الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الخامس: الاجتهاد المقاصدي في عصر أئمة المذاهب

عصر أئمة المذاهب الفقهية هو امتداد لعصر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين، وهو حلقة اكتملت بموجبها سلسلة التشريع الناصعة، وتبلورت بمقتضاها مسيرة الاجتهاد النيرة، وتدعمت بوجودها أصالة المنظومة الفقهية الثابتة، فقد شهد هذا العصر الزاهر بروز نوابغ الفقهاء والمجتهدين، ونشاط حرية الرأي في ضوء الأصالة الإسلامية، وظهور المذاهب الفقهية المتعددة، وانبعاث حركة التدوين، وغيرها [1] فقد كان الاجتهاد الفقهي أحد مقومات الحياة الإسلامية في هذا العصر، وكان يقوم على استنباط الأحكام الشرعية من نصوص الكتاب والسنة والإجماع وأقوال الصحابة والتابعين، ومن القواعد الكلية والمبادئ الشرعية المعتبرة، إما عن طريق الحمل على النص، أو عن طريق الإدراج ضمن المقاصد والمصالح الشرعية المعلومة [2] [ ص: 110 ]

فقد كان الأئمة الأعلام يلتفتون إلى المقاصد ويعملون بها إذا لم تسعفهم النصوص والنقول، أو إذا كانت تلك النصوص والنقول قد تزاحمت عليها معان كثيرة تحتاج إلى تحديد وترجيح أقربها لمراد الشارع وألصقها به.

والمتتبع لأحوال أولئك الأعلام وآثارهم، ليدرك تمام الإدراك مدى اهتمامهم بضرورة الأخذ بالمقاصد والتعويل عليها -بالإضافة إلى النصوص والإجماع ومرويات السلف- في العملية الاجتهادية، وفي التصدي لمشكلات عصرهم وحوادثه المختلفة، وذلك لما رأوه من أن الشريعة معقولة المعنى، وأن لها أصولا عامة نطق بها القرآن العزيز، وأيدتها السنة الشريفة[3] ويمكن أن نبرز مظاهر ذلك في المسائل التالية:

-وراثتهم للهدي النبوي وعلم السلف

إن هؤلاء الأعلام لم ينطلقوا في اجتهادهم من فراغ، وإنما بنوا مسيرة علومهم على ما استلهموه واستفادوه من الثروة التشريعية الزاخرة التي سبقتهم، والمتكونة من تعاليم الكتاب والسنة وهديهما، ومن نقول السلف ومروياتهم وفتاواهم ومناهج اجتهادهم ومسالك [ ص: 111 ] استنباطهم، والتي كان التشبع بالروح المقاصدية والطابع المصلحي أحد مستنادتها ومسلماتها [4] فاستناد أولئك الأعلام إلى تلك الثروة، استناد إلى جانبها المقاصدي.. وقبولهم بالنصوص وتسليمهم بها، قبول بأحكامها ومقاصدها المنوطة بها.. واقتفاؤهم لآثار سلفهم، قبول منهم لمنهجهم في الاجتهاد القائم على الجمع بين الأثر والنظر، بين النصوص والمصالح، وغير ذلك.

فقد ذكر أن الرأي عند مالك، توفيق بين النصوص والمصلحة، وأن تكوينه قد تلقاه من أعلام متفاوتين من حيث الاعتداد بالرأي والأثر [5] .. وذكر أن الشافعي قد جمع بين فقه الحجاز والعراق، حيث أخذ من الموطأ وأخذ من محمد بن الحسن الروايات العراقية التي لم تشتهر عند الحجازيين [6]

- أصولهم في الاستنباط

أصول الاستنباط ومصادر التشريع التي كان الأئمة يستعملونها في معرفة الأحكام الفقهية، والتي كانت تجمع بين الأثر والنظر، بين النص والاجتهاد، بين ظاهر الدليل ومعناه ومقصده ومراده، تلك [ ص: 112 ] الأصول والمصادر تبرهن بما لا يدع مجالا للشك والتأويل على أن النظر المقاصدي الأصيل ظل مقوما مهما من مقومات اجتهادهم واستدلالهم.. ونحن في هذا الصدد لا نريد بيان وعرض الأصول المستعملة لدى الأئمة والتعليق عليها، وإنما نريد فقط إبراز النواحي المقاصدية لها بصورة إجمالية وعامة.

ومن الجدير بالذكر أن تلك الأصول قد تفاوت الاهتمام بها لدى أولئك الأعلام من حيث المبدأ والعموم من جهة أولى، كما هو الحال في الاستحسان الذي رفضه الشافعي وأخذ به الحنفية والمالكية وغيرهم، وكذلك القياس الذي رفضه الظاهرية والشيعة، ومن حيث المقدار والكم من جهة ثانية كما هو الحال في أمثلة وشواهد المصلحة المرسلة والذرائع وغيرها [7] فما هي إذن الجوانب المقاصدية لتلك الأصول والمصادر؟

* مقاصدية الكتاب والسنة

قد تبينت النواحي المقاصدية للكتاب الكريم والسنة الشريفة فيما سبق ذكره [8] [ ص: 113 ]

* مقاصدية الإجماع

الإجماع هو دليل تثبت بمقتضاه الأحكام وعللها ومقاصدها ابتدائيا، أو انتقالا من الظن إلى القطع، أي أن الإجماع قد يثبت ما لم يثبته النص مباشرة، أو أنه يثبت بصورة قطعية ما أثبته النص على سبيل الظن والاحتمال، فيكون دور الإجماع عندئذ متمثلا في تقوية الحكم الظني والقطع به وإخراجه من دائرة الاحتمالات والتأويل [9] فالإجماع كما ذكرنا دليل لمعرفة الأحكام ومعرفة عللها ومقاصدها المنوطة بها، وهو أحيانا يثبت ما هو قطعي يقيني من تلك العلل والمقاصد، إذ يخرجها من دائرة الظنون والاحتمال إلى دائرة القطع واليقين والتسليم، وأوضح شاهد على ذلك جمع القرآن الكريم وكتابته لمقصد حفظه من الضياع وصيانته من التحريف، وجواز الاستصناع لما فيه من المنافع العائدة على المستصنع والمستصنع له، ولزوم الولاية التزويجية للصغيرة .

والخلاصة من كل ذلك، أن العمل بالإجماع هو عمل بالمقاصد والعلل والحكم، التي انعقد الإجماع على أحكامها، ويضاف إلى ذلك طابع القطع واليقين لتلك المقاصد والعلل والحكم، باعتبارها قد صارت وثبتت بالإجماع عليها، والاتفاق على أنها حجة معتبرة وحق مقطوع به [ ص: 114 ]

* مقاصدية مستند الإجماع

للإجماع جوانب مقاصدية أخرى من جهة مستنده أو سنده، تتمثل فيما جوزه بعض أعلام العصر [10] من إمكانية استناد الإجماع إلى القياس والمصلحة المرسلة وغيرها من الأدلة، بناء على حجية تلك المصادر وشرعيتها، وعلى أن الإجماع يعمل على قطعيتها والتسليم بها وإبعاد الخلاف إزاءها أو تقليصه وتنقيصه [11] فاستناد الإجماع إلى القياس والمصلحة المرسلة وغيرها، برهان ساطع على مراعاة ما يتعلق بتلك الأدلة من علل ومقاصد ومنافع.. فالإجماع على تحريم شحم الخنزير، قياسا على لحمه، مراعاة لنفس حكمة تحريم اللحم، والتي هي تجنب النجاسة والقذارة والضرر.. والإجماع على منع القضاء زمن الجوع، قياسا على منعه زمن الغضب، والتي هي درء ما يشغل القاضي عن تحقيق العدل والوقوع في الظلم والتعدي.. وكذلك الحكم بقتل الجماعة بالواحد، عملا بمصلحة حفظ النفوس، إذ التهاون بقتل الجماعة المشتركة في قتل واحد من الناس ذريعة إلى هتك حياة الناس، وإزهاق أرواحهم [12] [ ص: 115 ]

فكل تلك الإجماعات وغيرها التي استندت إلى القياس والمصلحة المرسلة، إنما أقرت نفس مقاصد ذلك القياس وتلك المصلحة، وزادتها طابع القطع واليقين، أو غلبة الظن الغالب والراجح.

كما تتجلى الناحية المقاصدية للإجماع، من خلال اعتماده على قاعدة: ( أقل ما قيل ) ، باعتبارها ضربا من ضروبه التي يجوز انعقاد الإجماع عليها، ومفاد تلك القاعدة أن العلماء إذا تفاوتوا في أمر وتراوحت أقوالهم بين الأخذ بالأكثر وبالأقل، وبما بين الأكثر والأقل، لزم الأخذ بالأقل المجمع عليه [13] ، فالإجماع على الأقل تثبيت لمبدأ براءة الذمة، وأصلية التخفيف، ورفع الحرج عن المكلفين، وملازمة الاحتياط في الدين والنفوس والأعراض والأموال، ومنع التكليف بما زاد على الأقل بدون دليل.

* مقاصدية القياس

تتمثل الناحية المقاصدية للقياس في أنه:

أصل معقول يقابل النصوص والآثار، ويعالج الحوادث والقضايا غير المتناهية بحملها على أمثالها وأشباهها بموجب الاشتراك في علة ما، أو حكمة ما، أو مقصد ما، فهو بذلك يفيد أهمية فهم ماورائية [ ص: 116 ] النصوص في مقابل ظاهرها، ويدعو إلى اعتبار عللها وحكمها ومصالحها [14] وتزداد أهمية الناحية المقاصدية للقياس، في الأخذ بالقياس الموسع أو القياس الكلي، الذي هو إلحاق الواقعة بنظائرها بجامع مقصد كلي، كمقصد حفظ الدين والعقل، أو نفي الضرر والغرر، وغير ذلك [15]

* مقاصدية الاستحسان

تتمثل الناحية المقاصدية للاستحسان في أنه التفات إلى المصلحة والرخصة والتيسير والعدل، وإبعاد للحرج والضيق والمشقة غير المعتادة، وتقرير للأعراف والعادات الحسنة في حدود الضوابط والمبادئ الشرعية [16] .. وأمثلة ذلك معروفة في مظانها، وهي غير قليلة، وليس هنا ما يدعو إلى عرضها أو التعليق عليها تجنبا للتطويل بلا موجب.

* مقاصدية المصلحة المرسلة

وهي المصدر الذي يلاحظ فيه شدة التصاقه وعمق اتصاله بالمقاصد الشرعية، وهي تدور جملة وتفصيلا حول تقدير المصالح واعتبارها فيما لم ينص أو يجمع عليه، على مستوى أعيان الأحكام [ ص: 117 ] وأفرادها.. أما مستوى الأجناس والقواعد الكلية، فمعلوم أن الشرع تناوله بالبيان والتحديد، ولذلك فإن المجتهد يجتهد في تلك الأعيان والأفراد على وفق أجناسها البعيدة وقواعدها العامة، ومن ثم فقد شكلت المصلحة المرسلة ميدانا رحبا لدى أئمة الفقه في اعتبار المقاصد في عملية الاستنباط ودراسة القضايا والنوازل.. والأمثلة الكثيرة، التي عمل فيها الأئمة بمبدأ الاستصلاح المرسل، دليل على ما نقول.

* مقاصدية العرف

تتمثل الناحية المقاصدية للعرف في:

- أنه يقرر قواعد التيسير ورفع الحرج، فمن باب التيسير والتخفيف في المعاملات، ابتناء كثير من الأحكام على العرف الصحيح شرعا [17] - أنه تأكيد لمحاسن الفضائل ومكارم الأخلاق التي نادى بها الإسلام منذ نزوله، وعمل العلماء والفقهاء على تجليتها وإبرازها، والتي عبر عنها ابن رشد الحفيد بأخلاقية الإسلام، واعتبرها من أعظم المقاصد وأرقاها، ومدارها إصلاح النفوس كما يهدف الطبيب إلى إصلاح الأبدان [18] ، ومن شواهد ذلك القسامة، والإجارة، والسلم، والكفاءة بين الزوجين، وغيرها. [ ص: 118 ]

- أنه تحقيق للمصلحة ودرء للمفسدة، وهو غاية العمل بالعرف ومرماه، وذلك أن العرف الصحيح يراعي أحوال الناس، ويساير أوضاعهم، ويجاري طباعهم ومألوفهم، ويسهل معاملاتهم، دون معارضة لنصوص الشرع وروحه [19] - أنه طريق للعمل على تحقيق الامتثال الأكمل لتعاليم الشرع ونصوصه، إذ كلما كان القانون معبرا عن أوضاع الناس وحاجياتهم، كان أقرب إلى نفوسهم، وكلما كان قريبا من نفوسهم كانت مخالفتهم له أقل وامتثالهم له أكثر [20] ولن يكون هذا حاصلا إلا بفهم الطبائع والعادات الحسنة التي تشكل إحدى مكونات الواقع المعيش المزمع إصلاحه وتوجيهه.. والناظر بعمق في المقاصد الشرعية ليدرك غاية الإدراك أن السعي إلى الامتثال الأكمل بتهيئة ظروفه والحرص على نجاحه، يعد مقصدا من مقاصد الشرع المعتبرة [21]

* مقاصدية الذرائع

تتمثل ناحيتها المقاصدية في أنها وضعت لجلب المصالح ودرء المفاسد، سدا وفتحا [22] ، وكذلك وضعت لتحقيق سلامة القصود [ ص: 119 ] والنيات وسلامة الأعمال والأقوال، بنفي التحايل والمغالطة والتلاعب بالألفاظ والقرائن والأعمال.

وليس هناك شك في أن من المقاصد الشرعية المعتبرة، تخليص النوايا مما يقدح في إخلاصها، وتخليص الأعمال مما يعطل آثارها، فينبغي أن يكون قصد المكلف موافقا لقصد الشارع ومصلحة الناس، وإلا كان العمل باطلا مردودا.

والخلاصة، أن الاعتداد بتلك الأصول والمصادر الاستنباطية المتنوعة، يعد مسلكا موسعا، ومجالا خصبا للنظر المقاصدي المصلحي البناء، وليس هذا مبررا للقول باستقلالية المقاصد والمصالح عن الأدلة والنصوص الشرعية، كما يدعي ذلك من كان نظره قاصرا عن معرفة حقيقة ذلك واكتفى بظاهر الأمر، وإنما هذا دليل على ارتباط المقاصد بأدلتها وضوابطها، وتعلق الأحكام بمناطاتها وعللها [23]

* مقاصدية النوازل التي اجتهد فيها الأئمة

هناك الكثير من الحوادث والنوازل التي اجتهد فيها أئمة المذاهب بمقتضى النصوص والآثار والقواعد العامة والمقاصد المعتبرة، والتي دلت بوضوح ويقين على عمق فهمهم للأدلة ومقاصدها ومناطاتها، وتلك الحوادث والنوازل مبسوطة في كتبها ومصادرها بسطا مستفيضا [ ص: 120 ] ومطنبا، وقد تناولها الأولون والمتأخرون ببيانها ومناقشتها، في ضوء أدلتها وآراء الفقهاء وحججهم، وغير ذلك [24] ونحن في هذا السياق نذكر منها عددا قليلا جدا على سبيل الإجمال دون تعليق أو تدليل أو عرض لكلام الفقهاء واختلافهم، سعيا منا للاختصار المفيد، وتجنبا لتكرار ما هو معلوم ومدون وميسور التناول والاطلاع.

ومن الأمثلة نورد ما يلي [25] :

- ضرب المتهم بالسرقة للاستنطاق عند مالك، والمقصد هو حمله على عدم الإنكار المفضي إلى زجر الجناة وحفظ المال، وقد خالفه غيره، وبين أن المقصد هو تفويت مصلحة المضروب لاحتمال برائته، ولأن ترك الضرب أهون من ضرب برئ. [ ص: 121 ]

- كراهة صيام ستة أيام من شوال عند مالك، والمقصد هو درء بدعة اعتقادها جزءا من رمضان، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رغب فيها، فقد نظروا إلى مقاصدها [26] ، فحكم الصيام مبني على مناطه ومقصده، فإذا كان القصد من صيام ستة أيام من شوال الاقتداء بما رغب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حسن، وإن كان المقصد تكملة رمضان واعتقاد الوجوب في ذلك فإن الأمر يعد غير جائز، علما بأن احتمال اعتقاد وجوب الصيام في شوال نادر وقليل، وإن وجد في بعض الأحيان فهو لا يقدح في مشروعية الصيام في شوال باعتباره ترغيبا نبويا مهما.

- ضمان الخياط، ومقصده هو عينه مقصد الاستصناع، وهو يتمثل في حفظ الحقوق من الضياع، وعدم تعطيل مصالح الناس بسبب التلف بدون ضمان.

- الحجر على المدين وبيع ماله جبرا عند جمهور الأئمة، والمقصد هو حفظ حقوق الدائن وزجر المماطلين، وقد رأى الحنفية أن يجبر على الأداء بالملازمة والحبس والإكراه البدني لأنه ظالم، دون أن يحجر عليه .

- اشتراط الولي في الزواج، والمقصد هو ضمان حسن الاختيار، وحفظ كرامة الأسرة وصيانتها من العار والتجريح وغيره.

- المرأة الممتدة الطهر التي تطلق وهي حائض إذا انقطع حيضها ولم تبلغ سن الإياس بعد، فإنها تبقى مدة الحمل الغالبة وهي تسعة [ ص: 122 ] شهور وتنتظر ثلاثة أشهر، وبعد ذلك تنتهي عدتها، والمقصد هو نفي الضرر عن المرأة لأنها لو بقيت تنتظر الحيض أو سن اليأس لتضررت في ذلك كثيرا [27] جواز اكتحال المرأة المتوفى عنها زوجها بغرض التداوي من الرمد، والمقصد هو نفي الحرج عنها [28] - إعطاء الزكاة لبني هاشم لما تغيرت بيت المال، والمقصد هو المحافظة عليهم من الضياع.

* مقاصدية التدوين

عصر أئمة المذاهب كما ذكرنا، كان تتويجا لمسيرة الاجتهاد الشرعي في العصر النبوي وعصر الصحابة والتابعين، فقد تبلورت الآراء والمناهج والمدارس الفقهية لتأخذ طابع التدوين والتأليف، فبرزت المذاهب الفقهية، وظهر منهج استنباط الأحكام الذي اصطلح على تسميته بعلم أصول الفقه، وظهرت الاصطلاحات الفقهية، وبعض القواعد الشرعية الكلية، ودونت السنة الشريفة وبعض مباحث لغة القرآن الكريم على نحو العروض والنحو، وغير ذلك [29] [ ص: 123 ]

إن الغرض من حركة التدوين هو وضع المنهج الإسلامي الصحيح -فهما وتطبيقا- في تثبيت دعائم الشريعة وغرس جذورها وبناء أركانها، فقد جدت في ذلك العصر عدة عوامل وحوادث يحتمل أن تحدث بعض الأخلال والنواقص في التعامل مع المنهج الإسلامي، سواء بالتعسف في فهمه واستيعابه وتأويله والوقوف على حافتي الإفراط والتفريط والمبالغة في الظاهر والإغراق في التأويل بما لا يستجيب لغاياته ومقاصده ومراميه، أو بتعمد إبطاله وتعطيله وتمييعه تحت مسميات كثيرة وادعاءات مختلفة ليس لها أدنى ما يزكيها ويصدقها من الوجهة الشرعية والاعتقادية.

فقد دونت السنة لمواجهة عمليات الوضع، وتمكين دورها في التشريع ومكانتها بين المسلمين، ودون أصول الفقه لضبط معيار استنباط الأحكام، شرعا ولغة، وعقلا ومقصدا، ولمواجهة احتمال نتائج ضعف اللسان العربي بسبب اختلاطه بألسنة أخرى، وما يترتب على ذلك من إخلال في فهم النصوص الدينية التي نزلت وفق العربية وأساليبها وخصائصها، ومن إهدار لمعانيها ومدلولاتها وأغراضها ومقاصدها.. وأيضا فقد وضع منهج الاستنباط لمواجهة الحوادث المتكاثرة والأقضية المتعددة التي حصلت بموجب كثرة الفتوح واتساع الدولة الإسلامية، وترامي أطرافها وضخامة أعمالها وأعبائها، فقد كان من اللازم وضع القواعد الكلية والأسس العامة، ورسم منهج التأويل والاستنباط، للتصدي لكل ذلك وتأكيد صلاحية الإسلام لكل عصر ومصر. [ ص: 124 ]

* مقاصدية عدم التدوين

قد يبدو وجود التناقض بين هذا العنصر والذي قبله، إذ هما متعارضان في المحل الواحد وهو التدوين، غير أن تحقيق ذلك يزيل التعارض الملحوظ ويعطي لكل عنصر مدلوله المتعلق به.

فقد كان عصر أئمة المذاهب يحتاج إلى تدوين ما ينبغي تدوينه، كمنهج الاستنباط الأصولي، وعلم السنة والعروض، وغير ذلك مما كان في تدوينه مصلحة معتبرة للمسلمين في زمانهم وفي غير زمانهم.. وهذا بخلاف بعض المسائل التي لم تدع الحاجة إلى تدوينها، بل تعينت الضرورة عند البعض على الأقل إلى عدم تدوينها، لما فيه من المصلحة المعتبرة العائدة على الناس في كل زمان وحين، فقد روي عن الإمام مالك كراهته لكتابة العلم، وامتناعه عن تلبية دعوة أبي جعفر المنصور في وضع مدونة للفقه والأحكام، كما ذكر أنه لم يدون منهجه في الاستنباط كما فعل الشافعي، وأنه كان يدعو إلى تحاشي التنظير المبالغ فيه وإلى تأكيد واقعية الفقه -دعها حتى تقع- وإلى معالجة ما يقع من المسائل في ميدان الواقع لا فيما يتخيله الذهن ويفترضه، كما هو الحال في الفقه الذي اشتهر بكثرة الافتراضات والاحتمالات، والذي عرف بالفقه الافتراضي أو التقديري أو الأرأيتي. [ ص: 125 ]

وليس كل هذا إلا دليلا على أن تدوين الفقه والفتاوى في ذلك العصر، قد يؤدي إلى تجميد الفقه نفسه، وإلى تعطيل حركة الاجتهاد وقتل روح الإبداع، وإذابة السمات الواقعية والحيوية والثراء لمنهج الاستنباط، والتعامل مع المستجدات والتحولات المختلفة، التي لا تقدر الفتاوى المنقولة والمجردة من أدلتها ومناطاتها على فهم طبائعها وبيان أحكامها، كما يؤدي إلى تضييق دائرة السعة والرحمة التي مثلتها مختلف المدارس الفقهية وآراء الفقهاء المتوزعين في الأمصار والمتفاوتين في الفهوم والقرائح والاجتهادات، وفيما وصلهم من سنن ومرويات وآثار، وفيما أدركوه من حوادث وأعراف وأقضية.

فقد بدا لبعض أعلام ذلك العصر مصلحة عدم تدوين الفتاوى والأحكام، بخلاف الأصول والقواعد والسنة وغيرها، وقد يعود ذلك أساسا إلى القدرة العالية لأولئك الأعلام والأئمة في الاجتهاد والاستنباط من غير العودة إلى ما هو مدون ومكتوب، بموجب قربهم لحظوظ الفهم [30] ، وإلى مراعاة الخلاف المعتبر، ومراعاة اختلاف البيئات والظروف فيما جوز فيه الاختلاف وغير ذلك، مما يترجح فيه عدم التدوين على التدوين نفسه. [ ص: 126 ]

كما قد يعود إلى خشية اختلاط السنة بالفقه، أو تقديم كلام الفقهاء على كلام الله ورسوله، لا سيما والسنة تواجه تحديات الوضع والتحامل والتعسف الخطيرة، لطمسها وتشويهها وتحريفها وعلى أي حال فإن تدوين الأحكام والفتاوى أمر خلافي، من حيث المصلحة وعدمها، تباينت فيه الأنظار والآراء، وتفاوتت فيه التقديرات والتصورات، بحسب الاعتبارات والقرائن والظروف التي يتنزل فيها ذلك التدوين أو عدمه، فقد يكون التدوين مفيدا وصالحا، وقد لا يكون، وهذا راجع إلى ما ذكرنا من الاختلاف في التقدير والاعتبار والحيثية، والله أعلم بالصواب.

التالي السابق


الخدمات العلمية