضِعِ التَّشْبِيهِ وَمَا قُرِنَ بِهِ مِنَ الْوُجُوهِ ، وَمِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ مَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِعْجَازَ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَالْبَيَانِ ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِجِنْسٍ مِنَ الْمُبَيَّنِ دُونَ جِنْسٍ ، وَلِذَلِكَ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=138هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=89تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=195بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ، فَكَرَّرَ فِي مَوَاضِعَ - جَلَّ ذِكْرُهُ - أَنَّهُ مُبِينٌ .
فَالْقُرْآنُ أَعْلَى مَنَازِلِ الْبَيَانِ ، وَأَعْلَى مَرَاتِبِهِ مَا جَمَعَ وُجُوهَ الْحُسْنِ وَأَسْبَابَهُ ، وَطُرُقَهُ وَأَبْوَابَهُ : مِنْ تَعْدِيلِ النَّظْمِ وَسَلَامَتِهِ ، وَحُسْنِهِ وَبَهْجَتِهِ ، وَحُسْنِ مَوْقِعِهِ فِي السَّمْعِ ، وَسُهُولَتِهِ عَلَى اللِّسَانِ ، وَوُقُوعِهِ فِي النَّفْسِ مَوْقِعَ الْقَبُولِ ، وَتَصَوُّرِهِ تَصَوُّرَ الْمُشَاهَدِ ،
[ ص: 277 ] وَتَشَكُّلِهِ عَلَى جِهَتِهِ حَتَّى يَحِلَّ مَحَلَّ الْبُرْهَانِ وَدَلَالَةِ التَّأْلِيفِ ، مِمَّا لَا يَنْحَصِرُ حُسْنًا وَبَهْجَةً وَسَنَاءً وَرِفْعَةً .
وَإِذَا عَلَا الْكَلَامُ فِي نَفْسِهِ ، كَانَ لَهُ مِنَ الْوَقْعِ فِي الْقُلُوبِ وَالتَّمَكُّنِ فِي النُّفُوسِ ، مَا يُذْهِلُ وَيُبْهِجُ ، وَيُقْلِقُ وَيُؤْنِسُ ، وَيُطْمِعُ وَيُؤْيِسُ ، وَيُضْحِكُ وَيُبْكِي ، وَيُحْزِنُ وَيُفْرِحُ ، وَيُسْكِنُ وَيُزْعِجُ ، وَيُشْجِي وَيُطْرِبُ ، وَيَهُزُّ الْأَعْطَافَ ، وَيَسْتَمِيلُ نَحْوَهُ الْأَسْمَاعَ ، وَيُورِثُ الْأَرْيَحِيَّةَ وَالْعِزَّةَ ، وَقَدْ يَبْعَثُ عَلَى بَذْلِ الْمُهَجِ وَالْأَمْوَالِ شَجَاعَةً وَجُودًا ، وَيَرْمِي السَّامِعُ مِنْ وَرَاءِ رَأْيِهِ مَرْمًى بَعِيدًا .
وَلَهُ مَسَالِكُ فِي النُّفُوسِ لَطِيفَةٌ ، وَمَدَاخِلُ إِلَى الْقُلُوبِ دَقِيقَةٌ .
وَبِحَسَبَ مَا يَتَرَتَّبُ فِي نَظْمِهِ ، وَيَتَنَزَّلُ فِي مَوْقِعِهِ ، وَيَجْرِي عَلَى سَمْتِ مَطْلَعِهِ وَمَقْطَعِهِ - يَكُونُ عَجِيبُ تَأْثِيرَاتِهِ ، وَبَدِيعُ مُقْتَضَيَاتِهِ .
وَكَذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَصَادِرِهِ ، يُتَصَوَّرُ وُجُوهُ مَوَارِدِهِ .
وَقَدْ يُنْبِئُ الْكَلَامُ عَنْ مَحِلِّ صَاحِبِهِ ، وَيَدُلُّ عَلَى مَكَانِ مُتَكَلِّمِهِ ، وَيُنَبِّهُ عَلَى عَظِيمِ شَأْنِ أَهْلِهِ ، وَعَلَى عُلُوِّ مَحَلِّهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الشِّعْرَ فِي الْغَزَلِ إِذَا صَدَرَ عَنْ مُحِبٍّ ، كَانَ أَرَقَّ وَأَحْسَنَ ؛ وَإِذَا صَدَرَ عَنْ مُتَعَمِّلٍ ، وَحَصَلَ مِنْ مُتَصَنِّعٍ - نَادَى عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُدَاجَاةِ ، وَأَخْبَرَ عَنْ خَبِيئِهِ فِي الْمُرَاءَاةِ ؟ !
وَكَذَلِكَ قَدْ يَصْدُرُ الشِّعْرُ فِي وَصْفِ الْحَرْبِ عَنِ الشُّجَاعِ ، فَيُعْلَمُ وَجْهُ صُدُورِهِ ، وَيَدُلُّ عَلَى كُنْهِهِ وَحَقِيقَتِهِ .
وَقَدْ يَصْدُرُ عَنِ الْمُتَشَبِّهِ ، وَيَخْرُجُ عَنِ الْمُتَصَنِّعِ ، فَيُعْرَفُ مِنْ حَالِهِ مَا ظَنَّ أَنَّهُ يُخْفِيهِ ، وَيَظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ خِلَافُ مَا يُبْدِيهِ .
وَأَنْتَ تَعْرِفُ لِقَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=15155الْمُتَنَبِّي :
فَالْخَيْلُ وَاللَّيْلُ وَالْبَيْدَاءُ تَعْرِفُنِي وَالْحَرْبُ وَالضَّرْبُ وَالْقِرْطَاسُ وَالْقَلَمُ
[ ص: 278 ] مِنَ الْوَقْعِ فِي الْقَلْبِ - لِمَا تَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّجَاعَةِ - مَا لَا تَجِدُهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13823لِلْبُحْتُرِيِّ فِي قَوْلِهِ :
وَأَنَا الشُّجَاعُ وَقَدْ بَدَا لَكَ مَوْقِفِي بِعَقَرْقَسٍ وَالْمَشْرَفِيَّةُ شُهَّدِي
وَتَجِدُ
لِابْنِ الْمُعْتَزِّ فِي مَوْقِعِ شِعْرِهِ مِنَ الْقَلْبِ ، فِي الْفَخْرِ وَغَيْرِهِ ، مَا لَا تَجِدُهُ لِغَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ :
إِذَا شِئْتُ أَوْقَرْتُ الْبِلَادَ حَوَافِرًا وَسَارَتْ وَرَائِي هَاشِمٌ وَنِزَارُ
وَعَمَّ السَّمَاءَ النَّقْعُ حَتَّى كَأَنَّهُ دُخَانٌ وَأَطْرَافُ الرِّمَاحِ شَرَارُ
وَقَالَ :
قَدْ تَرَدَّيْتُ بِالْمَكَارِمِ دَهْرًا وَكَفَتْنِي نَفْسِي مِنَ الِافْتِخَارِ
أَنَا جَيْشٌ إِذَا غَزَوْتُ وَحِيدًا وَوَحِيدٌ فِي الْجَحْفَلِ الْجَرَّارِ
وَقَالَ :
أَيُّهَا السَّائِلِي عَنِ الْحَسَبِ الْأَطْـ ـيَبِ مَا فَوْقَهُ لِخَلْقٍ مَزِيدُ
نَحْنُ آلُ الرَّسُولِ وَالْعِتْرَةُ الْحَقْـ ـقُ وَأَهْلُ الْقُرْبَى ، فَمَاذَا تُرِيدُ ؟
وَلَنَا مَا أَضَاءَ صُبْحٌ عَلَيْهِ وَأَتَتْهُ رَايَاتُ لَيْلٍ سُودُ
وَكَمَا أَنْشَدَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=14785الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : أَنْشَدَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى لِابْنِ الْمُعْتَزِّ قَصِيدَتَهُ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا :
أَنَا ابْنُ الَّذِي سَادَهُمْ فِي الْحَيَّا ةِ وَسَادَهُمْ بِيَ تَحْتَ الثَّرَى
وَمَا لِيَ فِي أَحَدٍ مَرْغَبٌ بَلَى فِيَّ يَرْغَبُ كُلُّ الْوَرَى
وَأَسْهَرُ لِلْمَجْدِ وَالْمَكْرُمَاتِ إِذَا اكْتَحَلَتْ أَعْيُنٌ بِالْكَرَى
[ ص: 279 ] فَانْظُرْ فِي الْقَصِيدَةِ كُلِّهَا ، ثُمَّ فِي جَمِيعِ شِعْرِهِ ، تَعْلَمْ أَنَّهُ مَلِكُ الشِّعْرِ ، وَأَنَّهُ يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْفَخْرِ خَاصَّةً ، ثُمَّ مِمَّا يَتْبَعُهُ مِمَّا يَتَعَاطَاهُ - مَا لَا يَلِيقُ بِغَيْرِهِ ، بَلْ يَنْفِرُ عَنْ سِوَاهُ .
وَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أُكْثِرَ عَلَيْكَ ، فَأُطَوِّلَ الْكِتَابَ بِمَا يَخْرُجُ عَنْ غَرَضِهِ .
وَكَمَا تَرَى مِنْ قَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=12126أَبِي فِرَاسٍ الْحَمْدَانِيِّ فِي نَفْسِكَ إِذَا قَالَ :
وَلَا أُصْبِحُ الْحَيَّ الْخُلُوفَ بِغَارَةٍ وَلَا الْجَيْشَ مَا لَمْ تَأْتِهِ قَبْلِيَ النُّذْرُ
وَيَا رُبَّ دَارٍ لَمْ تَخَفْنِي مَنِيعَةٍ طَلَعْتُ عَلَيْهَا بِالرَّدَى أَنَا وَالْفَجْرُ
وَسَاحِبَةِ الْأَذْيَالِ نَحْوِي لَقِيتُهَا فَلَمْ يَلْقَهَا جَافِي اللِّقَاءِ وَلَا وَعْرُ
وَهَبْتُ لَهَا مَا حَازَهُ الْجَيْشُ كُلُّهُ وَأُبْتُ وَلَمْ يُكْشَفْ لِأَبْيَاتِهَا سِتْرُ
وَمَا رَاحَ يُطْغِينِي بِأَثْوَابِهِ الْغِنَى وَلَا بَاتَ يَثْنِينِي عَنِ الْكَرَمِ الْفَقْرُ
وَمَا حَاجَتِي فِي الْمَالِ أَبْغِي وُفُورَهُ إِذَا لَمْ أَفِرْ وَفْرِي فَلَا وَفَرَ الْوَفْرُ
وَالشَّيْءُ إِذَا صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَبَدَا مِنْ أَصْلِهِ ، وَانْتَسَبَ إِلَى ذَوِيهِ - سَلِمَ فِي نَفْسِهِ ، وَبَانَتْ فَخَامَتُهُ وَشُوهِدَ أَثَرُ الِاسْتِحْقَاقِ فِيهِ .
وَإِذَا صَدَرَ مِنْ مُتَكَلِّفٍ ، وَبَدَا مِنْ مُتَصَنِّعٍ - بَانَ أَثَرُ الْغُرْبَةِ عَلَيْهِ ،
[ ص: 280 ] وَظَهَرَتْ مَخَايِلُ الِاسْتِيحَاشِ فِيهِ ، وَعُرِفَ شَمَائِلُ التَّحَيُّرُ مِنْهُ .
إِنَّا نَعْرِفُ فِي شِعْرِ
nindex.php?page=showalam&ids=12185أَبِي نُوَاسٍ أَثَرَ الشَّطَارَةِ ، وَتَمَكُّنَ الْبَطَالَةِ ، وَمَوْقِعَ كَلَامِهِ فِي وَصْفِ مَا هُوَ بِسَبِيلِهِ مِنْ أَمْرِ الْعِيَارَةِ ، وَوَصْفِ الْخَمْرِ وَالْخَمَّارِ ؛ كَمَا نَعْرِفُ مَوْقِعَ كَلَامِ
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذِي الرُّمَّةِ فِي وَصْفِ الْمَهَامِهِ وَالْبَوَادِي وَالْجِمَالِ وَالْأَنْسَاعِ وَالْأَزِمَّةِ .
وَعَيْبُ
nindex.php?page=showalam&ids=12185أَبِي نُوَاسٍ التَّصَرُّفُ فِي وَصْفِ الطُّلُولِ وَالرِّبَاعِ وَالْوَحْشِ ، فَفَكِّرْ فِي قَوْلِهِ :
دَعِ الْأَطْلَالَ تَسْفِيهَا الْجَنُوبُ وَتُبْلِيَ عَهْدَ جِدَّتِهَا الْخُطُوبُ
وَخَلِّ لِرَاكِبِ الْوَجْنَاءِ أَرْضًا تَخِبُّ بِهِ النَّجِيبَةُ وَالنَّجِيبُ
بِلَادٌ نَبْتُهَا عُشَرٌ وَطَلْحٌ وَأَكْثَرُ صَيْدِهَا ضَبُعٌ وَذِيبُ
وَلَا تَأْخُذْ عَنِ الْأَعْرَابِ لَهْوًا وَلَا عَيْشًا ، فَعَيْشُهُمُ جَدِيبُ
دَعِ الْأَلْبَانَ يَشْرَبُهَا رِجَالٌ رَقِيقُ الْعَيْشِ عِنْدَهُمُ غَرِيبُ
إِذَا رَابَ الْحَلِيبُ فَبُلْ عَلَيْهِ وَلَا تَحْرَجْ ، فَمَا فِي ذَاكَ حُوبُ
فَأَطْيَبُ مِنْهُ صَافِيَةٌ شَمُولٌ يَطُوفُ بِكَأْسِهَا سَاقٍ أَدِيبُ
كَأَنَّ هَدِيرَهَا فِي الدَّنِّ يَحْكِي قِرَاةَ الْقَسِّ قَابَلَهُ الصَّلِيبُ
أَعَاذِلَ أَقْصِرِي عَنْ طُولِ لَوْمِي فَرَاجِي تَوْبَتِي عِنْدِي يَخِيبُ
تَعِيبِينَ الذُّنُوبَ ، وَأَيُّ حُرٍّ مِنَ الْفِتْيَانِ لَيْسَ لَهُ ذُنُوبُ ؟ !
وَقَوْلِهِ :
صِفَةُ الطُّلُولِ بَلَاغَةُ الْفَدْمِ فَاجْعَلْ صِفَاتِكَ لِابْنَةِ الْكَرْمِ
[ ص: 281 ] وَسَمِعْتُ الصَّاحِبَ
إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَبَّادٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ
بَرَاكَوَيْهِ الزَّنْجَانِيَّ يَقُولُ :
أَنْشَدَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ
هِلَالَ بْنَ يَزِيدَ قَصِيدَةً عَلَى وَزْنِ قَصِيدَةِ
الْأَعْشَى :
وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعًا أَيُّهَا الرَّجُلُ ؟
وَكَانَ وَصَفَ فِيهَا الطَّلَلَ ، قَالَ
بَرَاكَوَيْهِ : فَقَالَ لِي هِلَالٌ : فَقُلْتُ بَدِيهًا :
إِذَا سَمِعْتَ فَتًى يَبْكِي عَلَى طَلَلٍ مِنْ أَهْلِ زَنْجَانَ ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ طَلَلُ
* * *
وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ لَكَ هَذِهِ الْأُمُورَ ، لِتَعْلَمَ أَنَّ الشَّيْءَ فِي مَعْدِنِهِ أَعَزُّ ، وَإِلَى مَظَانِّهِ أَحَنُّ ، وَإِلَى أَصْلِهِ أَنْزَعُ ، وَبِأَسْبَابِهِ أَلْيَقُ ؛ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ ، وَيُنَبِّهُ مَا أُنْتِجْ عَنْهُ ، وَيَكُونُ قَرَارُهُ عَلَى مُوجَبِ صُورَتِهِ ، وَأَنْوَارُهُ عَلَى حَسَبِ مَحَلِّهِ ؛ وَلِكُلِّ شَيْءٍ حَدٌّ وَمَذْهَبٌ ، وَلِكُلِّ كَلَامٍ سَبِيلٌ وَمَنْهَجٌ .
وَقَدْ ذَكَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=1أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي كَلَامِ
مُسَيْلِمَةَ مَا أَخْبَرْتُكَ بِهِ ، فَقَالَ : إِنَّ هَذَا كَلَامٌ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إِلٍّ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ الصَّادِرَ عَنْ عِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَرِفْعَةِ الْإِلَهِيَّةِ ، يَتَمَيَّزُ عَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ .
* * *
ثُمَّ رَجَعَ الْكَلَامُ بِنَا إِلَى مَا ابْتَدَأْنَا بِهِ مِنْ عَظِيمِ شَأْنِ الْبَيَانِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا مَا مَنَّ بِهِ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=3خَلَقَ الإِنْسَانَ nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=4عَلَّمَهُ الْبَيَانَ .
[ ص: 282 ] فَأَمَّا بَيَانُ الْقُرْآنِ فَهُوَ أَشْرَفُ بَيَانٍ وَأَهْدَاهُ ، وَأَكْمَلُهُ وَأَعْلَاهُ ، وَأَبْلَغُهُ وَأَسْنَاهُ .
تَأْمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=5أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ فِي شِدَّةِ التَّنْبِيهِ عَلَى تَرْكِهِمُ الْحَقَّ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ . وَمَوْضِعُ امْتِنَانِهِ بِالذِّكْرِ وَالتَّحْذِيرِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=39وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ وَهَذَا بَلِيغٌ فِي التَّحْسِيرِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=28وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ مَجْبُولِينَ عَلَى الشَّرِّ ، مُعَوَّدِينَ لِمُخَالَفَةِ النَّهْيِ وَالْأَمْرِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=67الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ هُوَ فِي نِهَايَةِ الْمَنْعِ مِنَ الْخُلَّةِ إِلَّا عَلَى التَّقْوَى .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=56أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ . وَهَذَا نِهَايَةٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ التَّفْرِيطِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=40أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=44وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ [ ص: 283 ] سَبِيلٍ nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=45وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنَ طَرْفٍ خَفِيٍّ نِهَايَةٌ فِي الْوَعِيدِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=71وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ نِهَايَةٌ فِي التَّرْغِيبِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=91مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=22لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا نِهَايَةٌ فِي
nindex.php?page=showalam&ids=14078الْحِجَاجِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=13وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=14أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ نِهَايَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عِلْمِهِ بِالْخَفِيَّاتِ .
وَلَا وَجْهَ لِلتَّطْوِيلِ ؛ فَإِنَّ بَيَانَ الْجَمِيعِ فِي الرِّفْعَةِ وَكِبَرِ الْمَنْزِلَةِ عَلَى سَوَاءٍ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ : أَنَّ الْبَيَانَ يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْإِعْجَازُ ، وَهُوَ مُعْجِزٌ مِنَ الْقُرْآنِ .
* * *
وَمَا حَكَيْنَا عَنْ " صَاحِبِ الْكَلَامِ " : مِنَ " الْمُبَالَغَةِ " فِي اللَّفْظِ - فَلَيْسَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِعْجَازِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرَهَا قَدْ تَتَّفِقُ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُعْجِزٍ ، بَلْ قَدْ يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَعْنَى وَالصِّفَةِ ، وُجُوهٌ مِنَ اللَّفْظِ تُثْمِرُ الْإِعْجَازَ .
* * *
وَ " تَضْمِينُ الْمَعَانِي " أَيْضًا قَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِعْجَازُ إِذَا حَصَلَتْ لِلْعِبَارَةِ طَرِيقُ الْبَلَاغَةِ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِهَا .
[ ص: 284 ] وَأَمَّا " الْفَوَاصِلُ " فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا الْإِعْجَازُ ، وَكَذَلِكَ قَدْ بَيَّنَّا فِي الْمَقَاطِعِ وَالْمَطَالِعِ نَحْوَ هَذَا ، وَبَيَّنَّا فِي " تَلَاؤُمِ " الْكَلَامِ مَا سَبَقَ : مِنْ صِحَّةِ تَعَلُّقِ الْإِعْجَازِ بِهِ .
وَالتَّصَرُّفُ فِي " الِاسْتِعَارَةِ " الْبَدِيعَةِ يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْإِعْجَازُ ، كَمَا يَصِحُّ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقَائِقِ الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّ الْبَلَاغَةَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَابَيْنِ تَجْرِي مَجْرًى وَاحِدًا وَتَأْخُذُ مَأْخَذًا مُفْرَدًا .
* * *
وَأَمَّا " الْإِيجَازُ وَالْبَسْطُ " فَيَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِمَا الْإِعْجَازُ ، كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَقَائِقِ .
* * *
وَ " الِاسْتِعَارَةُ " وَ " الْبَيَانُ " فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَا يُضْبَطُ حَدُّهُ ، وَلَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُ ، وَلَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إِلَى سَاحِلِ بَحْرِهِ بِالتَّعَلُّمِ ، وَلَا يُتَطَرَّقُ إِلَى غَوْرِهِ بِالتَّسَبُّبِ . وَكُلُّ مَا يُمْكِنُ تَعَلُّمُهُ ، وَيَتَهَيَّأُ تَلَقُّنُهُ ، وَيُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ ، وَيُسْتَدْرَكُ أَخْذُهُ - فَلَا يَجِبُ أَنْ يُطْلَبَ وُقُوعُ الْإِعْجَازِ بِهِ .
وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إِنَّ " السَّجْعَ " مَا لَيْسَ يُلْتَمَسُ فِيهِ الْإِعْجَازُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مَحْدُودٌ ، وَسَبِيلٌ مَوْرُودٌ ، وَمَتَى تَدَرَّبَ الْإِنْسَانُ بِهِ وَاعْتَادَهُ لَمْ يَسْتَصْعِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ جَمِيعَ كَلَامِهِ مِنْهُ .
وَكَذَلِكَ " التَّجْنِيسُ " وَ " التَّطْبِيقُ " مَتَى أَخَذَ أَخْذَهُمَا وَطَلَبَ وَجْهَهُمَا ، اسْتَوْفَى مَا شَاءَ ، وَلَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ أَنْ يَمْلَأَ خِطَابَهُ مِنْهُ ، كَمَا أُولِعَ بِذَلِكَ
nindex.php?page=showalam&ids=11952أَبُو تَمَّامٍ nindex.php?page=showalam&ids=13823وَالْبُحْتُرِيُّ ، وَإِنْ كَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=13823الْبُحْتُرِيُّ أَشْغَفَ بِالْمُطَابَقِ ، وَأَقَلُّ طَلَبًا لِلْمُجَانَسِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : هَلَّا قُلْتَ : إِنَّ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ يَقَعُ فِيهِمَا مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ ، لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا بِالتَّعَلُّمِ ، وَلَا تُمْلَكُ بِالتَّعَمُّلِ ؛ كَمَا ذَكَرْتُمْ فِي الْبَيَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؟
قُلْنَا : لَوْ عَمَدَ إِلَى كِتَابِ " الْأَجْنَاسِ " ، وَنَظَرَ فِي كِتَابِ " الْعَيْنِ " ؛ لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ التَّجْنِيسُ الْكَثِيرُ .
فَأَمَّا " الْإِطْبَاقُ " فَهُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيَانُ وَالْوُجُوهُ الَّتِي رَأَيْنَا الْإِعْجَازَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تُسْتَوْفَى بِالتَّعَلُّمِ .
[ ص: 285 ] فَإِنْ قِيلَ : فَالْبَيَانُ قَدْ يُتَعَلَّمُ ؟
قِيلَ : إِنَّ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَصَّلَ إِلَيْهِ بِالتَّعَلُّمِ يَتَقَارَبُ فِيهِ النَّاسُ ، وَتَتَنَاهَى فِيهِ الْعَادَاتُ ، وَهُوَ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ مَقَادِيرِ الْقُوَى فِي حَمْلِ الثَّقِيلِ ، وَأَنَّ النَّاسَ يَتَقَارَبُونَ فِي ذَلِكَ ، فَيَرْمُونَ فِيهِ إِلَى حَدٍّ ، فَإِذَا تَجَاوَزُوهُ وَقَفُوا بَعْدَهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُمُ التَّخَطِّي ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى التَّعَدِّي ؛ إِلَّا أَنْ يَحْصُلَ مَا يَخْرُقُ الْعَادَةَ ، وَيَنْقُضُ الْعُرْفَ ؛ وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى النُّبُوَّاتِ ، عَلَى شُرُوطٍ فِي ذَلِكَ .
وَالْقَدْرُ الَّذِي يَفُوتُ الْحَدَّ فِي الْبَيَانِ ، وَيَتَجَاوَزُ الْوَهْمَ ، وَيَشِذُّ عَنِ الصَّنْعَةِ ، وَيَقْذِفُهُ الطَّبْعُ فِي النَّادِرِ الْقَلِيلِ ، كَالْبَيْتِ الْبَدِيعِ ، وَالْقِطْعَةِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي تَتَّفِقُ فِي دِيوَانِ شَاعِرٍ ، وَالْفِقْرَةِ تَتَّفِقُ فِي رِسَالَةِ كَاتِبٍ ، حَتَّى يَكُونَ الشَّاعِرُ ابْنَ بَيْتٍ أَوْ بَيْتَيْنِ ، أَوْ قِطْعَةٍ أَوْ قِطْعَتَيْنِ ؛ وَالْأَدِيبُ شَهِيرَ كَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَتَيْنِ - ذَلِكَ أَمْرٌ قَلِيلٌ .
وَلَوْ كَانَ كَلَامُهُ كُلُّهُ يَطَّرِدُ عَلَى ذَلِكَ الْمَسْلَكِ ، وَيَسْتَمِرُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَنْهَجِ ؛ أَمْكَنَ أَنْ يَدَّعِيَ فِيهِ الْإِعْجَازَ .
وَلَكِنَّكَ إِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الصَّنْعَةِ : تَعْلَمْ قِلَّةَ الْأَبِيَّاتِ الشَّوَارِدِ ، وَالْكَلِمَاتِ الْفَرَائِدِ ، وَأُمَّهَاتِ الْقَلَائِدِ .
فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَجِدَ قَصِيدَةً كُلَّهَا وَحْشِيَّةً ، وَأَرَدْتَ أَنْ تَرَاهَا مِثْلَ بَيْتٍ مِنْ أَبْيَاتِهَا مَرَضِيَّةً - لَمْ تَجِدْ ذَلِكَ فِي الدَّوَاوِينِ ، وَلَمْ تَظْفَرْ بِذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .
وَنَحْنُ لَمْ نُنْكِرْ أَنْ يَسْتَدْرِكَ الْبَشَرُ كَلِمَةً شَرِيفَةً ، وَلَفْظَةً بَدِيعَةً ؛ وَإِنَّمَا أَنْكَرْنَا أَنْ يَقْدِرُوا عَلَى مِثْلِ نَظْمِ سُورَةٍ أَوْ نَحْوِهَا ، وَأَحَلْنَا أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ حَدٍّ فِي الْبَلَاغَةِ ، وَمِقْدَارٍ فِي الْخَطَابَةِ .
وَهَذَا كَمَا قُلْنَاهُ : مِنْ أَنَّ صُورَةَ الشِّعْرِ قَدْ تَتَّفِقُ فِي الْقُرْآنِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمُ الشِّعْرِ .
[ ص: 286 ] * * *
فَأَمَّا قَدْرُ الْمُعْجِزِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا السُّورَةُ ، طَالَتْ أَوْ قَصُرَتْ ، وَبَعْدَ ذَلِكَ خِلَافٌ :
مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ : مِقْدَارُ كَلِّ سُورَةٍ أَوْ أَطْوَلِ آيَةٍ ، فَهُوَ مُعْجِزٌ .
وَعِنْدَنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مُعْجِزٌ ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ ، وَالْبَلَاغَةُ لَا تَتَبَيَّنُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ، فَلِذَلِكَ لَمْ نَحْكُمْ بِإِعْجَازِهِ ، وَمَا صَحَّ أَنْ تَتَبَيَّنَ فِيهِ الْبَلَاغَةُ ؛ وَمَحْصُولُهَا الْإِبَانَةُ فِي الْإِبْلَاغِ عَنْ ذَاتِ النَّفْسِ عَلَى أَحْسَنِ مَعْنًى وَأَجْزَلِ لَفْظٍ ، وَبُلُوغُ الْغَايَةِ فِي الْمَقْصُودِ بِالْكَلَامِ .
فَإِذَا بَلَغَ الْكَلَامُ غَايَتَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى ، كَانَ بَالِغًا وَبَلِيغًا . فَإِذَا تَجَاوَزَ حَدَّ الْبَلَاغَةِ إِلَى حَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ ، وَانْتَهَى إِلَى أَمَدٍ يَعْجَزُ عَنْهُ الْكَامِلُ فِي الْبَرَاعَةِ - صَحَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمُ الْمُعْجِزَاتِ ، وَجَازَ أَنْ يَقَعَ مَوْقِعَ الدَّلَالَاتِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِجِنْسِهِ وَأُسْلُوبِهِ مُبَايِنٌ لِسَائِرِ كَلَامِهِمْ ، ثُمَّ بِمَا يَتَضَمَّنُ مِنْ تَجَاوُزِهِ فِي الْبَلَاغَةِ الْحَدَّ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ .
* * *
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ عِنْدَكُمْ أَنْ يَتَّفِقَ فِي شِعْرِ الشَّاعِرِ قِطْعَةٌ عَجِيبَةٌ شَارِدَةٌ ، تُبَايِنُ جَمِيعَ دِيوَانِهِ فِي الْبَلَاغَةِ ، وَيَقَعُ فِي دِيوَانِهِ بَيْتٌ وَاحِدٌ يُخَالِفُ مَأْلُوفَ طَبْعِهِ ، وَلَا يُعْرَفُ سَبَبُ ذَلِكَ الْبَيْتِ ، وَلَا تِلْكَ الْقِطْعَةِ فِي التَّفْصِيلِ ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَوْ يَجْعَلَ جَمِيعَ كَلَامِهِ مِنْ ذَلِكَ النَّمَطِ ، لَمْ يَجِدْ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا ، وَلَهُ سَبَبٌ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ التَّقَدُّمُ فِي الصَّنْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَّفِقُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِ فِيهَا - فَهَلَّا قُلْتُمْ : إِنَّهُ إِذَا بَلَغَ فِي الْعِلْمِ بِالصِّنَاعَةِ مَبَالِغَهُ الْقُصْوَى ،
[ ص: 287 ] كَانَ جَمِيعُ كَلَامِهِ مِنْ نَمَطِ ذَلِكَ الْبَيْتِ وَسَمْتِ تِلْكَ الْقِطْعَةِ ؟ وَهَلَّا قُلْتُمْ : إِنَّ الْقُرْآنَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؟
فَالْجَوَابُ : أَنَّا لَمْ نَجِدْ أَحَدًا بَلَغَ الْحَدَّ الَّذِي وَصَفْتُمْ فِي الْعَادَةِ . وَهَذَا النَّاسُ وَأَهْلُ الْبَلَاغَةِ أَشْعَارُهُمْ عِنْدَنَا مَحْفُوظَةٌ ، وَخُطَبُهُمْ مَنْقُولَةٌ ، وَرَسَائِلُهُمْ مَأْثُورَةٌ ، وَبَلَاغَاتُهُمْ مَرْوِيَّةٌ ، وَحِكَمُهُمْ مَشْهُورَةٌ ؛ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكِهَانَةِ وَالْبَلَاغَةِ ، مِثْلُ
قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ ،
وَسَحَبَانِ وَائِلٍ ، وَمِثْلُ
شِقٍّ ،
وَسَطِيحٍ ، وَغَيْرِهِمْ - كَلَامُهُمْ مَعْرُوفٌ عِنْدَنَا ، وَمَوْضُوعٌ بَيْنَ أَيْدِينَا ، لَا يَخْفَى عَلَيْنَا فِي الْجُمْلَةِ بَلَاغَةُ بَلِيغٍ ، وَلَا خَطَابَةُ خَطِيبٍ ، وَلَا بَرَاعَةُ شَاعِرٍ مُفْلِقٍ ، وَلَا كِتَابَةُ كَاتِبٍ مُدَقِّقٍ .
فَلَمَّا لَمْ نَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا يُدَانِي الْقُرْآنَ فِي الْبَلَاغَةِ ، أَوْ يُشَاكِلُهُ فِي الْإِعْجَازِ ، مَعَ مَا وَقَعَ مِنَ التَّحَدِّي إِلَيْهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ ، وَتَقَدَّمَ مِنَ التَّقْرِيعِ فِي الْمُجَازَاةِ الْأَمَدَ الْمَدِيدَ ، وَثَبَتَ لَهُ وَحْدَهُ خَاصَّةً قَصَبُ السَّبْقِ ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْأَمَدِ ، وَعَجَزَ الْكُلُّ عَنْهُ ، وَوَقَفُوا دُونَهُ حَيَارَى ، يَعْرِفُونَ عَجْزَهُمْ ، وَإِنْ جَهِلَ قَوْمٌ سَبَبَهُ ، وَيَعْلَمُونَ نَقَصَهُمْ ، وَإِنْ أَغْفَلَ قَوْمٌ وَجْهَهُ - رَأَيْنَا أَنَّهُ نَاقِضٌ لِلْعَادَةِ ، وَرَأَيْنَا أَنَّهُ خَارِقٌ لِلْمَعْرُوفِ فِي الْجِبِلَّةِ . وَخَرْقُ الْعَادَةِ إِنَّمَا يَقَعُ بِالْمُعْجِزَاتِ عَلَى وَجْهِ إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى النُّبُوَّاتِ ، وَعَلَى أَنَّ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ ، وَوَقَعَتْ مَوْقِعَ الْهِدَايَةِ إِلَيْهِ ، صَادِقٌ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ نُبُوَّتِهِ ، وَمُحِقٌّ فِي قَوْلِهِ ، وَمُصِيبٌ فِي هَدْيِهِ ، قَدْ شَهِدَتْ لَهُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ، وَالْكَلِمَةُ التَّامَّةُ ، وَالْبُرْهَانُ النَّيِّرُ ، وَالدَّلِيلُ الْبَيِّنُ .