الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ الفرق بين دلالة الاقتضاء ودلالة الإضمار ]

                                                      الثالث : الكلام في هذه يستدعي فهم دلالة الاقتضاء ، وهل هي مغايرة للإضمار ؟ وقد اختلف في ذلك ، فذهب جماعة من الحنفية ، منهم أبو زيد الدبوسي إلى عدم المغايرة ; لأن كلا منهما عبارة عن إسقاط شيء من الكلام ، لا يتم الكلام بدونه نظرا إلى العقل أو الشرع أو إليهما ، لا إلى اللفظ ، إذ اللفظ صحيح منهما ، وذهب الجمهور إلى الفرق ، ثم اختلفوا في وجه التغاير على أقوال :

                                                      أحدها : وبه يشعر كلام الإمام فخر الدين أن الاقتضاء إثبات شرط يتوقف عليه وجود المذكور ، ولا يتوقف عليه صحة اللفظ ، نحو اصعد السطح ، فإنه يقتضي نصب السلم ، وهو أمر يتوقف عليه وجود الصعود ، ولا تتوقف عليه صحة اللفظ ، بخلاف الإضمار فإنه إثبات أمر تتوقف عليه صحة اللفظ ، وهذا ضعيف ، لأن قوله تعالى : { واسأل القرية } من باب الإضمار .

                                                      ولا يتوقف صحة اللفظ على إضمار الأهل ، لأن العقل لا يحيل السؤال من القرية .

                                                      وثانيها : ذكره عبد العزيز في " الكشف شرح البزدوي " أن في صورة الإضمار تغيير إسناد اللفظ عند التصريح بالمضمر كالأهل في { واسأل القرية } ، بخلاف الاقتضاء ، فإنه يبقى الإسناد على حاله ، ورد أيضا باتفاق الأصوليين على أن قوله عليه السلام : { رفع [ ص: 220 ] عن أمتي الخطأ والنسيان } من باب الاقتضاء مع أنه يتغير الإسناد بالمضمر .

                                                      وثالثها : أن المضمر كالمذكور لفظا ، ولهذا له عموم ، ولهذا لو قال لامرأته : طلقي نفسك ، ونوى ثلاثا صحت نيته ، إذ المصدر مضمر فيه ، فكأنه قال طلقي نفسك طلاقا ، وأما المقتضي فليس هو كالمذكور لفظا ، وكذا لا يعم ، ورد بأنا لا نسلم إضمار المصدر في الأولى ، لأنه على خلاف الأصل ، فلا يصار إليه إلا لضرورة ، ولا ضرورة فيه .

                                                      قال الصفي الهندي : والصحيح الفرق بينهما من حيث المعنى واللفظ ، أما من حيث المعنى فالمقتضي أعم من المضمر ، لأن المقتضي قد يكون مشعورا به للمتكلم ، وقد لا يكون ، بخلاف المضمر ، فإنه لا يكون إلا يكون مشعورا به ; لأنه اسم مفعول من أضمره المتكلم ، فعلى هذا كل مضمر مقتضى ، ولا عكس ، وأما من حيث اللفظ ، فمن وجهين :

                                                      أحدهما : أن الإضمار إنما يستعمل حيث يعرفه كل أحد ، لأنه عبارة عن إسقاط شيء يدل عليه الباقي ، بخلاف الاقتضاء ، فإنه قد يحتاج فيه إلى تأمل ونظر .

                                                      وثانيهما : أن في صورة الإضمار تغيير إسناد اللفظ عند التصريح بالمضمر ، وفي الاقتضاء قد يكون كذلك ، كقوله : { رفع عن أمتي الخطأ } وقد لا يكون كما في اصعد السطح ، وكذلك في اعتق عبدك عني ، والحاصل أنهما يفترقان من جهة الغفلة عن الشيء وتغير الإسناد ، وهما متحدان في أن المقصود بالكلام لا يتم إلا بهما .

                                                      وقال عبد العزيز في " شرح البزدوي " : وجعل الأصوليون منا ومن الشافعية والمعتزلة ما يضمر في الكلام لتصحيحه على أقسام . [ ص: 221 ] أحدها : ما أضمر لضرورة صدق المتكلم ، كقوله : { رفع عن أمتي } .

                                                      والثاني : ما أضمر لصحته عقلا ، كقوله : { واسأل القرية } .

                                                      والثالث : ما أضمر لصحته شرعا ، كقوله : اعتق عبدك عني ، وشمول مقتضى ، ولذلك قالوا في حده : هو جعل غير المنطوق منطوقا لتصحيح المنطوق ، ثم اختلفوا ، فذهب الشافعي إلى القول بجواز العموم في الثلاثة ، وبعضهم إلى المنع فيها ، وهو أبو زيد وذهب البزدوي وشمس الأئمة السرخسي وصدر الإسلام إلى أن اسم المقتضي يطلق على الثالث فقط ، وسموا الباقي محذوفا ومضمرا ، وقالوا بالعموم في المضمر دون المقتضي .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية