الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الثالث: من حجج دعاة استقلال المقاصد عن الأدلة الشرعية

الدعوة إلى استقلال المقاصد عن الأدلة في القديم والحديث، يستند فيه أصحابها إلى عدة حجج ومبررات، تتصل جملة بأهمية العقل ودوره وآفاقه في رسم ما يصلح للناس من أنظمة وقوانين وفلسفات، ولزوم تحريره من القيود والمكبلات والأغلال، حتى يؤدي ما عليه من مهمات النظر والاستجلاء والتفكير والإبداع والتنوير.

كما تتصل تلك المبررات والادعاءات بظروف الواقع وسنة التطور، وتراكم القضايا، وضخامة الأحداث، التي لا تقدر النصوص المتناهية والفتاوى الجاهزة والأحكام المنقولة عن الأزمنة الماضية على فحصها، ومعرفة أحوالها، وبيان أحكامها.

وتتصل أيضا بما توهمه أرباب تلك الدعوة الجوفاء من أن المقاصد الشرعية مطلقة عن التقييد والضبط بالتعاليم والوسائل الشرعية، وهي موكولة للعقل وعملياته والواقع ومتغيراته، وهي مطلوبة في ذاتها وليس لما يتعلق بها، مما جعله الشارع الحكيم مناطات ومتعلقات لها! فالعبرة كما يدعي أولئك تحقيق المقاصد بشتى الوسائل، سواء أكانت شرعية أم غير شرعية. [ ص: 139 ]

ومن الحجج التي يناقش بها أدعياء الاستقلال ويرددونها، العمل بالمصادر والقواعد التشريعية الاجتهادية أو التبعية ( القياس والاستحسان والمصلحة المرسلة والعرف والذرائع وبعض القواعد الفقهية ) ، التي يتوهم أنها تجذير لدعوتهم، وتأسيس لمبدأ الاجتهاد المقاصدي المستقل عن النصوص والإجماعات.

فإن تلك المصادر -حسب زعم هؤلاء- ظلت مسالك موصلة إلى استنباط الأحكام التي لم تكن النصوص والإجماعات قادرة على احتوائها، أو على الأقل لم تكن بذات الصراحة والمباشرة المطلوبة حتى يتعرف عليها، فالنصوص والإجماعات لم توصل لوحدها إلى إثبات تلك الأحكام، وإنما كانت في أشد الحاجة إلى المقاصد التي لو تعطلت أو غيبت لتعطلت كل تلك الأحكام، ولضاعت مصالح الناس ولانتفت أو ذبلت خاصية صلاحية الشريعة وبقائها ودوامها وعمومها وغير ذلك.

التعسف في التعامل مع المصادر والقواعد الاستنباطية

ثم إن أصحاب هذا الادعاء ينطلقون من ظواهر هذه المصادر، ومما يتعلق بها من تسميات وتعريفات وتطبيقات.

التعسف في فهم التسميات

فمن حيث التسميات، جرى عرف الكثير من الباحثين بتسمية هذه المصادر بالمصادر العقلية والمصلحية والاجتهادية، التي يتبادر إلى [ ص: 140 ] الذهن الفهم بأنها موكولة إلى ما يحدده العقل ويراه من قبيل المصالح، عن طريق الاجتهاد والتأويل، والتطويع والتوظيف.

التعسف في فهم التعريفات

ومن حيث التعريفات، فقد حملت بعض التعاريف لهذه الأدلة محملا سيئا، وقصد بها غير ما وضعت له، وادعي أن تلك المصادر تدعو بجلاء ووضوح إلى التعويل على المصالح في مقابل النصوص، وأن العبرة بالمقصد وإن خالف نصا أو إجماعا أو أصلا مقطوعا به، فقد بالغوا في التعسف الجلي، والتطويع المقصود، والاستخدام السيء في بيان تعريف المصلحة المرسلة والاستحسان والعرف وغيره، وفي تجلية حقيقة قاعدة المشقة تجلب التيسير، والأمور بمقاصدها، وغيرها

فقد قالوا: إن المصلحة المرسلة هي المصلحة المطلقة، فليس لها دليل يعتبرها ويقرها أو يلغيها ويبعدها، فدليلها الوحيد هو كل شيء غير الدليل الشرعي، سواء قلنا: إنه عقل أو خبرة أو حكمة أو فطرة أو غريزة أو غير ذلك، فمادامت المصالح المرسلة مطلقة عن الأدلة والقيود والاعتبارات الشرعية، فهي إذن نازعة نحو الاستقلال والانفراد والهيمنة على مواضعها غير المنصوص عليها أو المجمع عليها!

وقالوا عن الاستحسان بأنه: ما ينقدح في ذهن المجتهد ولا يستطيع التعبير عنه، وبأنه العمل بمصلحة جزئية في مقابل الدليل [ ص: 141 ] الكلي، وبأنه العدول عن القياس الجلي إلى قياس خفي أقوى منه، وبأنه العمل بأقوى الدليلين، وغير ذلك من تعريفات الاستحسان التي عدل بها عن حقيقة مسماه إلى غيره بلا دليل من الشرع أو العقل : ثم ذكروا أن كل تلك التعريفات تسوغ ما ذكرناه من استقلال المقاصد عن الشريعة.. فما ينقدح في ذهن المجتهد ويتعذر التعبير عنه، ليس سوى تقرير لما ينقدح في ذهن الناس من مصالح وما يرونه نافعا لهم بدون شرع.. وما يقال من أنه عدول عن الدليل الكلي أو القياس الجلي أو الدليل الضعيف إلى ما توجبه المصلحة، ليس إلا دليلا على مراعاة تلك المصلحة والتعويل عليها، انفرادا وابتداء في بيان الأحكام!

وقالوا كذلك عن العرف بأنه: تحكيم للعوائد والتقاليد والنظم والممارسات المختلفة التي تتغير زمنا ومكانا وحالا، فما يراه قوم في زمن مصلحة يراه غيرهم في زمن آخر مفسدة وهكذا.. فالمعتبر حسب وهم هؤلاء، تحكيم الأعراف بكل أنواعها وصورها، ومسايرة الناس في نظمها وأحوالها، وليس ذلك إلا برهانا على أن المصالح مستجيبة للأعراف، مسايرة للعادات، ولو تناقضت مع الشرع وقيمه وقواعده!

وقالوا عن اعتبار المآل بأنه: النظر إلى النتائج دون اعتبار لما أدت إليه من أسباب ووسائل، فقد تكون نتائج الازدهار الاقتصادي حاصلة بوسائل الاستثمار المختلفة، مضاربة أو تجارة أو ربا.. وقد يكون الأمن الاجتماعي والمالي قائما على وسائل الردع المختلفة من سجن وغرامة [ ص: 142 ] ونفي، وفق ما يراه العقل مناسبا، دون الارتباط بما نص عليه الشارع في ذلك.. وقد يتحقق هدف التسامح مع الأديان والتيارات والمذاهب بأي وسيلة وطريقة، ولو أدى الأمر إلى التمذهب بدينهم ومناصرة عقائدهم!

وقالوا عن قاعدة ( المشقة تجلب التيسير ) ، وتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان، والضرورات تبيح المحظورات، والأمور بمقاصدها، والضرر يزال.. قالوا عن كل ذلك بأنه أوضح ما يستدل به على زعمهم، فالتيسير منوط بالمشقة، فحيث ما وجدت وجد معها التيسير والتخفيف عن الناس، ولو أدى المقام إلى إسقاط التكاليف، والمشقة ليست إلا حالة إنسانية، يقدرها الإنسان نفسه، ويحس بها وحده، فليست راجعة إلى غير الإنسان!

والأحكام -حسب رأي هؤلاء- تتغير بتغير الزمان والمكان والحال، فليس هناك حكم واحد أو شرع واحد، والضرورة تبيح الممنوع، وهي ليست سوى ما يخالف عادة الإنسان في معاشه وحياته، فإذا تغيرت تلك العادة ومالت عن سيرها المعهود، ولو بفقدان الطعام ليوم أو وقع خدش في الجسم، فإنه يجوز للإنسان تناول ما يريد من الممنوعات والمحظورات دفعا لما اضطر إليه وأكره عليه !

والأمور بمقاصدها، أي بما ينويه الإنسان من خير ومحبة وعدالة، فالعبرة بما في القلوب لا بما في المظاهر من أعمال وعبادات وأخلاق، والعبرة بالمقاصد والغايات لا بالوسائل والكيفيات والمسالك الشرعية! [ ص: 143 ]

وهكذا راح أصحاب الزعم باستقلال المقاصد عن الأدلة الشرعية يفسرون تعاريف تلك الأدلة بما بدا لهم من ظواهرها وعمومها، أو بما أضمروه من قصد التحريف والتطويع، دون مراعاة لشروط التفسير، والتعامل مع المسميات والتعريفات والمفاهيم بصورة موضوعية، وأسلوب أمين، ومنهج شامل للظاهر والمبنى والجوهر والمعنى.

التعسف في استيعاب التطبيقات

وعلى مستوى تطبيقات تلك المصادر والقواعد الشرعية، زعم أرباب الاجتهاد المقاصدي المبالغ فيه، أن في كثير من التطبيقات الفقهية والاجتهادية لأعلام السلف وأئمة الفقه وأصحاب الاجتهاد ما يسوغ مشروعية ادعائهم، ويبرر قولهم باستقلال المقاصد عن الأدلة والقرائن الشرعية، فقد زعموا أنهم بالمقاصد خصصوا النصوص وقيدوها وعارضوها أحيانا.

وهكذا راح دعاة الاستصلاح الذميم وأدعياء الهيمنة المقاصدية على سائر النصوص والأحكام والإجماعات وعموم الضوابط الأخلاقية والاجتهادية والدينية، راحوا يروجون لما يزعمون ويستنبطون، وقد أخذوا الأمور على ظواهرها وإطلاقاتها، وتعسفوا باستهجان واضح وأسلوب خسيس في تطويع التعريفات والتسميات والتطبيقات، وتأويلها وفق أهوائهم ونزواتهم، بالأخذ بالظاهر كما ذكرنا، [ ص: 144 ] وبالانقضاض على انتفاء المراد بلا جريان مع السياق، وبالإسقاط المبتذل الدال على عدم الدراية بأدنى مبادئ العلم وشروط الاجتهاد وأمانة البحث وأدب المناقشة والتناظر.

التالي السابق


الخدمات العلمية