الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
150 - وروى بإسناده عن عبد الوهاب الوراق، قال: سمعت أسود بن سالم يقول في هذه الأحاديث التي جاءت في الرؤية، قال: نحلف عليها بالطلاق والعتاق أنها حق.

فهذا الكلام في طريقها [ ص: 146 ]

وأما ألفاظ هذه الأحاديث فإنها تتضمن إثبات الصورة وإثبات الرؤية، وقد تقدم الكلام في ذلك فيما قبل وتتضمن زيادة ألفاظ في الرؤية لا يجب أن يستوحش من إطلاقها، لوجهين:

أحدهما: أن أحمد قال في رواية حنبل: لا نزيل عنه صفة من صفات ذاته بشاعة شنعت.

الثاني: أننا لا نطلقها على وجه الجوارح والأبعاض، وتغير الأحوال، وإنما نطلقها كما نطلق غيرها من الصفات من الذات والنفس والوجه واليدين والعين وغير ذلك، وليس في قوله: شاب وأمرد وجعد وقطط وموفر إثبات تشبيه، لأننا نثبت ذلك تسمية كما جاء الخبر لا نعقل معناها، كما أثبتنا ذاتا ونفسا، ولأنه ليس في إثبات الفراش والنعلين والتاج وأخضر أكثر من تقريب المحدث من القديم، وهذا غير ممتنع كما لم يمتنع وصفه بالجلوس على العرش، وكما روي في تفسير قوله: ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) قال: يقعده على العرش، وكما روي: "أن الله يدني عبده حتى يضع عليه كنفه" وكما روي في قوله: ( ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين ) وكما روي: "أنه وضع يده بين كتفيه" وكما روي: "دونه حجاب" وغير ذلك.

واعلم أنها رأيا منام لأن أم الطفيل قد صرحت بذلك في خبرها، وحديث ابن عباس أكثر ألفاظه مطلقة، وقد نقل في بعضها صريح بذكر المنام فيما حدثنا أبو القاسم فقال: "أتاني ربي الليلة في أحسن صورة" يعني في النوم.

فإن قيل: فهذه الأخبار ضعاف لأن مدارها على عكرمة، وقد قال ابن عمر لنافع: لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس، [ ص: 147 ] قيل: هذا غلط لأن عكرمة ثقة ثقة، وهو مولى لابن عباس، وقد أخرج عنه البخاري ومسلم ومالك وأحمد وغيرهم من أئمة أصحاب الحديث.

فإن قيل: فهذه الأخبار منام والشيء قد يرى في المنام على خلاف ما هو به، قيل: هذا غلط لوجوه، أحدها: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قصد بذلك بيان كرامته من ربه وقرب منزلته منه، فإذا حمل على خلاف ما أخبر زال المقصود، ولأن ما يخبر به شرع فهو معصوم فيه وصفات الله، عز وجل شرع اعتقادها، وإذا كان معصوما استوى فيه المنام واليقظة لأن رؤية الأنبياء تجري مجرى الوحي، من ذلك رؤيا إبراهيم، عليه السلام، ذبح ولده، ومن ذلك رؤيا يوسف، عليه السلام، في المنام الكواكب أنها ساجدة له، ولأن أعينهم تنام وقلوبهم لا تنام.

فإن قيل: يحتمل أن يكون قوله: "رأيت ربي جعدا قططا شابا موفرا" معناه: وأنا جعد قطط أمرد فتكون الصفة راجعة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، كما يقال: رأيت الأمير راكبا يحتمل أن يكون الأمير هو الراكب، ويحتمل أن يكون الرائي راكبا، قيل: هذا غلط لوجوه، أحدها: أنه لم يكن هذه صفات النبي، صلى الله عليه وسلم، ولو تغيرت صفته في تلك الحال لأخبر بذلك كما أخبر بوضع اليد بين كتفيه، وكما أخبر بقوله: "فيم يختصم الملأ الأعلى" ولأن ألفاظ الخبر تدفع هذا، لأن في حديث ابن عباس: "عليه تاج يلمع منه البصر" لو كانت الصفة راجعة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، لقال علي تاج، وفي حديث أم الطفيل: "رجلاه في خضر عليه نعلان من ذهب على وجهه فراش من ذهب" ولو كانت الصفة عائدة على النبي، صلى الله عليه وسلم، لقال: على وجهي وعلي فراش وعلي نعلان. وعلى أن قائلا لو قال: رأيت الأمير جعدا قططا لم تنصرف هذه الصفة إلا إلى الأمير دون الرائي كذلك هاهنا.

فإن قيل: يحتمل أن تكون هذه المناظرة التي وصفها في الخبر ترجع إلى ما رأى في الجنة من هذه الخلق وما زينت به، وأنه كان رائيا لربه في جميع ذلك لم يقطعه نظره إليها عنه ولم يشغله عنه، قيل: هذا غلط لأنه لو قال: رأيت الخليفة في صورة شاب على وجهه فراش وفي رجليه لم يعقل من ذلك داره، وإنما يرجع ذلك إلى ذاته. [ ص: 148 ]

فإن قيل: هذه الصفات لا تليق بصفات الله سبحانه لأنها من صفات المخلوقين المحدثين، قيل: هذا غلط، لأن مثل هذا موجود في إثبات الوجه واليدين والعين فإنها من صفات المخلوقين المحدثين وقد جاز وصفه بها.

فإن قيل: إنما أثبتنا ذلك لأنها وردت من طريق مقطوع عليه وهو القرآن، وهذه أخبار آحاد وخبر الواحد إنما يقبل فيما طريقه العمل، فأما فيما طريقه الاعتقاد والقطع فلا، لأنه لا يمكن القطع بمثلها، قيل: هذا غلط، لأنها وإن كانت أخبار آحاد فقد تلقتها الأمة بالقبول، منهم من حملها على ظاهرها وهم أصحاب الحديث، ومنهم من تأولها وتأويله لها قبول لها، وإذا تلقيت بالقبول اقتضت العلم من طريق الاستدلال، لأن تلقيهم لها يدل على صحتها.

وجواب آخر: وهو أنه لو لم يجب قبولها لم يجب التشاغل بتأويلها كسائر الأخبار الباطلة، ولما تشاغلوا بالتأويل على مقتضى اللغة علمنا صحتها.

فإن قيل: إنما تأولناها لئلا يخلو نقلها من فائدة، وأن لا يكون ورودها كلا ورود، قيل: لو لم يجب قبولها لم يلزم طلب الفائدة لها ولم بضر اطراحها كسائر الأخبار الباطلة.

التالي السابق


الخدمات العلمية