الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 183 ] مسألة

                                                      قد ذكرنا أن الجمع المنكر عند الأكثرين محمول على أقل الجمع ، فيحتاج إلى تعريفه ، والخلاف في أن أقل الجمع ماذا ؟ لا بد من تحريره ، فنقول : ليس الخلاف في معنى لفظ الجمع المركب من " الجيم والميم والعين " كما قال إمام الحرمين ، وإلكيا الهراسي ، وسليم في التقريب " فإن " ج م ع " موضوعها يقتضي ضم شيء إلى شيء وذلك حاصل في الاثنين والثلاثة وما زاد ، بلا خلاف .

                                                      قال سليم بل قد يقع على الواحد ، كما يقال : جمعت الثوب بعضه إلى بعض ، وإليه يشير كلام الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني في كتاب " الترتيب " وأن لفظ الجمع محل وفاق ، فإنه قال : لفظ الجمع في اللغة له معنيان : الجمع من حيث الفعل المشتق منه الذي هو مصدر جمع يجمع جمعا والجمع الذي هو لقب ، وهو اسم لعدد وضع فوق الاثنين للاستغراق وأقله ثلاثة ، وهذا اللقب لهذا العدد كسائر الألقاب كزيد وحمار ونار .

                                                      وقال : وبعض من لم يهتد إلى هذا الفرق خلط الباب ، فظن أن الجمع الذي هو بمعنى اللقب من جملة الجمع الذي بمعنى الفعل ، فقال : إذا كان الجمع من الضم فالواحد إذا أضيف إلى الواحد فقد جمع بينهما ، فوجب أن يكون جمعا ، وثبت أن الاثنين أقل الجمع . وخالف بهذا القول جميع أهل اللغة ، وسائر من كان مثله من أهل العلم .

                                                      وقال : إن هذا المخالف هو أبو بكر القفال ، وفيه نظر ، فإن الشيخ أبا محمد الجويني حكى عن القفال الشاشي أنه قال في أصوله : أقل الجمع ثلاثة ، وضعف القول بأنه اثنان . [ ص: 184 ]

                                                      وليس من محل الخلاف أيضا تعبير الاثنين عن أنفسهما بضمير الجمع ، نحو نحن فعلنا ، لأن العرب لم تضع للمتكلم ضمير التثنية كما وضعت للمخاطب والغائب ، وليس للاثنين إذا عبرا عن أنفسهما بمضمر إلا الإتيان بضمير الجمع .

                                                      وذكر إمام الحرمين أيضا أن الخلاف ليس في مدلول مثل قوله : { فقد صغت قلوبكما } ، وقول القائل : ضربت رءوس الرجلين ، وقطعت بطونهما : بل الخلاف في الصيغ الموضوعة للجمع سواء كانت للسلامة أو التكسير كما قال إلكيا ، نحو مسلمين ورجال .

                                                      وقال الأستاذ أبو منصور : الخلاف في أقل الجمع الذي تقتضيه صيغة الجمع بنفسها أو بعلامة الجمع وهو ظاهر كلام الغزالي أيضا ، فإنه جعل من صور الخلاف لفظ الناس . وفيه مذاهب . [ المذاهب في أقل الجمع ]

                                                      الأول : أن أقله اثنان ، وهو المروي عن عمر وزيد بن ثابت ، وحكاه عبد الوهاب عن الأشعري وابن الماجشون ، قال الباجي : وهو [ ص: 185 ] قول القاضي أبي بكر ، وحكاه هو وابن خويز منداد عن مالك ، واختاره الباجي وقال القاضي أبو الطيب : كان الأشعري يختاره وينصره في المجالس .

                                                      ونقله صاحب المصادر عن القاضي أبي يوسف . قال : ولهذا ذهب إلى انعقاد صلاة الجمعة باثنين سوى الإمام ، فجعل قوله : { فاسعوا إلى ذكر الله } متناولا اثنين ، وأنكر ذلك السرخسي كما سيأتي .

                                                      وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أهل الظاهر ، وسليم عن الأشعرية ، وبعض المحدثين ، وقال ابن حزم : إنه قول جمهور أهل الظاهر ، ثم أجاز خلافه .

                                                      وحكاه ابن الدهان النحوي في الغرة عن محمد بن داود وأبي يوسف والخليل ونفطويه قال : وسأل سيبويه الخليل عن ما أحسن فقال : الاثنان جمع ، وعن ثعلب أن التثنية جمع عند أهل اللغة ، واختاره الغزالي ، وقد يحتج لهذا بقوله تعالى : { قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } لأنهم طلبوا إلها مع الله ، ثم قالوا : { كما لهم آلهة } ، فدل على أنهم إذا صار لهم إلهان صاروا بمنزلة آلهة .

                                                      الثاني : أن أقله ثلاثة ، وبه قال عثمان وابن عباس ، وهو ظاهر نص [ ص: 186 ] الشافعي في الرسالة ، ونقله الروياني في البحر في كتاب العدد عن نص الشافعي ، قال : وهو مشهور مذهب أصحابنا ، وقال إمام الحرمين : إنه ظاهر مذهب الشافعي ، وقال إلكيا : هو مختار الشافعي ، ونقله ابن حزم عن الشافعي ، وبه يأخذ ، ونقله القاضي أبو الطيب عن أكثر أصحابنا ، وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني : إنه ظاهر المذهب ، ورأيت من حكى عنه اختيار الأول ، وهو سهو .

                                                      ونقله عبد الوهاب عن مالك ، قال : وبه أجاب فيمن قال : " علي عهود الله " أنها ثلاثة ، وله علي دراهم ونحوه .

                                                      ونقله أبو الخطاب من الحنابلة عن نص أحمد بن حنبل ، وحكاه سليم في التقريب عن أهل العراق وعامة المعتزلة ، وحكاه ابن الدهان عن جمهور النحاة .

                                                      وقال ابن خروف في شرح الكتاب : إنه مذهب سيبويه قال : وإذا كانوا لا يوقعون الجمع الكثير موضع القليل ، ولا القليل موضع الكثير إذا كان للاسم جمع قليل وكثير فأحرى أن لا يوقعوا على الاثنين لفظ الجمع ، وقال الأستاذ أبو بكر بن طاهر الاثنان وإن كان جمعا لا يعبر عنهما بذلك ، للبس انتهى .

                                                      وحكاه الأستاذ أبو منصور عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة ونسبته على أن المراد أقل الجمع للعدد .

                                                      قال : فأما الاثنان فجمعهما جمع اجتماع لا جمع عدد . [ ص: 187 ]

                                                      وقال القفال الشاشي في أصوله : أقل الجمع ثلاثة ، ولهذا جعل الشافعي أقل ما يعطى من الفقراء والمساكين ثلاثة ، وقال في الوصية للفقراء : إن أقلهم ثلاثة ، ولأن الأسماء دلائل على المسميات ، وقد جعلوا للمفرد والمثنى صيغة ، فلا بد وأن يكون للجمع صيغة خلافهما .

                                                      وقال الماوردي في " الحاوي " : إن أقل الجمع ثلاثة ، أي أقل جمع ، ومن جعل أقل الجمع اثنين جعلهما أقل العموم . قال شمس الأئمة السرخسي : ونص عليه محمد في السير الكبير " وظن بعض أصحابنا أن أبا يوسف يقول : إن أقله اثنان على قياس مسألة الجمعة ، وليس كذلك ، فإن عنده الجمع الصحيح ثلاثة .

                                                      وإذا قلنا بهذا القول ، فهل يصح إطلاقه على اثنين على جهة المجاز أم لا يصح أصلا ؟ فيه كلام . والمشهور الجواز وحكى ابن الحاجب قولا أنه لا يطلق على اثنين لا حقيقة ولا مجازا وفي ثبوته نظر نقلا وتوجيها ، ولم يصح مجازا من مجاز التعبير بالكل عن البعض .

                                                      الثالث : الوقف حكاه الأصفهاني في شرح المحصول عن الآمدي ، وفي ثبوته نظر ، وإنما أشعر به كلام الآمدي ، فإنه قال في آخر المسألة : وإذا عرف مأخذ الجمع من الجانبين ، فعلى الناظر الاجتهاد [ ص: 188 ] في الترجيح وإلا فالوقف لازم ، هذا كلامه ، ومجرد هذا لا يكفي في حكايته مذهبا .

                                                      الرابع : أن أقله واحد . هكذا حكاه بعضهم ، وأخذه من قول إمام الحرمين : والذي أراه أن الرد إلى واحد ليس بدعا ، ولكنه أبعد من الرد إلى اثنين ، كأن ترى امرأة تبرجت لرجل فتقول : أتتبرجين للرجال ؟ وفيه نظر ، لأنه إن كان مراد الإمام حمل ذلك بطريق المجاز كما نقله إلكيا الطبري عنه ، فهذا لا نزاع فيه ، وليس الكلام فيه ، وقد صرح به القفال الشاشي أيضا في كتابه في الأصول ، فقال بعد ذكر الأدلة : وقد يستوي حكم التثنية وما دونها بدليل كالمخاطب للواحد بلفظ الجمع في قوله تعالى : { رب ارجعون } { وإنا له لحافظون } وقد تقول العرب للواحد : افعلا ، افعلوا . هذا كلامه . وهو ظاهر في أنه مجاز لاشتراطه القرينة فيه ، وكذلك قاله إلكيا الطبري . ومثله بقوله تعالى : { فقدرنا فنعم القادرون } .

                                                      وذكر ابن فارس في كتاب فقه العربية صحة إطلاق الجمع وإرادة الواحد ، ومثله بقوله تعالى : { فناظرة بم يرجع المرسلون } ، وهو واحد بدليل قوله تعالى : { فلما جاء سليمان } وقال الزمخشري في قوله تعالى : { كذبت قوم نوح المرسلين } ، المراد بالمرسلين نوح نحو قولك : [ ص: 189 ] فلان يركب الدواب ، ويلبس البرود : وظاهر كلام الغزالي أن ذلك مجاز بالاتفاق .

                                                      قال : وقوله لامرأته : أتكلمين الرجال . ويريد رجلا واحدا ففيه استعمال لفظ الجمع بدلا عن لفظ الواحد لتعلق غرض الزوج بجنس الرجال ، لا أنه عنى بلفظ الرجل رجلا واحدا . قلت : هذا صحيح ، لأن الرجل لم يطلق الرجال على واحد ; بل على جمع ، لظنه أنها ما تبرجت لواحد إلا وقد تبرجت لغيره ، فتبرجها لواحد سبب للإطلاق ، لا أن المراد برجال واحد .

                                                      وذكر المازري أن القاضي أبا بكر حكى الاتفاق على أنه مجاز . قال : لكن الإمام أبو حامد الإسفراييني خالف فيه ، وذهب إلى أنه يبقى في تناوله للواحد على الحقيقة محتجا بقوله تعالى : { وإنا له لحافظون } ، وهو سبحانه وحده منزل الذكر ، فإذا ثبتت العبارة بلفظ الجمع عن الواحد لم يستنكر حمل العموم المخصص على الواحد حقيقة

                                                      قال المازري : وهذا يجاب عنه بأن هذا نوع آخر من ألفاظ الجموع ، والواحد العظيم يخبر عن نفسه بلفظ الجمع ، وهذا منصوص لأهل اللسان في مقام التعظيم فلا يجري هذا في جانب العموم . انتهى .

                                                      وقال الإبياري : شارح البرهان " الذي عليه الأكثرون أنه لا يصح إلى واحد ، لبطلان حقيقة الجمع ، ولهذا صار المعظم إلى أن ألفاظ العموم نصوص في أقل الجمع ، وإن اختلفوا في أن أقل الجمع اثنان أو ثلاثة .

                                                      وما ذكره الإمام من أنه لا حجة فيه ، وقد قال هو : إنه ليس من [ ص: 190 ] مقتضى الجمع ، وإنما صارت رؤية الواحد سببا للتوبيخ على التبرج للجنس ، ولهذا كانت صيغة الجمع هنا أحسن من الإفراد ، وفرق بين إطلاق لفظ الجمع على الواحد ، وبين كون الواحد سببا لإطلاق لفظ الجمع على الحقيقة .

                                                      وأقول في تحرير مقالة الإمام : إن هاهنا مقامين .

                                                      أحدهما : بالنسبة إلى الاستعمال .

                                                      والثاني : بالنسبة إلى الحمل كنظيره في مسألة المشترك في معنييه .

                                                      فالأول : أن يطلق المتكلم لفظ الجمع ويريد به الواحد ، وهذا لا منع منه بالاتفاق ، لا سيما إذا كان معظما نفسه .

                                                      والثاني : أن يورد لفظ الجمع هل يصح من السامع رده إلى الواحد ؟ وهذا موضع كلام الإمام ، فذهب . الأكثرون كما قال الإبياري في شرح البرهان " إلى أنه لا يصح ، لبطلان حقيقة الجمع ، ولذلك صار المعظم إلى أن ألفاظ العموم نص في أقل الجمع ، وإن اختلفوا في أن أقل الجمع اثنان أو ثلاثة وذهب الإمام إلى أنه يصح ، والحاصل أن صحة الإطلاق غير مسلمة الرد ، وأنه إن وجد هناك ثلاثة صح الرد إليها وفاقا ، وإن وجد اثنان انبنى على الخلاف في أنه أقل الجمع ، وإن رد إلى الواحد بطل عند الجمهور ، لأنه بانتهاء اللفظ إلى أن بطل المخصص فيما وراء ذلك ، لأن اللفظ نص في أقل الجمع ، فحمله على ما دون ذلك خروج عن حقيقة اللفظ ، وعلى هذا فلا يحسن حكاية قول في هذه المسألة بأن أقله واحد . لكن تابعت ابن الحاجب على ما فيه . [ ص: 191 ]

                                                      وقد جعل الإمام المراتب في الرد ثلاثة ، فإنه يرى أن اللفظ نص في الزيادة على الواحد ، لا يتغير إلا بقرينة ، وهو نص في الزيادة على الاثنين ، لا ينقص عن ذلك إلا بقرينة ، ويرى أنه ليس بنص في الزيادة على الثلاثة بحال ، بل إنما يكون ظاهرا في الزيادة ، فإذا دل الدليل على إرادة الظاهر ترك ، ولم يقتصر على نوع مخصوص كسائر الظواهر .

                                                      وقال : إن الناظر في هذه المسألة في أول مرة لا يظهر له مقصوده ، فلا ينبغي أن يكون ذلك سببا لمنعه من التكميل ، فإن المقصود منها يظهر على التدريج . انتهى .

                                                      وتحرير هذا من النفائس التي لم يسبق إليها . وقد حكى أصحابنا فيما لو وصى لأقاربه ، وليس له إلا قريب واحد ، وجهين :

                                                      أحدهما : يصرف إليه الجميع ، لأن القصد جهة القرابة . والثاني : اعتبار الجمع من ثلاثة أو اثنين . [ الخامس التفريق بين جمع الكثرة وجمع القلة ]

                                                      والخامس : ما حكاه إلكيا الطبري عن إمام الحرمين من التفصيل بين جمع الكثرة ، فهو ظاهر في الاستغراق ; وبين جمع القلة فهو ظاهر فيما دون العشرة ، ولا يمتنع رجوعه إلى الاثنين بقرينة ، وكذلك إلى الواحد وهو مجاز ، هذا كلامه .

                                                      وعن ابن عربي أنه ذكر في " الفتوحات الملكية " أنه رأى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ، فسأله عن أقل الجمع : اثنان أم ثلاثة ؟ فقال عليه السلام : إن أردت أقل جمع الأزواج فاثنان ، وإن أردت أقل جمع الإفراد فثلاثة .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية