الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولا يجزئه ذهب عن ورق ، ولا ورق عن ذهب ؛ لأنه غير ما وجب عليه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال :

                                                                                                                                            إخراج القيم في الزكوات لا يجوز ، وكذا في الكفارات حتى يخرج المنصوص عليه بدلا أو مبدلا .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : يجوز إخراج القيم في الزكوات والكفارات ، إلا أن يكون عتقا ، فكل مال جاز أن يكون متمولا ، إلا أن يكون سكنى دار ، أو من جنس منصوص عليه ، كإخراج نصف صاع تمر بدلا عن صاع من زبيب ، واختلف أصحابه في إخراج القيمة ، هل هي الواجب أو بدل عن الواجب ؛ على مذهبين .

                                                                                                                                            وقال مالك : يجوز إخراج الورق عن الذهب ، والذهب عن الورق لا غير ، واستدلوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في صدقة الفطر : " أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم " . والإغناء قد يكون بدفع القيمة ، كما يكون بدفع الأصل ، وبما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " في خمس وعشرين بنت مخاض ، فإن لم يكن فابن لبون ذكر " فنص على دفع القيمة .

                                                                                                                                            وبما روي عن معاذ أنه قال لأهل اليمن حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم واليا عليهم : " ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم ، وأنفع للمهاجرين والأنصار بالمدينة " فأمرهم بدفع الثياب بدلا عن الذرة والشعير ، وهو لا يقول ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا توقيفا ، قالوا : ولأنه مال مزكى فجاز إخراج قيمته كمال التجارة .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن القيمة مال فجاز إخراجها في الزكاة كالمنصوص عليه ، قالوا : ولأنه لما جاز في الزكاة العدول عن العين إلى الجنس ، وهو أن يخرج زكاة غنمه من غيرها جاز [ ص: 180 ] العدول من جنس إلى جنس ، ألا ترى أن في حقوق الآدميين لما لم يجز العدول من العين إلى الجنس لم يجز العدول من جنس إلى جنس .

                                                                                                                                            والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه : رواية عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمره أن يأخذ من الحب حبا ، ومن الغنم غنما ، ومن الإبل إبلا ، ومن البقر بقرا فاقتضى ظاهر أمره أن لا يجوز الأخذ من غيره . وروى عبد الله بن عمر قال : فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير ، على كل حر وعبد ذكر أو أنثى من المسلمين فخيره بين التمر والشعير دون غيرهما ، والمخالف فخيره بينهما أو بين قيمة أحدهما ، وظاهر الخبر يمنع منهما .

                                                                                                                                            وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض ، فإن لم تكن فابن لبون ذكر " وفيه دليلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه أمر أن يأخذ ابن لبون على وجه البدل عند عدم بنت مخاض ، وأبو حنيفة يجيز أخذه على وجه القيمة مع وجود بنت مخاض .

                                                                                                                                            والثاني : أنه نص على شيئين على الترتيب وأبو حنيفة يجيز ثالثا وهو القيمة ، ويسقط الترتيب ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ومن بلغت صدقته جذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تؤخذ منه ، ويجعل معها شاتين إن استيسر أو عشرين درهما " وفيه دليلان كالذي قبله ، ثم قدر البدل من الدراهم بعشرين درهما ، والقيمة غير مقدرة بالشرع كقيم المتلفات ، وإنما البدل مقدر بالشرع كالديات ، وهذا دليل ثالث من الخبر ، وهو أقواها ، ولأنه عدل عن المنصوص عليه إلى غيره فلم يجزه كسكنى داره ، وهو أن يسكنها الفقراء مدة تكون أجرتها قدر زكاته ، ولأنه إخراج قيمة في الزكاة فوجب أن لا يجزئه ، كما لو أخرج نصف صاع تمرا وسطا عن صاع تمر رديء ، أو أخرج شاة سمينة عن شاتين مهزولتين ، ولأنه حق في مال يخرج على وجه الطهرة فلم يجز إخراج قيمته كالعتق في الكفارة ، فإن قيل : هو باطل بجزاء الصيد يجوز عندكم إخراج قيمته ، قيل : غلط ؛ لأن القيمة ليست مخرجة ، وإنما يتعذر بها البدل المخرج ، ألا تراه يقوم الجزاء دراهم ثم تصرف الدراهم في طعام ولا تخرج الدراهم ، ولأن الزكاة تشتمل على مقدر مأخوذ وهو الزكاة ، ومقدر متروك وهو النصاب ، فلما ثبت أن القدر المتروك لا يقوم مقامه ما كان في معناه ، وهو أن يكون معه أربعة من الإبل ثنايا تساوي خمسا من الإبل دون الثنايا وجب أن يكون المقدار المأخوذ لا يقوم مقامه ما كان في معناه .

                                                                                                                                            [ ص: 181 ] وتحرير ذلك قياسا أنه أحد مقدري الزكاة فوجب أن لا يقيم غيره مقامه ، وإن كان في معناه كالنصاب ، ولأن الزكاة تشتمل على مال مزكى وقدر مؤدى ، فلما كان المال المزكى مخصوصا في بعض الأموال دون بعض وجب أن يكون القدر المؤدى مخصوصا في بعض الأموال دون بعض .

                                                                                                                                            وتحرير ذلك قياسا : أنه أحد نوعي الزكاة فوجب أن يكون في مال مخصوص كالمال المزكى ، فأما الجواب عن قوله أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم . فهو مجمل ؛ لأنه لم يذكر قدر ما يستغنون به ، ولا جنسه ، وقد رواه ابن عمر مفسرا ، فكان الأخذ به أولى .

                                                                                                                                            وأما الاحتجاج بقوله فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر فهو دلالة عليهم من وجهين ذكرناهما .

                                                                                                                                            وأما احتجاجهم بحديث معاذ فلا دلالة فيه ؛ لأنه وارد في الجزية لا في الزكاة ، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ في الزكاة من الحب حبا ، ثم عقب ذلك بالجزية فقال : خذ من كل حالم دينارا أو عدله من معافر اليمن ، فإن قيل : فقد قال معاذ " آخذه منكم مكان الذرة والشعير " وذلك غير واجب في الجزية ، قيل : يجوز أن يكون معاذ عقد معهم الجزية على أخذ الشعير من زروعهم ، يوضح أن ذلك من الجزية لا من الزكاة أن معاذا قال : " فإنه أنفع للمهاجرين والأنصار بالمدينة " والزكاة لا يجوز نقلها من جيران المال إلى غيرهم ، سيما عند معاذ الذي يقول : " أيما رجل انتقل من مخلاف عشيرته إلى غير مخلاف عشيرته فعشره وصدقته في مخلاف عشيرته " . فثبت أن ذلك في الجزية التي يجوز نقلها .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على مال التجارة فغير صحيح ؛ لأن الزكاة تجب في قيمة الفرض ، وتخرج زكاة القيمة إلا أنها تجب في الفرض وتخرج قيمة الفرض ، وإن قياسهم على المنصوص عليه فباطل بإخراج نصف صاع عن صاع ، وشاة عن شاتين ، ثم المعنى في الأصل أنه منصوص عليه ، فلذلك جاز إخراجه ، وليست القيمة منصوصا عليها فلذلك لم يجز إخراجها ، وأما قولهم : لما جاز العدول من العين إلى الجنس جاز العدول من جنس إلى جنس ، فهذا قياس العكس ، على أن الواجب عليه أن يزكي من جنس ماله لا من عين ماله فلم يكن في ذلك عادلا عما وجب عليه إلى غيره .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية