الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الفصل الثالث: حجية الاجتهاد المقاصدي

المبحث الأول: حقية الاجتهاد المقاصدي

المقاصد الشرعية التي يعتد بها في عملية الاجتهاد، حجة شرعية يقينية، وحق ضروري مقطوع به، وقد ثبت ذلك بالنص والإجماع، والدليل العام والخاص، والوحي المتلو والمروي، وباستقراء سائر التصرفات والقرائن الشرعية، ومقررات القواعد والأصول الفقهية، وبدهيات العقل والحس والواقع في كل زمان ومكان جاء عن الشاطبي قوله: ( وهي أن وضع الشرائع إنما هو لمصـالح العباد في العاجل والآجل ) [1] فقد دل كل ذلك على أن الشريعة الإسلامية جاءت لتصلح الناس، وتخرجهم من دائرة الهوى والعبث والفساد إلى طريق الله المستقيم ومنهاجه القويم، الذي يحقق لهم مصالحهم في الدنيا والآخرة، ويحفظ لهم دينهم ونفوسهم وعقولهم وأموالهم وأعراضهم، كما أكد ذلك أرباب المقاصد قديما وحديثا. [ ص: 133 ]

ومن ثم فإن الشريعة معللة على الجملة بصلاحها في ذاتها، وإصلاحها للمخلوق، وتقريرها لعبودية الخالق، ومعللة على سبيل التفصيل فيما يقبل التعليل من الأحكام والجزئيات الشرعية، وأن تلك الأحكام المعللة قد تفاوتت درجات التعليل حيالها بحسب الظهور والخفاء، وقطعية الدليل وظنيته، وتصريحه وتلميحه وغير ذلك.. وبناء عليه، فإن المقاصد الشرعية غير منفصلة عن الأحكام، وهي ملحوظة في جزئيات الشرع وكلياته، ومبثوثة في تصرفاته وتعاليمه، ومستحضرة في أذهان العلماء والمجتهدين على مر تاريخ الفقه، منذ عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى العصر الحالي، هذا فضلا عن الهدي القرآني والنبوي الذي اتصف بصفة المقاصدية جملة وتفصيلا، واتسم بطابع التعليل والمعقولية في مواطن لا تحصى كثرة وتنوعا.

فمن واجب الناظر في الشريعة -مجتهدين ومقلدين- استحضار تلك المقاصد وتذكر عللها ومناطاتها وحكمها، حتى يتم النظر على أحسن وجه وصورة، وحتى تفهم الأحكام وتستنبط على وفق ما ارتبطت به من علل وأسرار وأغراض ومشروعية.

إلا أن هذا التأكيد على لزوم الالتفات إلى مقاصد الأحكام ومناطاتها والتعويل عليها، سواء في فهم الأحكام أو استخراجها وتنزيلها في الواقع المعيش، أو في إجراء القياس عليها والإلحاق بها، أو [ ص: 134 ] غير ذلك من ضروب الفهم والاستنتاج والقياس والنظر، فهذا التأكيد على العمل بالمقاصد والتعويل عليه يؤدي حتما إلى طرح سؤال مهم يتعلق بحقيقة ذلك العمل بالمقاصد وطبيعته، وهل معناه استقلال المقاصد عن الأدلة الشرعية وانفرادها باستنباط الأحكام لتصير دليلا بعد النص والإجماع، ومصدرا مستقلا عنهما أو مهيمنا عليهما، وأصلا مقطوعا به، وحجة يصار إليها في معرفة أحكام الله تعالى وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ أم أنه عمل في إطار المنظومة الشرعية، وانخراط ضمن أدلتها وقواعدها وهديها وتوجيهاتها؟.

التالي السابق


الخدمات العلمية