[ ص: 288 ] فصل
في
nindex.php?page=treesubj&link=28741حقيقة المعجز
معنى قولنا : " إن القرآن معجز " على أصولنا : أنه لا يقدر العباد عليه . وقد ثبت أن المعجز الدال على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصح دخوله تحت قدرة العباد ، وإنما ينفرد الله تعالى بالقدرة عليه ، ولا يجوز أن يعجز العباد عما تستحيل قدرتهم عليه ، كما يستحيل عجزهم عن فعل الأجسام ، فنحن لا نقدر على ذلك وإن لم يصح وصفنا بأنا عاجزون عن ذلك حقيقة ، وكذلك معجزات سائر الأنبياء على هذا .
فلما لم يقدر عليه أحد شبه بما يعجز عنه العاجز ، وإنما لا يقدر العباد على الإتيان بمثله ؛ لأنه لو صح أن يقدروا عليه بطلت دلالة المعجز ، وقد أجرى الله العادة بأن يتعذر فعل ذلك منهم ، وأن لا يقدروا عليه .
ولو كان غير خارج عن العادة لأتوا بمثله ، أو عرضوا عليه من كلام فصحائهم وبلغائهم ، ما يعارضه .
فلما لم يشتغلوا بذلك ، علم أنهم فطنوا لخروج ذلك عن أوزان كلامهم ، وأساليب نظامهم ، وزالت أطماعهم عنه .
وقد كنا بينا أن التواضع ليس يجب أن يقع على قول الشعر ووجوه النظم المستحسنة في الأوزان المطربة للسمع ، لا يحتاج في مثله إلى توقيف ، وأنه يتبين أن مثل ذلك يجري في الخطاب ، فلما جرى فيه فطنوا له واختاروه وطلبوه ؛ وطلبوا أنواع الأوزان والقوافي ، ثم وقفوا على حسن ذلك وقدروا عليه ، بتوفيق الله - عز وجل - ، وهو الذي جمع خواطرهم عليه ، وهداهم له
[ ص: 289 ] وهيأ دواعيهم إليه ، ولكنه أقدرهم على حد محدود ، وغاية في العرف مضروبة ؛ لعلمه بأنه سيجعل القرآن معجزا ، ودل على عظم شأنه بأنهم قدروا على ما بينا من التأليف ، وعلى ما وصفنا من النظم ، من غير توقيف ولا اقتفاء أثر ، ولا تحد إليه ولا تقريع .
فلو كان هذا من ذلك القبيل ، أو من الجنس الذي عرفوه وألفوه - لم تزل أطماعهم عنه ، ولم يدهشوا عند وروده عليهم ، فكيف وقد أمهلهم وفسح لهم في الوقت ، وكان يدعو إليه سنين كثيرة ، وقال عز من قائل :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=37أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير .
وبظهور العجز عنه بعد طول التقريع والتحدي ، بان أنه خارج عن عاداتهم ، وأنهم لا يقدرون عليه .
وقد ذكرنا أن العرب كانت تعرف ما يباين عادتها من الكلام البليغ ؛ لأن ذلك طبعهم ولغتهم ، فلم يحتاجوا إلى تجربة عند سماع القرآن ، وهذا في البلغاء منهم ، دون المتأخرين في الصنعة .
والذي ذكرناه يدلك على أنه لا كلام أزيد في قدر البلاغة من القرآن .
وكل من جوز أن يكون للبشر قدرة على أن يأتوا بمثله في البلاغة - لم يمكنه أن يعرف أن القرآن معجز بحال .
ولو لم يكن جرى في المعلوم أنه سيجعل القرآن معجزا ، لكان يجوز أن تجري عادات البشر بقدر زائد على ما ألفوه من البلاغة ، وأمر يفوق ما عرفوه من الفصاحة .
[ ص: 290 ] وأما " نظم القرآن " فقد قال أصحابنا فيه : إن الله تعالى يقدر على نظم هيئة أخرى تزيد في الفصاحة عليه ، كما يقدر على مثله .
وأما بلوغ بعض نظم القرآن الرتبة التي لا مزيد عليها ، فقد قال مخالفونا : إن هذا غير ممتنع ؛ لأن فيه من الكلمات الشريفة ، الجامعة للمعاني البديعة ، وانضاف إلى ذلك حسن الموقع ، فيجب أن يكون قد بلغ النهاية ، لأنه عندهم - وإن زاد على ما في العادة - فإن الزائد عليها وإن تفاوت ، فلا بد من أن ينتهي إلى حد لا مزيد عليه .
والذي نقوله : إنه
nindex.php?page=treesubj&link=33679_28741لا يمتنع أن يقال : إنه يقدر الله تعالى على أن يأتي بنظم أبلغ وأبدع من القرآن كله .
وأما قدر العباد فهي متناهية في كل ما يقدرون عليه ، مما تصح قدرتهم عليه .
[ ص: 288 ] فَصْلٌ
فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28741حَقِيقَةِ الْمُعْجِزِ
مَعْنَى قَوْلِنَا : " إِنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ " عَلَى أُصُولِنَا : أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ الْعِبَادُ عَلَيْهِ . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْجِزَ الدَّالَّ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَصِحُّ دُخُولُهُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْعِبَادِ ، وَإِنَّمَا يَنْفَرِدُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْجِزَ الْعِبَادُ عَمَّا تَسْتَحِيلُ قُدْرَتُهُمْ عَلَيْهِ ، كَمَا يَسْتَحِيلُ عَجْزُهُمْ عَنْ فِعْلِ الْأَجْسَامِ ، فَنَحْنُ لَا نَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ وَصْفُنَا بِأَنَّا عَاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ حَقِيقَةً ، وَكَذَلِكَ مُعْجِزَاتُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى هَذَا .
فَلَمَّا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ شُبِّهَ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْعَاجِزُ ، وَإِنَّمَا لَا يَقْدِرُ الْعِبَادُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ بَطَلَتْ دَلَالَةُ الْمُعْجِزِ ، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِأَنْ يَتَعَذَّرَ فِعْلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ ، وَأَنْ لَا يَقْدِرُوا عَلَيْهِ .
وَلَوْ كَانَ غَيْرَ خَارِجٍ عَنِ الْعَادَةِ لَأَتَوْا بِمِثْلِهِ ، أَوْ عَرَضُوا عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ فُصَحَائِهِمْ وَبُلَغَائِهِمْ ، مَا يُعَارِضُهُ .
فَلَمَّا لَمْ يَشْتَغِلُوا بِذَلِكَ ، عُلِمَ أَنَّهُمْ فَطِنُوا لِخُرُوجِ ذَلِكَ عَنْ أَوْزَانِ كَلَامِهِمْ ، وَأَسَالِيبِ نِظَامِهِمْ ، وَزَالَتْ أَطْمَاعُهُمْ عَنْهُ .
وَقَدْ كُنَّا بَيَّنَّا أَنَّ التَّوَاضُعَ لَيْسَ يَجِبُ أَنْ يَقَعَ عَلَى قَوْلِ الشِّعْرِ وَوُجُوهِ النَّظْمِ الْمُسْتَحْسَنَةِ فِي الْأَوْزَانِ الْمُطْرِبَةِ لِلسَّمْعِ ، لَا يُحْتَاجُ فِي مِثْلِهِ إِلَى تَوْقِيفٍ ، وَأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَجْرِي فِي الْخِطَابِ ، فَلَمَّا جَرَى فِيهِ فَطِنُوا لَهُ وَاخْتَارُوهُ وَطَلَبُوهُ ؛ وَطَلَبُوا أَنْوَاعَ الْأَوْزَانِ وَالْقَوَافِي ، ثُمَّ وَقَفُوا عَلَى حُسْنِ ذَلِكَ وَقَدَرُوا عَلَيْهِ ، بِتَوْفِيقِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ، وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ خَوَاطِرَهُمْ عَلَيْهِ ، وَهَدَاهُمْ لَهُ
[ ص: 289 ] وَهَيَّأَ دَوَاعِيَهُمْ إِلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ أَقْدَرَهُمْ عَلَى حَدٍّ مَحْدُودٍ ، وَغَايَةٍ فِي الْعُرْفِ مَضْرُوبَةٍ ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ سَيَجْعَلُ الْقُرْآنَ مُعْجِزًا ، وَدَلَّ عَلَى عِظَمِ شَأْنِهِ بِأَنَّهُمْ قَدَرُوا عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنَ التَّأْلِيفِ ، وَعَلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ النَّظْمِ ، مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ وَلَا اقْتِفَاءِ أَثَرٍ ، وَلَا تَحَدٍّ إِلَيْهِ وَلَا تَقْرِيعٍ .
فَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ ، أَوْ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي عَرَفُوهُ وَأَلِفُوهُ - لَمْ تَزُلْ أَطْمَاعُهُمْ عَنْهُ ، وَلَمْ يُدْهَشُوا عِنْدَ وُرُودِهِ عَلَيْهِمْ ، فَكَيْفَ وَقَدْ أَمْهَلَهُمْ وَفَسَحَ لَهُمْ فِي الْوَقْتِ ، وَكَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ سِنِينَ كَثِيرَةً ، وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=37أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ .
وَبِظُهُورِ الْعَجْزِ عَنْهُ بَعْدَ طُولِ التَّقْرِيعِ وَالتَّحَدِّي ، بَانَ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ عَادَاتِهِمْ ، وَأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَعْرِفُ مَا يُبَايِنُ عَادَتَهَا مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ طَبْعُهُمْ وَلُغَتُهُمْ ، فَلَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى تَجْرِبَةٍ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ ، وَهَذَا فِي الْبُلَغَاءِ مِنْهُمْ ، دُونَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الصَّنْعَةِ .
وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّهُ لَا كَلَامَ أَزْيَدُ فِي قَدْرِ الْبَلَاغَةِ مِنَ الْقُرْآنِ .
وَكُلُّ مَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ لِلْبَشَرِ قُدْرَةٌ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ فِي الْبَلَاغَةِ - لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ بِحَالٍ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَرَى فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ سَيَجْعَلُ الْقُرْآنَ مُعْجِزًا ، لَكَانَ يَجُوزُ أَنْ تَجْرِيَ عَادَاتُ الْبَشَرِ بِقَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى مَا أَلِفُوهُ مِنَ الْبَلَاغَةِ ، وَأَمْرٌ يَفُوقُ مَا عَرَفُوهُ مِنَ الْفَصَاحَةِ .
[ ص: 290 ] وَأَمَّا " نَظْمُ الْقُرْآنِ " فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيهِ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْدِرُ عَلَى نَظْمِ هَيْئَةٍ أُخْرَى تَزِيدُ فِي الْفَصَاحَةِ عَلَيْهِ ، كَمَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ .
وَأَمَّا بُلُوغُ بَعْضِ نَظْمِ الْقُرْآنِ الرُّتْبَةَ الَّتِي لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا ، فَقَدْ قَالَ مُخَالِفُونَا : إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مِنَ الْكَلِمَاتِ الشَّرِيفَةِ ، الْجَامِعَةِ لِلْمَعَانِي الْبَدِيعَةِ ، وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ حُسْنُ الْمَوْقِعِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلَغَ النِّهَايَةَ ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ - وَإِنْ زَادَ عَلَى مَا فِي الْعَادَةِ - فَإِنَّ الزَّائِدَ عَلَيْهَا وَإِنْ تَفَاوَتَ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى حَدٍّ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ .
وَالَّذِي نَقُولُهُ : إِنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=33679_28741لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّهُ يَقْدِرُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِنَظْمٍ أَبْلَغَ وَأَبْدَعَ مِنَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ .
وَأَمَّا قُدَرُ الْعِبَادِ فَهِيَ مُتَنَاهِيَةٌ فِي كُلِّ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ ، مِمَّا تَصِحُّ قُدْرَتُهُمْ عَلَيْهِ .