الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الباب الأول الاجتهاد المقاصدي: حقيقته.. تاريخه .. حجيته

الفصل الأول: حقيقة مقاصد الشريعة

المبحث الأول: تعريف مقاصد الشريعة

كان قدامى العلماء يعبرون عن كلمة ( مقاصد الشريعة ) بتعبيرات مختلفة وكلمات كثيرة، تتفاوت من حيث مدى تطابقها مع مدلول المقاصد الشرعية ومعناها ومسماها، لذلك لم يبرز على مستوى البحوث والدراسات الشرعية والأصولية تعريف محدد ومفهوم دقيق للمقاصد يحظى بالقبول والاتفاق من قبل كافة العلماء أو أغلبهم، وقد كان جل اهتمامهم الاجتهادي مقتصرا على استحضار تلك المقاصد والعمل بها أثناء الاجتهاد الفقهي، دون أن يولوها حظها من التدوين، تعريفا وتمثيلا وتأصيلا وغير ذلك .

أما المعاصرون فقد ذكروا تعريفات تتقارب في جملتها من حيث الدلالة على معنى المقاصد ومسماها، ومن حيث بيان بعض متعلقاتها على نحو أمثلتها وأنواعها وغير ذلك. [ ص: 47 ]

ويمكن أن نحصر أغلب التعبيرات والاستعمالات لكلمة المقاصد التي استخدمها العلماء قديما وحديثا ليعنوا بها مراد الشارع ومقصود الوحي ومصالح الخلق، وليسهموا بها في تكوين مادة هذا الفن الجليل، وصياغة نظريته العامة وبنائه المتناسق:

- فقد عبر عن المقاصد عندهم بالحكمة المقصودة بالشريعة من الشارع، مثال ذلك ما جاء عن ابن رشد الحفيد بقوله: ( وينبغي أن تعلم أن مقصود الشرع إنما هو تعليم العلم الحق والعمل الحق...) [1] ، وقوله: ( فلنفوض أمثال هذه المصالح إلى العلماء بحكمة الشرائع ) [2] .. وما جاء عن القاضي عياض بقولـه: ( الاعتبار الثالث ... وهو الالتفات إلى قواعد الشريعة ومجامعها، وفهم الحكمة المقصودة بها من شارعها ) [3] .. وما جاء عن الرازي والبيضاوي والآمدي وغيرهم من أن الحكمة التي هي مقصود الشارع، يجوز التعليل والاحتجاج بها [4] - وعبر عنها بمطلق المصلحة، سواء أكانت هذه المصلحة جلبا لمنفعة أو درءا لمفسدة، أم كانت مصلحة جامعة لمنافع شتى، أم كانت تخص منفعة معينة أو بعض المنافع القليلة والمحصورة، جاء عن [ ص: 48 ] ابن القيم قوله: ( فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها ) [5] .. وجاء عن ابن العربي قوله: ( واعتبار المقاصد والمصالح، وقد نبهنا على ذلك في مسائل الفروع ) [6] . ومن تلك الفروع: منع وتحريم كل ما يشغل عن الجمعة من أجل المصلحة [7] وجاء عن المازري قوله: ( للحجر مصلحة ) [8] ..وأن التسعير شـرع ( لمصلحة أهل السوق في أنفسهم ) [9] .. وجاء عنه: أن لفظ المنفعة يطلق للدلالة على المصلحة [10] وجاء عن القاضي عبد الوهاب قوله حيال منع النجش: ( ولأن في منع ذلك مصلحة عامة، وما يتعلق بالمصالح العامة جاز أن يحكم بفساده كتلقي السلع وغيره ) [11] . ويذكر أن الأصوليين كانوا كثيرا ما يذكرون المصلحة في ثنايا حديثهم عن الكليات الخمس ومصادر التشريع، وهم يعنون بها المقاصد الشرعية الخاصة والعامة، القطعية والظنية وغير ذلك.

- وعبر عن المقاصد كذلك بنفي الضرر ورفعه وقطعه، جاء عن القاضي عياض قوله: الحكم بقطع الضرر واجب [12] [ ص: 49 ]

- وعبر عنها أيضا بدفع المشقة ورفعها، قال ابن العربي : ( ولا يجوز تكليف ما لا يطاق ) [13] - وعبر عنها برفع الحرج والضيق، وتقرير التيسير والتخفيف، واستنكار التنطع والتشدد والمبالغة، واستحباب اللين والرفق والسهولة والرخصة [14] - ويعبر عنها بالكليات الشرعية الخمس الشهيرة : حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، التي توالت كل الأمم والملل على تقريرها وتثبيتها [15] - ويعبر عن المقاصد أيضا بالعلل الجزئية للأحكام الفقهية، سواء أكانت تلك العلل أوصافا ظاهرة منضبطة، أم كانت حكما وأسرارا، أم كانت مصالح ومنافع كلية وعامة [16] ، ويلاحظ هذا الاستعمال خصوصا في مباحث تفسير آيات الأحكام وشرح أحاديث الأحكام. [ ص: 50 ]

ويعبر عنها بما يتفرع عن العلة، كالموجب والسبب والمؤثر وغيره، وذلك بقول العلماء: لقد شرع الحكم لعلة كذا، أو سبب كذا، أو لأنه يؤثر في كذا، أو من أجل كذا وكي يحقق كذا، وغير ذلك مما يفيد التنصيص على معنى معين ومقصد ما [17] ويعبر عنها بمعقولية الشريعة وتعليلاتها وأسرارها، وكذلك خصائصها العامة وسماتها الإجمالية، على نحو التيسير والوسطية والتسامح والاعتدال والاتزان والواقعية والإنسانية، وجريانها على وفق المعقولات الموثوقة والفطر السليمة، وغير ذلك من الإطلاقات التي بينت جوهر الشريعة وغرضها العام وهدفها الكلي في الحياة والوجود.

- ويعبر عنها بلفظ المعاني، فقد كان العلماء يطلقون أحيانا لفظ المعاني ليدلوا بها على ما انطوت عليه الشريعة والأحكام من مقاصد ومصالح [18] ويعبر عنها بكلمات الغرض والمراد والمغزى [19] تعريف المقاصد عند المعاصرين :

نورد من تلك التعاريف ما يلي: [ ص: 51 ]

عرفها العلامة التونسي الشيخ محمد الطاهر بن عاشور بقوله: ( مقاصد التشريع العامة: هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغاياتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها ويدخل في هذا أيضا معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها ) [20] وعرفها العلامة المغربي علال الفاسي بقوله: ( المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها ) [21] وعرفها الدكتور المغربي أحمد الريسوني بقوله ( إن مقاصد الشريعة: هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد ) [22]

التعريف المختار

المقاصد: هي المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية، والمترتبة عليها، سواء أكانت تلك المعاني حكما جزئية أم مصالح كلية أم [ ص: 52 ] سمات إجمالية، وهي تتجمع ضمن هدف واحد هو تقرير عبودية الله ومصلحة الإنسان في الدارين.

التالي السابق


الخدمات العلمية