الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الثاني: المقاصد ليست دليلا مستقلا عن الأدلة الشرعية

إن الجواب البدهي الأولي على إشكالية استقلال المقاصد عن الأدلة الشرعية، هو أن المقاصد ليست دليلا مستقلا عن الأدلة الشرعية، وإنما هي متضمنة فيها وتابعة لها وملتصقة بها ومتفرعة عنها. ( ليست المقاصد الشرعية مصادر تشريع خارجية.. والمقاصد جزء من المصادر الأساسية للتشريع الإسلامي، والحكم الذي نأخذه بطريق المصلحة أو الاستحسان أو غير ذلك من ضروب المآخذ الاجتهادية يعتبر حكما شرعيا، أي خطابا من الله متعلقا بأفعال المكلفين، لأنه [ ص: 135 ] نتيجة الخطاب الشرعي الذي يتبين من تلك المقاصد التي هي أمارات للأحكام التي أرادها الله ) [1] ويمكن أن نورد الأدلة على ما نقول فيما يلي:

- المقاصد الشرعية وكما تدل عليها صفتها -الشرعية- هي المقاصد الثابتة بالشرع الإسلامي، أي بأدلته ونصوصه وتعاليمه وهديه، فهي مبنية على الشرع ومنضبطة بقيوده وقواعده.. ومعلوم أن ميزان الحكم على أن هذا الفعل مصلحة أو مفسدة إنما هو الشرع وما يتعلق بذلك الفعل من الأدلة والقرائن والمعطيات الشرعية النصية والاجتهادية. والقول بغير هذا، موقع بلا شك في القول بتحكيم العقل قبل مجيئ الشرع وبعده، وفي ادعاء حقية المنفعة في ذاتها والمضرة في نفسها، ومساير لأرباب الفلسفات والقوانين والمعارف الوضعية التي اقتصرت في أفكارها ورؤاها على التفسير المادي لظواهر الكون وأفعال الناس، وصممت على إلغاء الأبعاد الدينية والغيبية والقيمية عن مسرح الحياة وطبيعة الوجود الإنساني والكوني [2] - بناء على ما ذكر، فإن المقاصد الشرعية هي المعاني المستخلصة من التصرفات الشرعية المتنوعة -نصوصا وأحكاما وقرائن وتعليلات [ ص: 136 ] ومعطيات لغوية وتاريخية وغير ذلك- ومن ثم فإن افتراض استقلال المقاصد عن التصرفات الشرعية، بين البطلان والرد، لما يلي بيانه:

- المقاصد مبنية على التصرفات الشرعية، وهي متوقفة على ما انبنت عليه وجودا وعدما، فالدعوة إلى استقلالها عن أساسها وأصولها دعوة لهدمها وطرحها، بذهاب ما انبنت عليه واستندت إليه.

- القول بأن المقاصد مبنية على الأدلة الشرعية ومستخلصة منها، ثابت بالاستقراء والتتبع والاستنتاج، والقول بغير ذلك مناف لمنطوق الواقع، ومعارض لمسلمات المنهج العلمي التجريبي المنطقي، الذي كان الاعتداد بالاستقراء والاستنتاج والاستخلاص أحد مسالكه وطرقه المهمة.

- المقاصد مع أدلتها الشرعية كالكلي مع جزئياته، وكالأصل مع فروعه، فبينهما تلازم وثيق وارتباط عميق من حيث البقاء والانتهاء .

- اتصاف المقاصد الشرعية بخصائص الثبات والعموم والشمول والظهور والانضباط والاطراد، وغير ذلك من السمات التي ميزتها عن حقيقة المقاصد وجوهر المصالح في الفلسفات والمذاهب غير الإسلامية، إن ذلك الاتصال وتلك السمات، دليل قوي، وبرهان ساطع، على انخراطها ضمن منظومة الشرع وتعاليمه المتسمة بسمات الثبات والشمول والعموم وغيرها، والمسايرة للفطرة الإنسانية السليمة، والداعية إلى الإبداع العقلي الرصين والأصيل. [ ص: 137 ]

فلو كانت المقاصد الشرعية موكولة إلى العقل والواقع والتجارب والأذواق والغرائز لما حظيت بتلك الخصائص، ولما ظل ميزانها موحدا ومعيارها محددا لا ينال منه الواقع الحياتي وتغيراته وتقلباته، والعقل البشري وتناقضاته وتعارضاته، ولا تمسه بشيء من المصالح الإنسانية المتعددة والمتضاربة والمختلفة باختلاف الأزمان والبقاع والأحوال، بل باختلاف الزمن اليسير الواحد، ورغبات الشخص الواحد في الأمر الواحد وفي الوقت الواحد

- القول بمبدأ التكليف الشرعي، القائم على تقرير الامتثال للأحكام وطاعة الله وإخراج النفس من دائرة الهوى ومنازع الشيطان، وإيصالها إلى أعلى درجات التزكية والصلاح والتقوى، عاجلا وآجلا، إن القول بذلك يؤكد مبدأ انخراط المقاصد في المنظومة الشرعية، وعدم انفلاتها منها، ودخولها في دائرة الهوى ومؤثرات الغرائز والأمزجة المضطربة، والأفكار والمذاهب الهدامة التي لم تقر للأخلاق والقيم والمصالح المعتبرة قرارا، بل إنها لم تكن لتساير سنن الكون في وجوب الانتظام والانضباط فكرا وممارسة حتى تستقيم موازين الأمور، وتتحدد منهاج التعامل على وفق قانون مضبوط وحكم عادل، وليس بظواهر الفوضى والهرج والتيه المتأتية بسبب تحكيم العقل والمزاج والخواطر. [ ص: 138 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية