مسألة القائلون بأن المجتهد مكلف بما غلب على ظنه وإن أخطأ ، قالوا بأنه مأجور على الاجتهاد وإن أخطأ ، والمخطئ غير مأجور على الخطأ  ، وقال  ابن أبي هريرة    : المخطئ آثم ، وقيل : غير مأجور ولا آثم ، والصحيح أنه غير آثم بل هو مأجور ، لقوله تعالى : { وكلا آتينا حكما وعلما    } قال  الحسن البصري  رحمه الله : لولا هذه الآية لرأيت أن الحكام قد هلكوا . ثم وعلى ماذا يؤجر ؟ اختلفوا  ، فقال الماوردي    : مذهب  الشافعي  أنه مأجور على الاجتهاد وإن أخطأ فيه لقصده الصواب وإن لم يظفر به ، إنما لا يؤجر على الخطأ ، لأن الأجر للترغيب في المثاب ، ولا ترغيب في الخطأ . قال أبو إسحاق    : ويجوز أن يؤجر على قصده وإن كان الفعل خطأ ، كما لو اشترى رقبة فأعتقها تقربا إلى الله ثم وجدها حرة الأصل بعد تلف ثمنها ، وهو مأجور وإن لم يصح شراؤه وعتقه لم يقع ، لما أتى به من القصد إلى فك الرقبة والتقرب إلى الله . 
قال : وقد نص  الشافعي  على هذا . وأيضا لا بد للمجتهد أن يعدل في اجتهاده عن طرق فاسدة  فيفتح له فاسدها إلى طرق مستقيمة يظن فيه الحق فعدوله عن تلك الطريقة الفاسدة اجتهاد صحيح فأثيب على ذلك . قال أبو إسحاق    : وفيه وجه آخر أنه يؤجر على نيته وعلى نفس  [ ص: 306 ] الاجتهاد ، ولا يؤجر على الحكم لخطئه فيه . فأما اجتهاده بما بلغ فيه فصواب ، وما بقي عليه من اجتهاده إلى بلوغ معرفة الحق فهو معذور في تخلفه عنه ، لأن فهمه بلغ فيه بعض طرقه ولم يبلغ به أقصى ما طلبه ، وهو فيما إذا أتى به منه مأجور ومصيب فيه ، ومنزلته منزلة الحاج الذي أمر بقطع المسافة ليبلغ به إلى بيت الله ، فسلك بعض الطريق وضعف عن باقيه وتلفت راحلته يؤجر على القدر الذي قصده ، وعبر القفال  عن هذا فقال : لا يستحق الأجر في قصده الخطأ الموضوع عنه ، وإنما يستحق على إنشاء قصد الثواب . ومثاله أن يقوم ليخرج إلى مكة  ، فأخطأ في وصف الطريق وعدل إلى طريق آخر ، فثوابه من ابتداء قصده إلى موضع عدوله عن الخطأ . قال : وهذا معنى قول  الشافعي    : لا يؤجر على الخطأ ، إنما لا يؤجر على قصد الثواب . وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام : { نية المؤمن خير من عمله   } . 
وله ثلاث احتمالات : أحدها - أن نيته في الاجتهاد خير من خطئه في الاجتهاد . وثانيها - أن نيته خير من صواب عمله . وثالثها - أن النية أوسع من العمل ، لأنها تسبق الأقوال والأفعال فتعجل عليها . وقال  القاضي أبو الطيب    : ما قاله أبو إسحاق  أولا أصح ، لأن ذلك الاجتهاد هو خلاف الاجتهاد الذي يصيب به الحق ، لأنه لو وصفه في صفته ورتبه على ترتيبه لقضى به إلى الحق ، فلا يؤجر عليه ولا على بعض أجزائه . وقال أبو عبد الله الطبري  في " العدة " : يثاب المخطئ على ماذا ؟ فيه قولان : ( أحدهما ) على الاجتهاد ، كرجلين سلكا الجامع من طريقين ، قصد أحدهما الطريق أثيب عليه وإن لم يصل إلى الجامع .  [ ص: 307 ] و ( الثاني ) على القصد ، كرجلين رميا إلى كافر ، فأصابه أحدهما دون الآخر يثاب المخطئ على القصد . وحكاها الروياني  في " البحر " عن بعض أصحابنا بخراسان  ثم قال : وإطلاق القولين خطأ على ما بينت . وقال إمام الحرمين    : الذي ذهب إليه الأئمة أنه لا يؤجر على الخطأ ، بل على قصده الصواب . وقيل : بل على استداده في تقصي النظر ، فإن المخطئ يستد أولا ثم يزول ، قال : والأول أقرب ، لأن المخطئ قد يحيد في الأول عن سنن الصواب ثم هو مأجور بحكم الخبر لقصد الصواب وإن أخطأه . 
وقال الرافعي  في " الشرح " ثم الأجر على ماذا ؟ فيه وجهان عن  أبي إسحاق المروزي    : ( أحدهما ) - وهو ظاهر النص واختيار  المزني  وأبي الطيب    - أنه على القصد إلى الصواب دون الاجتهاد ، لأنه أفضى به إلى الخطأ فكأنه لم يسلك الطريق المأمور به . قلت    : حكاه  المزني  في كتاب " ذم التقليد " عن النص فقال : قال  الشافعي  في الحديث { إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر   } : " لا يؤجر على الخطأ في الدين لم يؤمر به أحد ، وإنما يؤجر لإرادته الحق الذي أخطأه " . قال  المزني    : فقد ثبت  الشافعي  في هذا أن المخطئ أحدث في الدين ما لم يؤمر به ولم يكلفه ، وإنما أجره على نيته لا على خطئه . انتهى . 
وشبهه القفال  في الفتاوى برجلين رميا إلى كافر ، فأخطأ أحدهما يؤجر على قصده الإصابة ، بخلاف الساعي إلى الجمعة إذا فاتته يؤجر على القصد وإن لم ينل ثواب العمل . و ( الثاني ) أنه يؤجر على القصد والاجتهاد جميعا ، لأنه بذل وسعه في طلب الحق والوقوف عليه . وربما سلك الطريق في الابتداء ولم يتيسر له الإتمام . قال ابن الرفعة    : وهذا مناسب إذا سلكه في الابتداء . فإن حاد عنه  [ ص: 308 ] في الأول تعين الوجه الأول . واستدل  القاضي الحسين  بأنه لو كان القصد لوجب أن يكون عشر أجر المصيب لقوله عليه السلام : { من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشر حسنات   } . قلت    : وقد جاء ذلك مصرحا به في مسند  أحمد بن حنبل  رحمه الله . وقد سبق بيان حاله في مسألة الاجتهاد في زمانه . قال  الشافعي  في " الرسالة " في الرجل يطأ أمته ثم تبين أنها أخته : أما في الغيب فلم تزل أخته أولا وآخرا . وأما في الظاهر فكانت له حلالا ما لم يعلم ، وعليه حرام حين علم . وقيل له : إن غيرك يقول : إنه لم يزل آثما بإصابتها ولكن الإثم مرفوع عنه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					