الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
واعلم بأن المزارعة في جوازها اختلاف بين العلماء - رحمهم الله - وكان الخلاف في الصدر الأول والتابعين - رحمهم الله تعالى - بعدهم واشتبهت فيها الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع محمد - رحمه الله - ما نقل من الآثار في ذلك ، ثم بنى عليه بيان المسألة من طريق المعنى فممن قال بجوازها من الصحابة رضي الله عنهم علي رضي الله عنه ومعاذ رضي الله عنه على ما روي عن طاوس - رحمه الله - قال : قدم علينا معاذ رضي الله عنه اليمن ونحن نعطي أراضينا بالثلث والربع فلم يعب ذلك علينا ، وفيه بيان : أن ترك التكثر ممن تعين عليه البيان [ ص: 10 ] دليل التقرير ، فقد كان معاذ رضي الله عنه متعينا للبيان لأهل اليمن ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إليهم ليبين لهم الأحكام ، واستدل بترك التكثر عليهم بعد ما اشتهر هذا العقد بينهم على جوازه ، ثم روي عنه أنه أمضى ذلك ، وفي هذا تنصيص على الفتوى بالجواز وعن طاوس - رحمه الله - أنه سئل عن المخابرة في الأرض فقال : " خابروا على الشطر ، والثلث ، والربع ، ولا تخابروا على كيل معلوم " فكأن طاوسا تعلم من معاذ رضي الله عنه ، وفيه دليل : أن المزارعة على كيل معلوم يشترطه أحدهما لا تجوز ، وبه يأخذ من يجوز المزارعة ; لأن هذا الشرط يؤدي إلى قطع الشركة في الخارج بعد حصوله ، وعن موسى بن طلحة قال : أقطع عمر رضي الله عنه خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سعد بن مالك والزبير ، وخبابا ورأيت هذين يعطيان أرضهما بالثلث والربع وعبد الله وسعدا رضي الله عنهم والمراد عبد الله بن مسعود . وقد ذكره مفسرا بعد هذا وهو من كبار فقهاء الصحابة وسعد بن مالك من العشرة ، وكانا يباشران المزارعة بالثلث والربع ، وفي الحديث دليل : أن للإمام ولاية الإقطاع فيما ليس بملك لإنسان بعينه ; لأن ما كان الحق فيه لعامة المسلمين فالتدبير فيه إلى الإمام ، وله أن يخص بعضهم بشيء من ذلك على حسب ما يرى ، كما يفعله في بيت المال وعن أبي الأسود قال : إنا كنا لنزارع على عهد علقمة والأسود - رحمهما الله - بالثلث والربع فما يعيبان ذلك علينا وهما من كبار أصحاب علي وعبد الله رضي الله عنهما ، وفتواهما في ذلك على موافقة فتوى علي وعبد الله رضي الله عنهما حجة أيضا ، وعن محمد بن رافع بن خديج قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا إلى قوم يطمس عليهم نخلا فجاء أرباب النخيل فقالوا : يا رسول الله إن فلانا قد طمس علينا نخلنا فقال : عليه الصلاة والسلام قد بعثت رجلا في نفسي أمينا فإن أحببتم أن تتخذوا نصيبكم بما طمس ، وإلا أخذنا وأعطيناكم نصيبكم فقالوا : هذا الحق وبالحق قامت السموات والأرض ، والمراد بالطمس المذكور في أول الحديث " الحزر " والمذكور ثانيا " الظلم " فالطمس هو الاستئصال ومنه يقال عين مطموسة قال الله تعالى { . فطمسنا أعينهم } وكان الحديث في ابن رواحة رضي الله عنه في أهل خيبر وإن لم يفسره في هذه الرواية ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بعثت رجلا في نفسي أمينا " في معنى الرد لتعنتهم عليه وهكذا ينبغي للإمام أن يختار لعمله من هو أمين عنده ، ثم يقبل قوله فيما يخبر به ولا يرده لطعن الطاعنين ، فالقائل بحق لا بد أن يطعن فيه بعض الناس ، فالناس أطوار وقليل منهم الشكور ، وقد تحقق تعنتهم لما خيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 11 ] فقالوا : " هذا الحق وبالحق قامت السموات والأرض " وبيانه في قوله تعالى { : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض } ، وعن الضحاك رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه كان يكري الأرض الجرز بالثلث والربع ، وكان لا يرى بذلك بأسا ، والمراد به الأرض البيضاء التي تصلح للزراعة ، قال الله تعالى { : أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز } وعمر رضي الله عنه كان ممن يرى جواز المزارعة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { أينما دار عمر فالحق معه } رضي الله عنه فهو حجة لمن يجوزها { وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال لرافع بن خديج : ما حديث بلغني عن عمومتك في كراء المزارع فقال : دخل عمومتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرجوا إلينا فأخبرونا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع } فقال ابن عمر رضي الله عنه : قد كنت أعلم إنا كنا نكري الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لرب الأرض ماء في الربيع الساقي الذي يتفجر منه الماء ، وطائفة من الدين قال : لا أدري كم هو قال محمد - رحمه الله - وهذا عندنا هو الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من كراء المزارع أنهم كانوا يكرونها بشيء لا يدرون كم هو ولا ما يخرج ، وفيه دليل : أن النهي العام يجوز أن يقيد بالسبب الخاص إذا علم ذلك ، فقد قيد ابن عمر رضي الله عنه النهي المطلق بما عرف من السبب والخصوصية ، وهو تأويل النهي عند من أجاز المزارعة قال : المزارعة بهذه الصفة لا تجوز ; لأنها تؤدي إلى قطع الشركة في الخارج مع حصولها فمن الجائز أن يحصل الخارج في الجانب الذي شرط لأحدهما دون الجانب الآخر ، والربيع الساقي الماء وهو ماء السيل ينحدر من الموضع المرتفع فيجتمع في موضع ثم ، يسقي منه الأرض ولكن أبو حنيفة - رحمه الله - أخذ بعموم النهي بحديثين رويا في الباب عن رافع بن خديج رضي الله عنه أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بحائط فأعجبه فقال لمن هذا فقال رافع رضي الله عنه : لي استأجرته فقال عليه الصلاة والسلام : لا تستأجره بشيء منه وهذا الحديث يمنع حمله على هذا التأويل ، والثاني : ما روي عن رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي { صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع فقلت إنا نكريها بما على الربيع الساقي فقال لا فقلت إنا نكريها بالتبن فقال : لا فقلت إنا نكريها بالثلث والربع فقال عليه السلام : لا ازرعها أو امنحها أخاك } ، وهذا إن ثبت فهو نص وكأن هذه الزيادة لم تثبت عند من يرى جوازها ، وإنما الثابت القدر الذي رواه محمد - رحمه الله - عن رافع بن خديج رضي الله عنه { أن أسد بن ظهير جاء ذات يوم إلى قومه فقال يا بني خارجة [ ص: 12 ] قد دخلت عليكم اليوم مصيبة قالوا : ما هي ؟ قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض قلنا يا رسول الله إنا نكريها بما يكون على الربيع الساقي من الأرض فقال عليه السلام : لا ازرعها أو امنحها أخاك } وإنما سمى ذلك مصيبة لهم ; لأن اكتسابهم كان بطريق المزارعة ، وكانوا قد تعارفوا ذلك وكان يشق عليهم تركها ، فلو كان المراد التأويل الذي أشار إليه في الحديث الأول لم يكن في ذلك كبير مصيبة ; لتمكنهم من تحصيل المقصود بدفع الأرض مزارعة بجزء شائع من الخارج ، فهو دليل لأبي حنيفة - رحمه الله - وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام : " ازرعها أو امنحها أخاك " يدل على سد باب المزارعة عليهم بالنهي مطلقا ، وبه يستدل من يقول من المتعسفة : إنه لا يجوز استئجار الأرض بالذهب والفضة لمقصود الزراعة ، ولكن ما روينا من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وهو قوله لي استأجرته دليل على جواز ذلك ، وقد ذكر بعد هذا آثارا تدل على جوازه ، والمراد ههنا الانتداب إلى ما هو من مكارم الأخلاق بأن يمنح الأرض غيره إذا استغنى عن زراعتها بنفسه ، ولا يأخذ منه أجرا على ذلك ، وعن يعلى بن أمية وكان عاملا لعمر رضي الله عنه على نجران فكتب إليه يذكر له أرض نجران فكتب إليه عمر رضي الله عنه ما كان من أرض بيضاء يسقيها السماء ، أو تسقى سحا فادفعها إليهم ، لهم الثلث ولنا الثلثان وما كان من أرض تسقى بالغروب فادفعها إليهم ، لهم الثلثان ولنا الثلث ، وما كان من كرم يسقيه السماء أو يسقى سحا فادفعه إليهم لهم الثلث ، ولنا الثلثان ، وما كان يسقى بالغروب فادفعه إليهم ، لهم الثلثان ولنا الثلث ، والمراد بالأراضي التي هي لبيت المال حق عامة المسلمين أنه يدفعها إليهم مزارعة .

( ألا ترى ) أنه فاوت في نصيبهم بحسب تفاوت عملهم بين ما تسقيها السماء ، أو تسقى بالغروب وهي الدوالي ، فهو دليل لمن يجوز المزارعة ، وعن عمرو بن دينار قال قلت لطاوس : يا أبا عبد الرحمن لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فقال : أخبرني أعلمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها ، ولكنه قال : يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ منه خرجا معلوما ، أو قال خراجا معلوما ، وكل واحد من اللفظين لغة صحيحة ، والمراد بقوله : " أعلمهم " ( معاذ ) رضي الله عنه فكأنه أشار به إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل } أو قال ذلك ; لأنه أخذ العلم منه ، وهكذا ينبغي لكل متعلم أن يعتقد في معلمه أنه أعلم أقرانه ليبارك له فيما أخذ منه ، ثم قد دعاه عمرو بن دينار إلى الأخذ بالاحتياط ، والتحرز عن موضع الشبهة والاختلاف فأبى ذلك ; لأنه كان يعتقد فيه الجواز كما تعلمه من [ ص: 13 ] أستاذه ، وفيه دليل أنه لا بأس للإنسان من مباشرة ما يعتقد جوازه وإن كان فيه اختلاف العلماء - رحمهم الله - ولا يكون ذلك منه تركا للاحتياط في الدين ، وقوله : " يمنح أحدكم أخاه " إشارة إلى الانتداب الذي بيناه في الحديث الأول ، وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال : { لم ينه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها حتى تظالموا كان الرجل يكري أرضه ويشترط ما يسقيه الربيع والنطف فلما تظالموا نهى عنها ، والنطف جوانب الأرض } فهذا إشارة إلى التأويل الذي ذكره محمد - رحمه الله - وأن النهي كان بناء على تلك الخصومة ، فكان تقييدا بها ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فتركنا من أجل قوله يعني : من أجل روايته وابن عمر كان معروفا بالزهد والفقه بين الصحابة رضي الله عنهم ، وأشار بهذا إلى أنه يعتقد في المزارعة الجواز ، ولكنه تركها لحيثية مطلق النهي المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكم من حلال يتركه المرء على طريق الزهد وإن كان يعتقد الجواز على ما جاء في الحديث : { لا يبلغ العبد محض الإيمان حتى يدع تسعة أعشار الحلال مخافة الحرام } وعن ابن عمر قال : أكثر رافع رضي الله عنه على نفسه ليكريها كراء الإبل معناه : شدد الأمر على نفسه بروايته النهي مطلقا من غير رجوعه إلى سبب النهي ، ولأجل روايته يترك المزارعة ويكري الأرض بالذهب والفضة كراء الإبل ، فهو دليلنا على جواز الإجارة في الأراضي لمقصود الزراعة وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا أكرى الأرض اشترط على صاحبها أن لا يدخلها كلبا ، ولا يعذرها وهذا من المتقرر الذي اختاره عمر رضي الله عنه ، ولسنا نأخذ به فلا بأس بإدخال الكلب الأرض لحفظ الزرع .

( ألا ترى ) أن الحديث جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في ثمن الكلب للصيد والحرث والماشية وقوله : " لا يعذرها " أي : لا يلقي فيها العذرة وهو ما ينفصل من بني آدم ، وقد كان بين الصحابة خلاف في جواز استعمال ذلك في الأرض ، فابن عمر رضي الله عنه كان لا يجوز ذلك ، وكذلك ابن عباس رضي الله عنهما كان ينهى عن إلقاء العذرة في الأرض وعن سعد رضي الله عنه أنه كان يجوز ذلك ، وهكذا روي عن أبي هريرة رضي الله عنه حتى كان يباشر ذلك بنفسه فعاتبه إنسان على ذلك فجعل يقول : مكيل بر بمكيل بر ، وعن أبي حنيفة فيه روايتان في إحدى الروايتين يجوز إلقاؤها في الأرض إذا كان غير مخلوط بالتراب ، وفي الرواية الأخرى لا يجوز ذلك إلا مخلوطا وهو الظاهر من المذهب إذا صار مغلوبا بالتراب فحينئذ [ ص: 14 ] يجوز إلقاؤها في الأرض ، ويجوز بيعها ; لأن المغلوب في حكم المستهلك فأما إذا كانت غير مخلوطة بالتراب فلا يجوز بيعها ، ولا استعمالها في الأرض لنجاسة عينها بمنزلة الخمر ، وكانت هذه الحرمة لاحترام بني آدم فبيع السرقين ، وإلقاؤه في الأرض جائز ولكن لاحترام بني آدم لا يجوز ذلك في الرجيع وهو كالشعر فإن شعر الآدمي لا ينتفع به بعد ما بان عنه ، بخلاف شعر سائر الحيوانات وصوفها ، وعلى الرواية الأخرى عن أبي حنيفة إذا ألقاها في الأرض وخلطها بالأرض ، وصارت مستهلكة فيها يجوز استعمالها كذلك ، ولكن لا يجوز بيعها غير مخلوطة بالتراب ، وعن خالد الحذاء قال : كنت عند مجاهد فذكر حديث رافع بن خديج رضي الله عنه في كراء الأرض فرفع طاوس يده فضرب صدره ثم قال : قدم علينا معاذ رضي الله عنه اليمن وكان يعطي الأرض على الثلث والربع فنحن نعمل به إلى اليوم ، ومعنى ما قاله طاوس أن معاذا رضي الله عنه كان أعلمهم بالحلال والحرام ، وما كان يخفى عليه النهي الذي رواه رافع بن خديج وقد كان يباشر المزارعة بالثلث والربع ، فنحن نتبرم في ذلك ونحمل النهي على ما حمله معاذ رضي الله عنه ، فقد كان دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمد الله تعالى لما وفقه لما يرضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن كليب بن وائل قال قلت لابن عمر رضي الله عنهما رجل له أرض وليس له بذر ولا بقر أعطاني أرضه بالنصف فزرعتها ببذري وبقري ، ثم قاسمته فقال : حسن وفيه منه دليل على أن العالم يفتي بما يعتقد فيه الجواز ، وإن كان لا يباشره فقد روينا أن ابن عمر رضي الله عنهما ترك المزارعة لأجل النهي ، ثم أفتى بحسنها وجوازها للسائل وعن جابر رضي الله عنه قال { دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم مبشر فقال يا أم مبشر من غرس هذا النخل مسلم أو كافر ؟ قالت : بل مسلم قال عليه الصلاة والسلام لا يغرس المسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا سبع ولا طير إلا كانت له صدقة يوم القيامة } وفي رواية وما أكلت العافية منها فهي له صدقة يعني الطيور الخارجة عن أوكارها ، الطالبة لأرزاقها ، وفيه دليل أن المسلم مندوب إلى الاكتساب بطريق الزراعة ، والغراسة ولهذا قدم بعض مشايخنا - رحمهم الله - الزراعة على التجارة ; لأنها أعم نفعا وأكثر صدقة ، وقد باشرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روينا أنه ازدرع بالجرف ، وفي الحديث رد على من يكره من المتعسفة الغرس والبناء وقالوا : إنه يركن به إلى الدنيا وينتقص بقدره من رغبته في الآخرة ، والآخرة خير لمن اتقى ، وهذا غلط ظنوه فإنه يتوصل بهذا الاكتساب إلى الثواب في الآخرة [ ص: 15 ] وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام { نعم مطية المؤمن الدنيا إلى الآخرة : الغرس ، والبناء } وإن كان حسنا من كل واحد ولكن معنى القربة فيه إذا باشره المسلم دون الكافر ، فإن الكافر ليس من أهل القرابة وهو مأمور بتقديم الإسلام على الاشتغال بالغرس ، ولكن قد ورد أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يأثر عن ربه عز وجل قال : { عمروا بلادي فعاش فيها عبادي } فلهذا قلنا هذا الفعل حسن من كل أحد . وعن ابن المسيب رضي الله عنه أنه كان لا يرى بأسا بكراء الأرض البيضاء بذهب وفضة ، وعن جبير أنه كان لا يرى بأسا بإجارة الأرض بدراهم ، أو بطعام مسمى ، وقال هل ذلك إلا مثل دار أو بيت ؟ ، وهو حجة على مالك - رحمه الله - فإنه لا يجوز إجارة الأرض بالطعام لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم لا يستأجر بشيء منه ، ولكنا نقول الأرض غير منتفع بها كالدار والبيت ، وكل ما يصلح ثمنا في البيع يصلح أجرة في الإجارة ، وتأويل النهي الاستئجار بأجرة مجهولة معدومة هي على خطر الوجود كما يكون في المزارعة وهذا ينعدم في الاستئجار بطعام مسمى ، وربما يكون في هذا نوع رفق ; لأن من يستأجر الأرض للزراعة فأداء الطعام أجرة أيسر عليه من أداء الدراهم ; لقلة النقود في أيدي الدهاقين ، وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة ، والمزابنة ، وقال : إنما يزرع ثلاثة : رجل له أرض فهو يزرعها أو رجل منح أرضا فهو يزرع ما منح ، أو رجل استكرى أرضا بذهب أو فضة } ، والمزابنة بيع التمر على رءوس النخل بتمر مجدود على الأرض خرصا فالنهي عنها حجة لنا في إفساد ذلك العقد ، والمحاقلة قيل : بيع الحنطة في سنبلها بحنطة ، والعرب تقول الحقلة تنبت الحقلة أي : الحنطة تنبت السنبلة وقيل المحاقلة المزارعة وهذا أظهر فقد فسره عليه الصلاة والسلام بقوله : " إنما يزرع ثلاثة " فهو دليل لأبي حنيفة على أن الانتفاع بالأرض للزراعة مقصور على هذه الطرق الثلاثة ، وأن المزارعة بالربع والثلث لا تكون صحيحة ; لأن كلمة إنما لتقرير الحكم في المذكور ، ونفيه عما عداه ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن أمثل ما أنتم صانعون أن يستكري أحدكم الأرض البيضاء بذهب أو فضة عاما بعام يعني : أبعدها عن المنازعة ، والجهالة واختلاف العلماء - رحمهم الله - فإن الأمثل ما يكون أقرب إلى الصواب والصحة وذلك فيما يكون أبعد عن شبهة الاختلاف . ، وعن مجاهد قال { اشترك أربعة نفر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم : من عندي البذر ، وقال الآخر : من عندي العمل ، وقال الآخر : من عندي الفدان . وقال الآخر : من عندي الأرض [ ص: 16 ] فقضى في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لصاحب الفدان أجرا مسمى ، وجعل لصاحب العمل درهما كل يوم ، وألحق الزرع كله لصاحب البذر ، وألغى الأرض } وبهذا يأخذ من يجوز المزارعة فيقول : المزارعة بهذه الصفة فاسدة ; لما فيها من اشتراط الفدان وهي البقر وآلات الزراعة على أحدهم مقصودا به وبما فيها من دفع البذر مزارعة على الانفراد ، وكل واحد من هذين مفسد للعقد ، ثم في المزارعة الفاسدة الخارج كله لصاحب البذر ; لأنه بما بذره .

( ألا ترى ) أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحقه بصاحب البذر وألغى الأرض يعني : لم يجعل لصاحب الأرض من الخارج شيئا ، إلا أنه يستوجب على صاحب البذر أجر مثل أرضه ، بل يستوجب ذلك عليه كصاحب الفدان ، وقد أعطاه أجرا مسمى ، والمراد أجر المثل وصاحب العمل فقد أعطاه درهما كل يوم ، وتأويله أن ذلك كان أجر مثله في عمله ، وكما أنه سلم لصاحب البذر منفعة الفدان ، والعامل بحكم عقد فاسد فقد سلم له منفعة الأرض بعقد فاسد فيستوجب أجر المثل ، وبهذا تبين أن المراد بالإلغاء أنه لم يجعل لصاحب الأرض شيئا من الخارج ، فكان الطحاوي لا يصحح هذا الحديث ويقول : " الخارج لصاحب الأرض " أورد ذلك في المشكل وقال : البذر يصير مستهلكا ; لأن النبات يحصل بقوة الأرض ، فيكون النابت لصاحب الأرض وجعل الأرض كالأم ، وفي الحيوانات الولد يكون مملوكا لصاحب الأم لا لصاحب الفحل ، ولكن هذا وهم منه ، والحديث صحيح وكل قياس بمقابلته متروك ، ثم في الحيوانات توجد الحضانة من الأم لماء الفحل في رحمها ، وفي حجرها بلبنها نموه بعد الانفصال فلهذا جعلت تابعة للأم في الملك ، وذلك لا يوجد في الأرض ، ثم الخارج نماء البذر ألا ترى أنه يكون من جنس البذر وقوة الأرض ، ويكون بصفة واحدة ، ثم جنس الخارج يختلف باختلاف جنس البذر فعرفنا أنه يكون نماء البذر ، فيكون لصاحب البذر ، وهذا هو الحكم في كل مزارعة فاسدة أن للعامل أجر مثل عمله إن عمل بنفسه ، أو بأجرائه أو بغلمانه ، أو بقوم استعان بهم بغير أجر ، ويكون الخارج لصاحب البذر في هذه المسألة بعينها ، قول جميع المتقدمين من أصحابنا - رحمهم الله - أما عند أبي حنيفة - رحمه الله - فلأن المزارعة فاسدة على كل حال ، وعندهما المزارعة فاسدة هنا كما بينا ، ثم صاحب البذر يؤمر فيما بينه وبين ربه عز وجل أن ينظر إلى الخارج فيدفع فيه مثل ما بذر ومقدار ما غرم فيه من الأجر لصاحب الأرض ، ولصاحب العمل ولصاحب البقر فيطيب له ذلك بما غرم فيه ، ويتصدق بالفضل لتمكن الحنث فيه باعتبار فساد العقد ، والأصل في المزارعة الفاسدة [ ص: 17 ] أنه متى ربى زرعه في أرض غيره يؤمر بالتصدق بالفضل ، وإن ربى زرعه في أرض نفسه بعقد فاسد لا يؤمر بالتصدق في عقد فاسد ، وسيأتي بيان هذا الفصل في موضعه إن شاء الله تعالى

التالي السابق


الخدمات العلمية