الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولا خلاف أن أحد الشريكين في الدم إذا عفا أن للآخر أن يستوفي المال ، ولو لم يكن المال واجبا له بنفس القتل لما وجب بالعفو ; لأن العفو مسقط ، ولو وجب بالعفو لوجب على العافي ، وإن كان محسنا كضمان الإعتاق يجب على المعتق إذا كان موسرا ، ولما وجب المال للآخر على القتل عرفنا أنه كان واجبا بنفس القتل ، ولما ظهر ذلك عند العفو في حق من لم يعف فكذلك يظهر في حق العافي إذا عفا عن القصاص فقلنا : يتمكن من أخذ المال ; ولأن القاتل في الامتناع من أداء الدية بعدما استحقت نفسه قصاصا ملق نفسه في التهلكة ، فيكون ممنوعا شرعا كالمضطر إذا وجد طعاما يشتريه ، ومعه ثمنه يفترض عليه شراؤه شرعا لهذا المعنى [ ص: 62 ] فكذا هاهنا .

وحجتنا في ذلك قوله : عليه الصلاة والسلام { العمد قود } فقد أدخل الألف ، واللام في العمد ، وذلك للمعهود فإن لم يكن فللجنس ، وليس هاهنا معهود فكان للجنس ، وفيه تنصيص على أن جنس العمد موجب للقود فمن جعل المال واجبا بالعمد مع القود فقد زاد على النص ، وإلى هذا أشار ابن عباس رضي الله عنه في قوله العمد قود ، ولا مال له فيه وعن علي وابن مسعود رضي الله عنهما قالا : في دم عمد بين شريكين عفا أحدهما انقلب نصيب الآخر مالا فتخصيصهما غير العافي بوجوب المال له دليل على أن العافي لا شيء له فأما ما روي من قوله { فأهله بين خيرتين } فقد اختلفت الرواية فيه فإن في بعض الروايات { إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا فادوا . }

، والمفاداة على ميزان المفاعلة يقتضي وجود القتل بين اثنين بالتراضي ، وذلك أخذ الدية بطريق الصلح ، وتأويل الرواية التي قال : وإن أحبوا أخذوا الدية من جهتين : أحدهما أنه إنما لم يذكر رضا القاتل ; لأن ذلك معلوم ببديهة العقل فإن من أشرف على الهلاك إذا تمكن من دفع الهلاك عن نفسه بأداء المال لا يمتنع من ذلك إلا من سفهت نفسه ; لأن امتناعه لإبقاء منفعة المال سفه ، ولا يتصور ذلك بعدما تلفت نفسه ، وهو نظير قوله عليه الصلاة والسلام { خذ سلمك أو رأس مالك } ، وهو في أخذ رأس المال يحتاج إلى رضا المسلم إليه ، ولم يذكره لا لأنه غير محتاج إليه بل ; لأنه معلوم بطريق الظاهر .

والثاني : أن المراد أن لا يجبر الولي على أخذ الدية شاء أو أبى لا أن له أن يجبر غيره على أداء الدية بدليل قصة الحديث فإنه روي { أن رجلا من خزاعة قتل رجلا من هذيل يوم فتح مكة بعدما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكف عن القتل فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أما أنتم يا معاشر خزاعة فقد قتلتم هذا القتيل من هذيل ، وأنا والله عاقلته فوداه بمائة من الإبل من عند نفسه ثم قال فمن قتل له بعد اليوم قتيل فأهله بين خيرتين } فقد أجبر الولي على أخذ الدية ثم تبين بهذا اللفظ أن الحكم قد انتسخ ، وأن الولي لا يجبر على أخذ الدية بعده ، وفي الحديث الآخر عرض الدية على الولي ، وهذا لا ينفي كون رضا القاتل مشروطا فيه ، ولكنه إما أن يكون قصد التبرع بأداء الدية من عنده ، ولم يعتبر رضا القاتل في هذه الحالة ، أو أراد أن يعلم رغبة المولى في أخذ الدية ثم يشتغل باسترضاء القاتل كمن سعى بالصلح بين اثنين يسترضي أحدهما فإذا تم له ذلك حينئذ استرضى الآخر .

والمعنى في المسألة أنه أتلف شيئا مضمونا فيتقدر ضمانه بالمثل ما أمكن كإتلاف المال وتفويت حقوق الله تعالى من الصوم ، والصلاة ، والزكاة يكون الواجب فيها [ ص: 63 ] المثل إذا أمكن .

وهذا لأن ضمان المتلفات مقدر بالمثل بالنص قال الله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ; ولأن الزيادة على المثل ظلم على المتعدي ، وفي النقصان يحسن بالمتعدى عليه ، والشرع إنما يأمر بالعدل ، وذلك بالمثل ، إذا ثبت هذا فنقول : الدية ليست بمال للمتلف ، والقصاص مثل أما بيان أن الدية ليست بمثل ; فلأن المماثلة بين الشيئين تعرف صورة أو معنى ، ولا مماثلة بين المال ، والآدمي صورة ، ولا معنى ، والنفس مخلوقة لأمانة الله تعالى ، والاشتغال بطاعته ; ليكون خليفة في الأرض ، والمال مخلوق لإقامة مصالح الآدمي به ليكون مبتذلا في حوائجه .

فأما القصاص من حيث الصورة ; فلأنه قتل بإزاء قتل وإزهاق حياة بإزهاق حياة ، ومن حيث المعنى فالمقصود بالقتل ليس إلا الانتقام ، والثاني في معنى الانتقام كالأول ، وبهذا سمي قصاصا ثم المثل واجب بطريق الجبر ، ولا يجعل جبران الحياة بالمال ، وإنما جبران الحياة بحياة مثلها ، وذلك في القصاص فإن الله تعالى نص على أن في القصاص حياة فعلينا أن نعقد هذا المعنى في القصاص عقلناه أو لم نعقله ، ثم هو معقول من الوجه الذي ذكرنا أنه حياة بطريق دفع سبب الهلاك ، ولكن للولي الذي هو قائم مقام المقتول كما أن المال في الموضع الذي يجب إنما ينتفع به الذي هو قائم مقام المقتول ، ولا حاجة بنا إلى إثبات المماثلة في القصاص ; لأن ذلك واجب بالقصاص ، وهو محض حق العبد ، ولا حق للعبد إلا في المثل ، فأما أجزية الأفعال المحرمة فتجب حقا لله تعالى وإنما حاجتنا إلى أن يثبت أن المال ليس بمثل للنفس وقد أثبتنا ذلك فقلنا : لا يجب بمقابلة النفس المتلفة قتلا إلا في الموضع الذي يجب بتعذر إيجاب المثل فحينئذ يجب المال بالنص بخلاف القياس ، وهو في حالة الخطأ ; لأن المثل نهاية في العقوبات المعجلة في الدنيا ، والخاطئ معذور فتعذر إيجاب المثل عليه ، ونفس المقتول محرمة لا يسقط جزء منها بعذر الخاطئ فوجب صيانتها عن الهدر فأوجب الشرع المال في حالة الخطأ لصيانة النفس المحرمة عن الإهدار لا بطريق أنه مثل كما أوجب الفدية على الشيخ الفاني عند وقوع اليأس به عن الصوم وذلك لا يدل على أن الإطعام مثل الصوم ، وإذا ثبت أن وجوب المال بهذا الطريق ففي الموضع الذي يتمكن فيه من استيفاء مثل حقه لا معنى لإيجاب المال وكما ثبت هذا المعنى في الخطأ قلنا : في كل موضع من مواضع العمد بتحقق هذا المعنى نوجب هذا المال أيضا ; لأن المخصوص من القياس بالنص يلحق به ما يكون في معناه من كل وجه فالأب إذا قتل ابنه عمدا يجب المال لتعذر إيجاب القصاص لحرمة الأبوة .

وإذا [ ص: 64 ] عفا أحد الشريكين يجب للآخر المال ; لأنه تعذر عليه استيفاء القصاص لمعنى في القاتل ، وهو أنه حتى يقص نفسه بعفو الشريك فكان ذلك في معنى الخطأ فوجب المال للآخر ، ولا يجب للعافي ; لأنه إنما تعذر استيفاء القصاص على العافي بإسقاطه من جهته لا بمعنى في القاتل ، ثم إقدام العافي على العفو يكون تعيينا منه لحقه في القصاص ; لأن العفو يعترف فيه بالإسقاط ، وذلك لا يكون إلا بعد تعيين حقه فيه ، ومع تعيين حقه في القصاص لا يجب له المال .

وإذا مات من عليه القصاص إنما لا نوجب المال ; لأن هذا ليس في معنى الخاطئ من كل وجه فإن تعذر إيجاب استيفاء القصاص بعد موته كان لفوات المحل فلو ألحقنا هذا بالخاطئ لمعنى التعذر كان قياسا ، والمخصوص من القياس لا يقاس عليه غيره ، وإذا كانت يد القاطع شلاء فالمجني عليه هاهنا عاجز عن استيفاء مثل حقه بصفته لا لفوات المحل بل لمعنى في الجاني فإن شاء تجوز بدون حقه ، وإن شاء مال إلى استيفاء الأرش بمنزلة من أتلف على آخر كر حنطة ، ولم يجد عنده إلا كرا رديئا فإنه يتخير بين أن يتجوز بدون حقه ، وبين أن يطالب بالقيمة ; لتعذر استيفاء المثل بصفته بخلاف ما إذا قطعت يد القاطع ظلما ; لأن تعذر الاستيفاء هاهنا لفوات المحل فلم يكن في المعنى الأول ، وهو بخلاف ما إذا قطعت يده في سرقة أو قصاص فإنه يجب الأرش ; لأن المحل هناك في معنى القائم حكما حين قضى به حقا مستحقا عليه فيكون كالسالم له حكما فمن هذا الوجه هو في معنى الخطأ ، وما قال أن في النفس حرمتين فنقول في نفس القاتل حرمتان كما في نفس المقتول فإذا أوجبنا القصاص يحصل به مراعاة الحرمتين جميعا ، ثم القصاص لا يجب إلا باعتبار الحرمتين جميعا ، وإذا اعتبرناهما لإيجاب القصاص لا يبقى حرمة أخرى تعتبر لإيجاب المال ، ولو كان المعنى الذي قاله صحيحا لوجب أن يجمع بينهما استيفاء كمن قتل صيدا مملوكا في الحرم يجمع بين وجوب الكفالة ; لحرمة حق الله تعالى ووجوب الضمان لحق المالك .

وفيما قررنا جواب عما قال : إن القصاص واجب بخلاف القياس فإنه لما كان المثل صورة ومعنى هو القصاص علم أنه هو الموجب الأصلي ، والذي قال : إنه بالامتناع من أداء الدية يسلم نفسه في التهلكة ضعيف ، فإن إلقاء النفس في التهلكة إنما كان بالقبيل السابق فأما بالامتناع من أداء الدية يسلم نفسه لإيفاء حق مستحق عليه ، ويمتنع من أداء ما ليس عليه فلا يكون به ملقيا نفسه في التهلكة .

التالي السابق


الخدمات العلمية