الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ مذهب الصيرفي في العمل بالعام قبل البحث عن مخصص ]

                                                      وفي ذلك نظر لما سبق من كلام الصيرفي في كتاب " الدلائل " الخلاف في ذلك ، فقال : ذهب جماعة إلى أن ما سمع من النبي عليه السلام من القرآن والسنة من العام مخاطبا به ، فلا يجوز أن يتركه حتى يبينه للمخاطبين ، ليصلوا إلى علم ما أمروا به ، وأما الساعة فقد تكامل الدين ، وثبوت الناسخ والمنسوخ ، فليس على من سمع آية من العام العمل بها حتى يسأل أهل العلم ، فيعرف حكمها لما في ذلك من النسخ والتخصيص ، وإن كان ممن يبحث وله أن يبحث فقد أتى بما يمكنه ، فليس عليه إلا اعتقاد ما سمعه إذ قد بلغ ما يمكنه في الجملة ، وليس للعلم غاية ينتهي إليها ، حتى لا يفوته منها شيء .

                                                      واختار قوم جواز تأخير البيان منه عليه السلام إلى وقت التقييد ; وقال قوم : على من سمع شيئا وحصل في يديه أمر من الله أو نهي اعتقاد ما سمع حتى يعلم خلافه . قال أبو بكر : والذي أقوله : إن كل آية أو سنة خاطب الله بها أو رسوله مواجها بها من يخاطب آمرا أو ناهيا ، فلا يجوز أن يخاطبه به النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه في تلك مرفوع ، لأنه يصير آمرا بشيء ، حكمه أن ينهى عنه في تلك الحال ; وهو محال في صفته عليه الصلاة والسلام ، ولا يجوز أيضا أن يواجه رجلا آمرا له بشيء أو ناهيا عنه باسم عام ووقت بيانه : [ ص: 55 ] ممكن ، ولا يتقدم ما يوجب له البيان فيصير ما يريد منه أن يعلم من خطابه أو فعله بخلاف ما أظهر ; لأنه في الظواهر آمر له بخلاف ما يريد منه ، ولا سبيل له إلى علم من لفظه ، لأن الله تعالى أمره أن يبين ما أنزل إليه ، وهذا خطاب من كتم لا من بين ، والرسول عليه السلام أعلم بالله من أن يفعل ذلك . فإذا سمع المخاطبون ذلك منه عليه السلام ، ثم فارقوه ، واحتمل ورود النسخ عليه فعليهم الإقامة عليه ، حتى يعلموا أن الله أزاله أو رسوله ; لأنه قد حصل في أيديهم اليقين ، فلا يزولون عنه لإمكان ما يجوز أن يكون رافعا ولا يتوقفون عنه ; لأن في ذلك إسقاط ما علم صحته لما لا يعلم كونه . وقد علم أن الناس لا يمكنهم مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأحوال لا يفارقونه ; بل عليهم استعمال ما علموه حتى يعلموا خلافه مع احتمال زوال ما علموا أو وجب عليهم تبليغه ، قال تعالى : { لأنذركم به ومن بلغ } . وعلى ذلك جرى أمر السلف كابن مسعود في الكلام في الصلاة ، لم ينزل عليه حتى قدم عليه السلام ، فأخبره أنه لا يجوز . وكان معاذ ومن بلغه معاذ سواء في الاعتقاد وفي الفعل ، حتى يعلم خلافه ، وإلا فلا معنى لتوجيهه ليعلم الناس لإمكان نسخ ما بعث به .

                                                      ثم قال : باب الإبانة عما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم غير مواجه في الصلاة وغيرها ; قال قائلون : ليس على من سمع ذلك اعتقاد ما سمع ولا فعله حتى يسأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فيبين له ، لأنه لم يواجهه بالخطاب ، وإنما سمع درسا ، وقد يدرس المنسوخ . [ ص: 56 ]

                                                      وقيل : لا يكلف إلا ما سمع حتى يعلم خلافه ، وقال أبو بكر : والذي أقوله : إن كل آية سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم بأمر أو نهي وكان الكلام قد تم ولم يتعقبه ويقارنه بما يقتضي تخصيصه ، فعلى السامع اعتقاد ما سمع حتى يعلم خلافه ، ثم احتج على ذلك بأمور منها قوله تعالى : { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين } ، قال : فلما سمعوا عند انقضائه أثنى عليهم عند التقضي بالانصراف ، ولم يتوقفوا للسؤال ولا غيره ، فلما آمنوا به لزمهم حكم ما سمعوا حتى يعلموا أن الله أزال حكمه وأبقى تلاوته . وظاهر كلام الصيرفي أن الشافعي يقول ذلك ، فإن من جملة ما احتج به على هذا أن الشافعي احتج على خصوصه بقوله : ربما حضر الرجل من الصحابة قد سمع الجواب ، ولم يسمع السؤال والكلام يخرج على السبب ، فيحكي ما سمع ، وعلى كل إنسان أن يحكي ما سمع حتى يعلم خلافه ، فإذا كان هذا من النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يكون الجواز ممكنا من النبي عليه السلام ، والصحابة يسمعون ذلك ، ويمكنهم سؤاله فيجيبهم ، فهو في غيرهم أولى .

                                                      ثم قال : باب الإبانة عن العام يسمع من غير النبي صلى الله عليه وسلم في عصر النبي عليه السلام وهلم جرا إلى وقتنا هذا . فنقول : كل آية أو سنة وردت علينا ، فالواجب علينا اعتقاد ما سمعنا حتى نعلم خلافه من خصوص أو نسخ ، وعلتنا فيه ما اعتللنا من أمر معاذ وغيره من عمال النبي عليه السلام ، ومن لم يلق النبي عليه السلام ، بل اعتقدوا ما سمعوا منه وعملوا به ، لأنه لو جاز التوقف لاحتمال الخصوص لجاز التوقف عما علمناه ثانيا ، واحتمل في منعه ، وهذا يؤول إلى ترك الفرائض .

                                                      فأما القائلون بأن علينا طلب ذلك بقدر الطاقة كطلب الماء بحسب ما يمكن ، فإن وجده وإلا صار إلى التراب ، وإذا قد يدرك الجلي منه ما [ ص: 57 ] لا يدرك الخفي فليس عليه إلا ما يقدر عليه ، فإن وجده فيها وإلا عاد إلى القضاء بالعموم ، قلنا له : تطلب دليل الخصوص في بعض القرآن والسنة أو في كل ذلك ؟ فإن قال : أطلبه في البعض دون البعض ، فقد عمد إلى أهل الخصوص . وإن قال : أطلبه في كل ذلك ، قلنا : وقد علمت أنك لا تبلغ علم ذلك كله ، فتوقفك خطأ من وجهين . فأما تشبيههم بالماء والتراب فخطأ ، لأنهم أمروا أن يلتمسوا الماء إلى الطهور ، كما يلتمسوا أهل الزقاق ، ولم يكلفوا غير ذلك . انتهى كلامه . وهذا الباب الأخير يعلم منه ثبوت الخلاف في الصورة التي نقل عن الأستاذ الوفاق فيها ، وقد استفدنا من جملة كلامه أن للمسألة أحوالا :

                                                      أحدها : أن يخاطب النبي عليه السلام باللفظ العام فعلى المخاطب العمل بمقتضاه حتى يعلم خلافه .

                                                      ثانيها : أن يقول ذلك لا على جهة الخطاب له فعلى السامع اعتقاد عمومه .

                                                      ثالثها : أن يسمع العام من غير النبي عليه السلام في عصره أو بعده ، فالحكم فيه كذلك ، والخلاف ثابت في الجميع ، لكن الحالة الأولى فرعها على مذهبه في منع تأخير البيان إلى وقت الحاجة ، ثم إنه ذكر بعد ذلك تقييد ما سبق بما إذا لم يعلم أن فيه تخصيصا أو ناسخا ، أما إذا علم فإنه يتوقف ، فإنه قال بعد أوراق : باب القول في الأسماء التي قد علم أنه قد خص أو نسخ بعض حكمه ولا نعلم ناسخه أو البعض المنسوخ منه .

                                                      قال أبو بكر : كل خطاب خوطبت به ، وعلمت أن فيه خصوصا أو نسخا ولم تعلمه ، فلا تقدم فيه على شيء منه ، لأنك لا تتوجه إلى وجه من وجوه الاستعمال إلا تعادل في نفسك بضده ، فليس البعض أولى من الآخر ، فلا تقدم عليه حتى تعلم المرفوع من الثابت . [ ص: 58 ] ثم قال : وليس هذا مثل القرآن كله إذا علم أن فيه منسوخا ، لأني لا أدري هل ذلك في القرآن من النسخ واقع لهذا أو لغيره ، فلا أترك ما ثبت أمره حتى أعلم خلافه انتهى .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية