الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الفصل الثاني: تاريخ الاجتهاد المقاصدي

المبحث الأول: مقاصدية القرآن الكريم

مقاصدية القرآن الكريم على سبيل الإجمال

المقرر شرعا وعقلا، اعتقادا وعملا، نصا واجتهادا، رأيا وإجماعا، إجمالا وتفصيلا، أن القرآن الكريم ينطوي على أرقى المقاصد وأكبرها، وأعلى المصالح وأعظمها، فهو أصل الأصول ومصدر المصادر، وأساس النقول والعقول، وقاعدة أي بناء حضاري يهدف إلى الإعمار والتنمية والازدهار والتقدم والصلاح، وغير ذلك من الغايات والمقاصد التي ترنو جميع الشعوب والأمم إلى تحقيقها وتحصيلها.

وجميع المقاصد الشرعية المعتبرة والمعلومة والمقررة في الدراسات الشرعية، إنما هي راجعة في جملتها أو تفصيلها، تصريحا أو تضمينا إلى هدي القرآن وتعاليمه وأسراره وتوجيهاته .

* فمن القرآن الكريم تستفاد مقاصد الشارع الحكيم، من إرسال الرسل، وتنزيل الكتب، وبيان العقيدة والأحكام، وتكليف المكلفين ومجازاتهم، وبعث الخلائق والحياة والكون والوجود .. فقد جاء أن [ ص: 69 ] المقصد من الخلق هو عبادة الخالق تعالى والامتثال إليه، وإصلاح الخلق وإسعادهم في العاجل والآجل، وقد دلت على هذا آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ( الذاريات: 56 )

وقوله: ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ) ( المؤمنون: 115 )

وقوله: ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) ( الإسراء: 9 )

وقوله: ( هدى للمتقين ) ( البقرة: 2 ) .. كما دلت على هذا أوصافه الكثيرة على نحو وصفه بأنه نور وهدى، ومبارك، ومبين، وبشرى، وبشير ونذير، وغير ذلك من الأوصاف التي أجملت بيان بعض أهدافه ومراميه [1] كما دلت على ذلك صفة التأبيد فيه، فقد جعله الله تعالى آخر كتاب سماوي، أحكامه ماضية إلى يوم القيامة، ومقاصده باقية لا تزول، وهديه ملحوظ لا ريب فيه.

* منه ثبتت الكليات الشرعية الخمس -حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال- فقد توالت طائفة مهمة من نصوصه وأحكامه لتثبيت تلك الكليات وتدعيمها، واعتبارها أصولا قطعية معتبرة في كل الملل والأمم.

* منه تحددت الكثير من الحكم والعلل والأسرار الجزئية، التي تعلقت بأحكامها الفرعية، والتي شكلت محتوى مهما أسهم في إبراز [ ص: 70 ] المقاصد وتكوينها، ومن أمثلة ذلك: حكمة اعتزال النساء في المحيض والتي هي دفع الأذى [2] ، وحكمة تشريع الحج والتي هي تحصيل المنافع وذكر الله وغيره، وحكمة تشريع الزواج والتي هي السكن والمودة والرحمة وإعمار الكون، وحكمة تشريع الصوم والتي هي تحصيل التقوى وغيرها، وحكمة منع الاقتراب من الزنا والتي هي فحشه وسوء سبيله ومفاسد مآله، وحكمة وجوب القتال والتي هي دفع الظلم عن المسلمين والذب عن دينهم واستقلالهم ومنعتهم وغير ذلك.

* منه استخلصت واستقرت ودونت بعض القواعد الفقهية ذات الصلة بالمقاصد الشرعية، فقد كان المنشغلون بفن القواعد يرجعون كل قاعدة إلى أصلها من القرآن أو السنة أو منهما معا، ومن القواعد المبنية على نصوص من القرآن الكريم قاعدة: ( المشقة تجلب التيسير ) ، وقاعدة: ( الضرورات تبيح المحظورات ) ، ( والضرورة تقدر بقدرها ) ، وقاعدة: ( العادة محكمة ) [3] * منه اكتملت وتبلورت أصول المعاملات والفضائل الرائدة، ومعاني القيم والأخلاق العالية، في أحوال النفس والمجتمع، مثل العدل والإحسان والمساواة والحرية والكرامة والوفاء والصلاح.

وتجتمع كل تلك المعاني المنصوص عليها أو المشار إليها في آي القرآن الكريم ضمن فضيلة التقوى والتزكية والخلق العظيم، [ ص: 71 ] قال تعالى: ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ، وقال وهو يصف رسوله الأكرم المبلغ لشرعه ومراده: ( وإنك لعلى خلق عظيم ) (القلم: 4) .

* منه استفيدت العديد من الخصائص العامة للشريعة الإسلامية المتصلة بالمقاصد الشرعية، على نحو خاصية التيسير والتخفيف ورفع الحرج والوسطية والاتزان والسماحة والرفق واللين والواقعية، وغير ذلك من الخصائص الكلية والسمات العامة التي تعاقب الباحثون والدارسون على طرقها وبيانها، بغية التعريف بالإسلام والدعوة إليه، والإقناع بصلاحيته وحقيته ودوره في البناء الحضاري العام .

* منه تبينت العديد من المباحث والنظريات الفقهية والأصولية والقانونية على نحو نظرية الالتزام، والحق والضمان والمصالح والضرورة ورفع الحرج والرخصة وسد الذرائع والتحوط والتعليل، وغير ذلك من المباحث والنظريات التي شكلت أهم البحوث والموضوعات المدروسة على صعيد الرسائل الجامعية والمؤلفات الخاصة والملتقيات العلمية، وعمليات التحصيل والحيازة المعرفية والشرعية، والتي تهدف إلى صياغة الرؤية الفكرية الإسلامية المعاصرة، وتدوين النظام الفقهي القانوني الحقوقي العام المؤطر لمختلف النوازل والظواهر وسائر المستجدات، والموجه لتصرفات الناس وتعاملهم وفق تعاليم الشريعة ومقاصدها ومصالح المكلفين بها . [ ص: 72 ]

ومن نافلة القول: إن القرآن الكريم ظل الأصل المهم لتلك النظريات والمباحث، وذلك بما اتسم به من تنوع في نصوصه وأحكامه، وثراء في معانيه ودلائله، وتعدد في أساليبه وموضوعاته [4] ، وتحد في نظمه وإعجازه، مما يدل على اتساع أفقه، واطراد حقائقه [5] ، وجدارة صلاحه، ودوام هديه على مر الأيام والعصور.. كما ظل أصل تلك النظريات بما فوضه للسنة الشريفة لشرحه وبيانه وتدقيقه وتفصيله، وبما أحاله على الخاصة من أهل العلم لاستنباطه واستنتاجه والاهتداء إليه، وعلى العامة لفهمه وتدبره والاقتداء به. فقد كان المقبلون على دراسة القرآن الكريم في مختلف فنونه وعلومه، وعلى مر تاريخه وأطواره محصلين لتركة عظيمة من المعلومات والمتعلقات والبيانات التي كانت أحد أركان تلك النظريات والمـباحث

مقاصدية القرآن الكريم على سبيل التفصيل

القرآن الكريم كما هو معلل على سبيل الإجمال والعموم بكونه كتاب هداية وصلاح وإرشاد وإسعاد في العاجل والآجل، فهو كذلك معلل بنفس تلك العلل والمقاصد على سبيل بعض مباحثه ومسائله .

ويمكن أن نبرز الجوانب المقاصدية للمباحث التالية:

- مبحث آيات الأحكام. [ ص: 73 ]

- مبحث التدرج والنسخ في أحكام القرآن الكريم.

- مبحث الترجيح بين معاني القرآن الكريم.

مقصد آيات الأحكام

حظيت آيات الأحكام عبر تاريخ الفقه والاجتهاد باهتمام متزايد تناول مسائل كثيرة منها:

بيان الأحكام الفقهية.

- استخراج علل الأحكام وحكمها وأسرارها ومقاصدها، واستخدام ذلك في توضيح الأحكام وبيان شرعيتها وحقيتها وصلاحيتها.

- توظيف ذلك في تطوير كثير من المباحث الشرعية والدراسات الأصولية، على نحو الأقيسة والتعليل والتقعيد والمصالح المرسلة ومنع الذرائع، وتأكيد مكانة النظر المقاصدي المصلحي في عملية الاجتهاد واستنباط الأحكام.

فارتباط الأحكام القرآنية بعللها وحكمها ومقاصدها ليس إلا دليلا واضحا على تأكيد مقاصدية القرآن الكريم وسعيه إلى الصلاح والخير والهدى، وتثبيت وجوب النظر المقاصدي الأصيل، وضرورة ارتباط الحكم بمقصده وجودا وعدما. [ ص: 74 ]

مقصد التدرج والنسخ في أحكام القرآن الكريم

ينطوي مبحث التدرج والنسخ [6] في أحكام الكتاب على تعليلات وحكم كثيرة تتصل إجمالا بدفع الحرج والمشقة، وإقرار التيسير والتخفيف [7] ، ومراعاة العادات الحسنة ومصالح الناس [8] ، وتهيأة الظروف والأجواء المناسبة لتطبيق الحكم وضمان جدواه وفاعليته وأثره الشرعي المضبوط، وعدم مفاجأة المكلفين بما يرونه تحولا جذريا مخالفا لواقعهم وحياتهم، ومصادما لمألوفهم وتقليدهم وأعرافهم [9] .. الأمر الذي قد يؤدي بهم إلى النفرة والتمرد والتحايل، والركون إلى ما هم فيه من الضلال والتيه والانحراف عن المنهج الإسلامي كليا أو جزئيا، لذلك كان لزاما على القائمين على أمر الله والدعوة إليه، استكمال شروط تنفيذ شرع الله تعالى فهما وتنزيلا حتى يؤدي أغراضه وأهدافه.

ولعل أهم شرط من تلك الشروط، ما يتعلق بفهم مقاصد القرآن الكريم من اعتماده على التدرج في بيان الأحكام وتكليف الناس بها، وعدم وضعها جملة واحدة ودفعة مجتمعة ليس بينها وبين الواقع الذي يراد حكمه بتلك الأحكام مناسبة معتبرة، ورابط منطقي، ومشروعية [ ص: 75 ] معقولة تأخذ بعين الاعتبار اختلاف البيئات والأمصار، وتغير الأحوال والأعصار.

إن ذلك المقصد يقوم على إيجاد الواقع السليم لتنفيذ أحكام الله تعالى، وضمان استمرارها وتأييدها وفعاليتها، وتطبيقها نصا وروحا، مظهرا وجوهرا، وجدانا وسلطانا، وليس الاكتفاء بمجرد التطبيق الآلي والسطحي، والتنزيل المؤقت والانتقائي الذي لا يحقق غاياته ومراميه .

كما يقوم ذلك المقصد على تحقيق الرحمة بالمكلفين أنفسهم، إذ إن عدم توخي التدرج في بيان الأحكام، تكليف لهم بما لا يطيقون، يوقعهم في الانفلات والهروب، أو التقصير والتهاون، أو التحايل والنفاق والتصنع والمداراة، وهذا كله يفوت عليهم مصالحهم في الدارين، ويوقعهم في دائرة اللوم والحظر الشرعيين بسبب عدم الامتثال، ويغيب إلى حين خيرية الشريعة وفرص الإسعاد بها، وتحصيل منافعها وبركاتها وأنوارها، وهذا كله مخالف لمراد الشرع الحكيم ولمقاصد دينه وكتابه.

مقصد الترجيح بين معاني القرآن الكريم

من أغراض وجود التعارض [10] والترجيح في المعاني، التوسيع على المكلفين لئلا ينحصروا في رأي واحد، أو مذهب واحد، أي أن يجدوا [ ص: 76 ] متسعا من الآراء والاجتهادات تسع مختلف حاجياتهم ومنافعهم ( اعلم أن الله لم ينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة، بل جعلها ظنية، للتوسيع على المكلفين، لئلا ينحصروا في مذهب واحد لقيام الدليل القاطع عليه ) [11] ومن الأمور المساعدة على الترجيح عند التعارض، اعتماد المقصد والالتفات إليه، فقد يستأنس المجتهد بمراعاة مقصد أو حكمة تبينت له للخروج من التعارض، الذي لا مخرج منه سوى باعتماد تلك الحكمة والتعويل عليها، لما بدا له مقبولا ومشروعا .

وقد يعود سبب التعارض بين النصوص إلى وجود تعارض بين العلل والحكم والمقاصد نفسها، فيفزع عندئذ إلى الترجيح بين تلك العلل والحكم والمقاصد بغرض الخروج من تعارض النصوص، فيقدم المجتهد ما ينبغي تقديمه، كتقديم العلة المنصوص عليها على التي لم ينص عليها، وتقديم العلة التي تشهد لها أصول ونصوص كثيرة على التي يشهد لها أصل واحد أو نص واحد، وتقديم العلة المنتزعة من أصل منصوص عليه على التي انتزعت من أصل لم ينص عليه، فتكون المنتزعة من أصل منصوص عليه أولى وأحرى [12] [ ص: 77 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية