الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      الشرط الثاني عدم الاستغراق ، وإلا لتناقض ، فالاستثناء المستغرق باطل ، ويبقى أصل الكلام على حاله ، حكوا فيه الإجماع ، وفي هذا الإطلاق والنقل نزاع في المذاهب . أما المالكية فقد رأيت في كتاب [ ص: 385 ] المدخل " لابن طلحة من المالكية حكاية قولين عندهم في : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا ، وقد حكاه القرافي أيضا عنه ، ونقل اللخمي من المالكية عن بعضهم في أنت طالق واحدة إلا واحدة لا يلزمه طلاق ، لأن الندم منتف بإمكان الرجعة ، بخلاف أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا ، لظهور الندم .

                                                      وأما الحنفية فقيدوا البطلان بما إذا كان الاستثناء بعين ذلك اللفظ ، نحو : نسائي طوالق إلا نسائي . أو أوصيت بثلث مالي إلا ثلث مالي ، فإن كان بغيره صح ، وإن كان مستغرقا في الواقع نحو : نسائي طوالق إلا هؤلاء ، وأشار إليهن ، وأوصيت له بثلث مالي ، إلا ألف درهم ، وهو ثلث ماله . كذا ذكره صاحب " الهداية " في الباب الأول من الزيادات ، ووجهوه بأن الاستثناء تصرف لفظي مبني على صحة اللفظ لا على صحة الحكم ، ألا ترى أنه لو قال أنت طالق عشر طلقات إلا ثماني طلقات ، تقع طلقتان ، ويصح الاستثناء ، وإن كانت العشرة لا صحة لها من حيث الحكم ، ومع هذا لا يجعل كأنه قال : أنت طالق ثلاثا ، ويلغى ما بعده من الاستثناء ، لما ذكرنا أن صحة الاستثناء تتبع صحة اللفظ دون الحكم . وتحقيقه أن الاستثناء متى وقع بغير اللفظ الأول فهو يصلح لإخراج [ ص: 386 ] ما تناوله صدر الكلام ، وإنما امتنع لعدم ملكه ، لا لأمر يرجع إلى ذات اللفظ ، ومتصور أن يدخل في ملكه أكثر من هذه النسوة بخلاف ما إذا وقع الاستثناء بعين ذلك اللفظ ، فإنه لا يصلح لإخراج بعض ما تناوله ، فلم يصح اللفظ ، فلم يصح الاستثناء

                                                      وأما عندنا أي الشافعية فهذا ما لم يعقبه باستثناء آخر ، فلو عقبه باستثناء آخر ، نحو : له علي عشرة إلا عشرة ، إلا ثلاثة ، فقيل : يلزمه عشرة ، لأن الاستثناء الأول لم يصح ، فلا يجوز الاستثناء منه ، وقيل : يلزمه ثلاثة ، وقيل : سبعة ، والأول لا يصح ، وسقط من البين . وأما إذا كان زائدا على المستثنى منه ، فالمنع منه أولى . وعن الفراء جوازه في المنقطع ، نحو : له علي ألف إلا ألفين ، لأنه مستثنى من المفهوم

                                                      وفي كتب الحنفية إنما لا يصح استثناء الكل من الكل لفظا كما لو قال أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا ، أما حالا وحكما فيصح كقوله : نسائي طوالق إلا فلانة وفلانة وفلانة ، وليس له امرأة سواهن ، فيصح الاستثناء ولا تطلق واحدة منهن ، ولو قال : أنت طالق أربعا إلا ثلاثة صح الاستثناء ، وتقع واحدة ثم إما أن يستثنى الأقل أو الأكثر أو المساوي :

                                                      أما استثناء القليل من الكثير فجائز ، وحكى بعضهم فيه الإجماع ، وقال المازري في " شرح البرهان " إن كان ليس بواحد فلا خلاف في جوازه ، نحو : له علي عشرة إلا حبة ، أو إلا سدسا . وإن كان جزءا صحيحا كالواحد ، والثلث فالمشهور جوازه . ومنهم من استهجنه ، وقال : الأحسن في الخطاب أن يقول : له عندي تسعة ، ولا يقول عشرة ، إلا واحدا .

                                                      وقال في " شرح التلقين " عن قوم : إنهم شذوا ، فقالوا : لا يجوز إلا [ ص: 387 ] لضرورة إليه ، كاستثناء الكسور ، كقوله : له عندي مائة درهم إلا ربع درهم ، أو إلا نصف درهم ، وقالوا : قولك : مائة درهم إلا عشرة ، يعني له عندي تسعون ، فنقض عليهم بقوله تعالى : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } وفي هذا استثناء الأقل من الأكثر من غير أن يكون كسرا في العدد ، فأجابوا بأنه في معنى الكسر ، لأن التجزئة المقترحة من النصف إلى العشر ، وهذا كالكسر لأن الخمسين من الألف كنصف العشر ، فصار في معنى استثناء الكسر وهذا مردود عند العلماء ، وتكلف فيه لا حاجة إليه .

                                                      وأما استثناء الأكثر ففيه قولان للنحاة :

                                                      أحدهما : يمتنع ، وعليه الزجاج ، وقال : ولم ترد به اللغة ، ولأن الشيء إذا نقص يسيرا لم يزل عنه اسم ذلك الشيء ، فلو استثنى أكثر لزال الاسم .

                                                      وقال ابن جني : لو قال : له عندي مائة إلا سبعة وتسعين ، ما كان متكلما بالعربية ، وكان عبثا من القول .

                                                      وقال ابن قتيبة في كتاب " المسائل " : لا يجري في اللغة ، لأن تأسيس الاستثناء على تدارك قليل من كثير أغفلته أو نسيته لقلته ، ثم تداركته بالاستثناء ، ولأن الشيء قد ينقص نقصانا يسيرا ، فلا يزول عنه اسم الشيء ، وأما مع الكثرة فيزول .

                                                      وقال الشيخ أبو حامد : إنه مذهب البصريين من النحاة ، وأجازه أكثر أهل الكوفة منهم ، وأجازه أكثر الأصوليين ، نحو : له عندي عشرة إلا تسعة . فيلزمه درهم . وهو قول السيرافي ، وأبي عبيد من النحاة محتجين بقوله تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من [ ص: 388 ] الغاوين } والمتبعون له هم الأكثر ، بدليل : { وقليل من عبادي الشكور } .

                                                      وأجيب بوجهين :

                                                      أحدهما : أن الاستثناء منقطع ، والعباد المضافين إلى الله تعالى هم المؤمنون ، لأن الإضافة لتشريف المضاف ، لكنه يدخل الغاوون تحت المستثنى منه لولا الاستثناء .

                                                      والثاني : أنه متصل ، وقوله : { إلا من اتبعك من الغاوين } أقل من المستثنى منه . لأن قوله يتناول الملك ، والإنس والجن ، وكل الغاوين أقل من الملائكة . وفي الحديث : { الملائكة يطوفون بالمحشر سبعة أدوار } وذلك أعظم من في المحشر . وقال الشيخ أبو إسحاق : القاطع في هذه المسألة أن الله تعالى استثنى الغاوين من المخلصين في هذه الآية ، واستثنى المخلصين من الغاوين في قوله حكاية عن إبليس : { لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } ، فلو كان المستثنى أقل من المستثنى منه ، لزم أن يكون كل واحد من الغاوين والمخلصين أقل من الآخر . وفيه نظر لأن الضمير في قوله : " منهم " عائد لبني آدم ، والمخلص منهم قليل ، وانفصل بعضهم عنه ، فقال : " المخلصون " هنا هم الأنبياء ، والملائكة وسكان السموات ، وهم أكثر من الغاوين فيكون من باب استثناء الأقل من الأكثر . [ ص: 389 ] وذكر المازري وجها آخر : وهو أنه إذا لم يعلم السامع الأقل من الأكثر جاز ذلك ، وإنما يقبح إذا استثنى ما يعلم السامع أنه أكثر مما أبقاه . ونقل ابن السمعاني عن بعض أهل اللغة منع استثناء الأكثر ، ثم قال : واختاره الأشعرية ، وهو قول أحمد بن حنبل ، ونقله المازري في " شرح التلقين " عن ابن درستويه ، قال : وذكر أنه ناظر في ذلك أبا علي بن أبي هريرة ، وذكر في " شرح البرهان " أن للشافعي فيه قولين ، وكذا قال عبد الوهاب في " الإفادة " ، وهو غريب .

                                                      ومن شبه المجوزين القياس على المخصص ، فإنه يجوز وإن كان ما خصص أكثر مما بقي في العموم ، فكذلك الاستثناء ، وهذا إنما يصح الاحتجاج به إذا قلنا إن اللغة تثبت قياسا ، فإن منعناه لم يتم ، وكثيرا ما يتحد المعنى ، وتختلف أحكام إعرابه عند العرب ، فلا يبعد أن يكون عندهم يحسن إخراج أكثر العموم بغير حرف الاستثناء ، ويصح به ، ثم المانعون للأكثر اختلفوا في حد القليل الذي يستثنى ، فقال ابن مغيث من المالكية : هو الثلث فما دونه ، هذا مذهب مالك وأصحابه .

                                                      وأما المساوي ، فمن جوز الأكثر فهو هنا أجوز ، ومن منعه اختلفوا على قولين . وطرد ابن درستويه فألحقه بأكثر في المنع ، والجمهور على الجواز ، واحتج على استثناء النصف بقوله تعالى : { قم الليل إلا قليلا نصفه } فالضمير في ( نصفه ) عائد على الليل قطعا ، ( ونصفه ) بدل ، فإما من الليل بعد الاستثناء ، فيكون إلا قليلا نصفا ، وإما من قليل . فتبين أنه إنما أراد بالليل نصف الليل ، وربما تمسك به القائلون بالأكثر من جهة قوله : ( أو زد عليه ) .

                                                      وأجيب بأن نصفه مفعول بفعل مضمر ، أي : قم نصفه ، لا بدل ، [ ص: 390 ] لأن النصف لا يقال فيه : قليل : ورد بأنه يلزم على هذا أن يكون أمره أولا بقيام الليل إلا قليلا ، فيكون أمرا بقيام الأكثر ، فقوله بعده : نصفه مخالف له ، فيلزم أن يكون ناسخا ، وليس كذلك ، لأنه متصل ، وشرط الناسخ أن يكون متراخيا . وقال ابن عصفور : بل ضمير ( نصفه ) يعود على القليل ، وهو بدل منه ، بدل البعض من الكل ، وجاز وإن كان القليل مبهما ، لأنه قد تعين بالعادة ، أي ما يسمى قليلا في العادة

                                                      ونقل الإمام في المحصول منع استثناء الأكثر . قال : وله في المساوي وجهان ، ونقل المازري والباجي عن القاضي قولين في أكثر . ونقل القاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق والمازري ، والآمدي عن الحنابلة أنه لا يصح الأكثر والمساوي . وشرطوا أن ينقص عن النصف ، وحكاه الآمدي في " شرح الجزولية " عن البصريين .

                                                      والذي في " التقريب " للقاضي : يمتنع استثناء الأكثر في الأشبه عندنا ، وإن كنا قد نصرنا في غير هذا الموضع جوازه ، ولهذا قال المازري : آخر قولي القاضي المنع ، ولم يتعرض القاضي للمساوي : وقال إلكيا الطبري : كان القاضي أولا يجوز استثناء الأكثر ، ثم رجع عنه آخرا في " التقريب والإرشاد " وقال : لا يجوز ذلك ، وهو مخالف لإجماع الفقهاء ، فإنهم قالوا : لو قال لامرأته : أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين صح ، والذي في كتب الحنابلة تخصيص ذلك بالعقود ، قالوا : ولا خلاف في جوازه إذا كانت الكثرة من دليل خارج لا من اللفظ ، وعلى هذا فلا يحسن الاحتجاج [ ص: 391 ] عليهم بالآية السابقة ، لأنه ليس فيها عدد محصور ، وفرقوا بورود اللغة في هذا دون ذلك ، ولأن حمل الجنس على العموم إنما هو من طريق الاحتمال لا من جهة القطع على جميع الجنس ، بخلاف الأعداد فإن جميعها منطوق بها فصار صريحا .

                                                      قد صرحوا بحكاية هذا مذهبا آخر ، وهو التفصيل بين أن يكون العدد صريحا ، فلا يجوز استثناء الأكثر نحو : عشرة إلا تسعة ، وبين غيره فيجوز نحو : خذ الدراهم إلا ما في الكيس الفلاني ، وكان ما في الكيس أكثر من الباقي .

                                                      وحكى ابن الفارض المعتزلي في كتاب " النكت " له قولا رابعا عن بعض النحويين من أهل عصره ، وهو التفصيل بين أن يكون المستثنى جملة فيمتنع ، نحو جاء إخوتك العشرة إلا تسعة ، وبين أن يكون مفصلا ومعددا فيجوز ، نحو : إلا زيدا وبكرا وخالدا إلى أن يأتي إلى التسعة . ويخرج من كلام المازري السابق خامس ، وهو التفصيل بين أن يعلم السامع الأكثر من الأقل فيمتنع ، وإلا جاز .

                                                      ويخرج أيضا من كلام الحنابلة قول آخر هو جوازه في المنقطع دون المتصل ، فحصل ستة مذاهب ، ثم يضاف إليها القول الآتي : أنه يصح ولكن لم ترد به اللغة .

                                                      وقال ابن قتيبة : القليل الذي يجوز استثناؤه الثلث فما دونه . وهاهنا فوائد :

                                                      إحداها : أشار المازري إلى أن الخلاف لفظي ، وأن بعضهم اعتذر عن المانع في الأكثر بأنه لم يخالف في الحكم ، وإنما خالف في استعمال العرب في ذلك ، فرأى أنها لم تستعمل استثناء الأكثر من الأقل ، وما تمسك به الخصوم قابل للتأويل ، فلا يثبت به حكم لغة العرب ، لكن العرب وإن [ ص: 392 ] لم تستعمله فلا يسقط حكم الاستثناء في الإقرار وغيره . وبذلك صرح إلكيا الهراسي : فقال : يصح ذلك ، ولكن لم يقع في اللغة ، وكذا قال ابن الخشاب من أئمة النحاة : أجاز قوم استثناء أكثر الجملة ، ومنع آخرون فلم يجيزوا أن يستثنى إلا ما كان دون النصف منها ، ولهذا القول يشهد قياس العربية ، وبه جاء السماع ، وقد وقع الاتفاق عليه ، والأول ليس بمستحيل في المعقول ، ولكن الآخر يمنعه ، ومن ادعى فيه سماعا أو استنبط منه فقد أخطأ ، وادعى ما لا أصل له .

                                                      الثانية : قال ابن فارس في كتاب " فقه العربية " : الصحيح في العبارة أن يقال : يستثنى القليل من الكثير ، ويستثنى الكثير مما هو أكثر منه ، فأما قول من قال يستثنى الكثير من القليل ، فليس بجيد ، فيقال : عشرة إلا خمسة حتى يبلغ تسعة .

                                                      الثالثة : أن الكلام في الاستثناء من العدد مبني على صحته ، وللنحاة فيه مذاهب :

                                                      أحدها : وهو المشهور الجواز ، وعليه بنى الفقهاء مذاهبهم في الأقارير وغيرها .

                                                      والثاني : المنع واختاره ابن عصفور محتجا بأنها نصوص ، فالإخراج منها يخرجها عن النصية ، ألا ترى أنك إذا قلت : ثلاثة به إلا واحدا كنت قد أوقعت الثلاثة على الاثنين وذلك لا يجوز ، بخلاف قولك : جاء القوم إلا عشرة . وأجاب عن قوله تعالى : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين } بأن الألف لما كان يستعمل للتكثير . كقولك : اقعد ألف سنة ، تريد بها زمنا طويلا ، دخل الاحتمال فجاز أن يبين بالاستثناء أنه لم يستعمل للتكثير ، قال أبو حيان : وهذا هو الصحيح [ ص: 393 ]

                                                      والثالث : أنه يمنع استثناء العقد نحو : قصد عشرون إلا عشرة ، ويجوز استثناء ما دونه نحو عشرة إلا ثلاثة .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية