الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 324 ] فصل التقليد ينقسم إلى قسمين : أحدهما : أن يكون المقلد عالما بأن الذي يقلده لا يخطئ ، فيما قلده فيه ، فيلزمه القبول بمجرده ، كقبول الأئمة عن الرسول الأحكام ، وقبول قول المجمعين . قال الأستاذ : وأجمع أصحابنا على وجوب هذا القول ، وإنما اختلفوا في تسميته تقليدا . والثاني : قبوله على احتمال الصواب والخطأ . والعلوم نوعان : عقلي وشرعي . الأول : العقلي وهو المسائل المتعلقة بوجود الباري وصفاته ، واختلفوا فيها ، والمختار أنه لا يجوز التقليد ، بل يجب تحصيلها بالنظر ، وجزم به الأستاذ أبو منصور ، والشيخ أبو حامد الإسفراييني في تعليقه ، وحكاه الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب " عن إجماع أهل العلم من أهل الحق وغيرهم من الطوائف .

                                                      وقال أبو الحسين بن القطان في كتابه : لا نعلم خلافا في امتناع التقليد في التوحيد . وقال بعضهم : لو خشى المكلف أن يموت لم يجز التقليد . وحكاه ابن السمعاني عن جميع المتكلمين ، وطائفة من الفقهاء وقالوا : لا يجوز للعامي التقليد فيها ، ولا بد أن يعرف ما يعرفه بالدليل . وقالوا : العقائد الأصولية عقلية ، والناس مشتركون في العقل . وقال : وأكثر الفقهاء على خلاف هذا ، وقالوا : لا يجوز أن يكلف العوام لاعتقاد الأصول بدلائلها ، لما في ذلك من المشقة ، ومثله ما نقله صاحب العنوان " عن الفقهاء من جواز التقليد فيها ، تأسيا بالسلف ، إذ لم يأمر النبي عليه الصلاة والسلام أجلاف العرب بالنظر ، ونازعه ابن دقيق العيد [ ص: 325 ] في هذا الاستدلال بأنه إذا أريد بالنظر المصطلح ، من ترتيب المقدمات فلا يعتبر اتفاقا وإن أراد أنه لم يحصل لهم النظر في نفس الأمر ، من غير هذا الترتيب والاصطلاح ممنوع ، وكيف وقد شاهدوا المعجزة ، وأحوال الرسول ، والقرائن التي شاهدوها أفادتهم القطع .

                                                      وقيل : بل يجب التقليد ، والاجتهاد فيه حرام ، ونقله صاحب " الأحوذي " عن الأئمة الأربعة وقال إمام الحرمين في الشامل " : لم يقل بالتقليد في الأصول إلا الحنابلة ، وقال الإسفراييني : لم يخالف فيه إلا أهل الظاهر . وقال القرافي : وسألت الحنابلة فقالوا : مشهور مذهبنا منع التقليد والغزالي يميل إليه ، وحكاه القاضي عياض في الشفاء " عن غيره . وقال الأستاذ أبو إسحاق : ذهب قوم من كتبة الحديث ، أن طلب الدليل فيما يتعلق بالتوحيد غير واجب ، وإنما الغرض هو الرجوع إلى قول الله ورسوله ، ويرون الشروع في موجبات العقول كفرا ، وإن الاستدلال والنظر ليس هو المقصود في نفسه ، وإنما وهو طريق إلى حصول العلم حتى يصير بحيث لا يتردد ، فمن حصل له هذا الاعتقاد الذي لا شك فيه ، من غير دلالة ، فقد صار مؤمنا وزال عنه كلفة طلب الأدلة ، ومن أحسن الله إليه ، أنعم عليه بالاعتقاد الصافي من الشبهة والشكوك ، فقد أنعم عليه بأكل أنواع النعم وأحلها ، حتى لم يكله إلى النظر والاستدلال ، لا سيما العوام ، فإن كثيرا منهم تجده في صيانة اعتقاده أكثر ممن شاهد ذلك بالأدلة .

                                                      ومن كان هذا وصفه ، كان مقلدا في الدليل ، غير أن أصحابنا أجمعوا ، على أن هذا الاعتقاد يجب أن يكون في النيات ، بحيث لا يرد عليه من الشبهة .

                                                      [ ص: 326 ] إلا ما يرد على صاحب الاستدلال ، وجزم الأستاذ أبو منصور بوجوب النظر ، ثم قال : فلو اعتقد من غير معرفة بالدليل ، فاختلفوا فيه ، فقال أكثر الأئمة : إنه مؤمن من أهل الشفاعة ، وإن فسق بترك الاستدلال ، وبه قال أئمة الحديث ، وقال الأشعري وجمهور المعتزلة : لا يكون مؤمنا ، حتى يخرج فيها عن جملة المقلدين . انتهى .

                                                      وقد اشتهرت هذه المقالة عن الأشعري ، أن إيمان المقلد لا يصح ، وقد أنكر أبو القاسم القشيري ، والشيخ أبو محمد الجويني ، وغيرهما من المحققين صحته عنه ، وقيل : لعله أراد به قبول قول الغير بغير حجة ، فإن التقليد بهذا المعنى قد يكون ظنا ، وقد يكون وهما ، فهذا لا يكفي في الإيمان . أما التقليد بمعنى الاعتقاد الجازم لا الموجب ، فلم يقل أحد أنه لا يكفي في الإيمان ، إلا أبو هاشم من المعتزلة وإذا منعنا التقليد في ذلك قال الأستاذ أبو إسحاق : فاتفقوا على أنه لا يجب أن يبلغ فيه رتبة الاجتهاد ، بحيث يحل له الفتوى في الحكم . وقال ابن السمعاني : إيجاب معرفة الأصول على ما يقوله المتكلمون ، بعيد جدا عن الصواب ، ومتى أوجبنا ذلك فمتى يوجد من العوام من يعرف ذلك ؟ ويصدر عقيدته عنه ؟ كيف وهم لو عرضت عليهم تلك الأدلة لم يفهموها ، وإنما غاية العامي ، أن يتلقى ما يريد - أن يعتقده ويلقى [ به ] ربه - من العلماء ، ويتبعهم في ذلك ويقلدهم ، ثم يسلم عليها بقلب طاهر عن الأهواء والإدخال ، ثم يعض عليها بالنواجذ ، فلا يحول ، ولا يزول ، ولو قطع إربا ، فهنيئا لهم السلامة ، والبعد عن الشبهات الداخلة على أهل الكلام ، والورطات التي تغولها ، حتى أدت بهم إلى المهاوي والمهالك ، ودخلت عليهم الشبهات العظيمة وصاروا متجرئين ، ولا يوجد فيهم متورع عفيف إلا القليل ، فإنهم أعرضوا عن ورع الألسنة ، وأرسلوها في صفات الله تعالى بجرأة وعدم مهابة وحرمة ، ففاتهم ورع سائر الجوارح ، وذهب [ ص: 327 ] عنهم بذلك ورع اللسان ، والإنسان كالبنيان يشد بعضهم بعضا ، فإذا خرب جانب منه ، تداعى سائره إلى الخراب ، ولأنه ما من دليل لفريق منهم يعتمدون عليه ، إلا ولخصومهم عليه من الشبهة القوية .

                                                      ونحن لا ننكر من الدلائل العقلية بقدر ما ينال المسلم به رد الخاطر ، وإنما المنكر إيجاب التوصل إلى العقائد في الأصول ، بالطريق الذي اعتقدوا ، وساموا به الخلق ، وزعموا أن من لم يفعل ذلك لم يعرف الله تعالى ، ثم أدى بهم ذلك إلى تكفير العوام أجمع ، وهذا هو الخطيئة الشنعاء ، والداء العضال ، وإذا كان السواد الأعظم هم العوام ، وبهم قوام الدين ، وعليهم مدار رحى الإسلام ، ولعل لا يوجد في البلدة الواحدة التي تجمع المائة ألف ، من يقوم بالشرائط التي تعتبرونها ، إلا العدد القليل الشاذ الشارد النادر ، ولعله لا يبلغ عقد العشرة ، فمن يجد المسلم من قبله ، أن يحكم بكفر هؤلاء الناس أجمع ، ويعتقد أنهم لا عقيدة لهم في أصول أصلا ، وإنهم أمثال البهائم . انتهى .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية