الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
170 - حدثناه أبو القاسم عبد العزيز، قال: نا أبو سعيد الحسن بن جعفر بن محمد الحربي، قال: نا جعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض أبو بكر الفريابي، قال: نا عبيد الله بن معاذ، قال: نا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: نا أبو عثمان، أنه سمع عبد الله أو سلمان، قال: ولا أراه إلا سلمان، قال: إن الله، عز وجل، لما خمر طينة آدم، عليه السلام، أربعين ليلة أو أربعين يوما، ثم ضرب بيديه فيه، فخرج كل طيب في يمينه وكل خبيث في يده الأخرى، ثم خلط بينهما، قال: فمن ثم خرج الحي من الميت والميت من الحي. أو كما قال هكذا حدثناه موقوفا وربما وصله بعضهم. [ ص: 172 ]

اعلم أن الخبر تضمن إثبات اليمين وتخمير الطين وخلط بعضه ببعض، وغير ممتنع إضافة ذلك إلى اليد التي خلق بها آدم ليس في ذلك ما يحيل صفاته، لأنا لا نحمل إثبات اليمين والتخمير والخلط على معنى الجارحة والعضو ومعالجة، وممارسة، بل نطلق ذلك كما أطلقنا قوله: ( خلقت بيدي ) على ظاهره.

فإن قيل: يحمل قوله خمر وخلط على ما تقدم في الخبر الذي قبله، وهو أنه خمرها وخلطها بملكه وقدرته، أو أمر بعض المخلوقين من ملائكته بفعل ذلك، قيل: هذا غلط لما تقدم من الجواب في الخبر الذي قبله، وهو أن فيه إسقاط فائدة التخصيص لأن قدرته تعم سائر الأشياء. ولأن للقدرة اسما أخص به، ولأنه إن جاز ذلك هاهنا جاز في قوله: ( خلقت بيدي )

فإن قيل: إنما لم يحمل قوله: ( خلقت بيدي ) على القدرة، لأن فيه إبطال تفضيل آدم على إبليس، وليس في حمله هاهنا على القدرة إبطال ذلك، قيل: في حمله على القدرة هاهنا إبطال فضيلة آدم أيضا، لأنه من هذه الطينة خلق، ولا يصح حمله أيضا على يد بعض المخلوقين ولا القدرة لما ذكرنا في الخبر الذي قبله، ولأن في الخبر ما يسقط ذلك، وهو قوله: "فخرج كل طيب في يمينه وكل خبيث في يده الأخرى"، وهذا صريح في إبطال القدرة لأن القدرة لا توصف باليمين والشمال، ولأن يد غير الله سبحانه لا توصف بأنه يخرج منها الخبيث والطيب، لأن هذا ابتداء خلق، وهو ما يختص الله به سبحانه.

فإن قيل: يحمل قوله: "فخرج كل طيب بيمينه"، أي: بما أنعم عليه من توفيقه وتسديده، وكل خبيث في اليد الأخرى بما حرمه من معونته ونصرته، والعرب تستعمل لفظة اليمين على معنى الحظ والجد، كما قال القائل:

إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

أي: بجد وحظ. [ ص: 173 ] قيل: لا يصح لأن الكلام يجب أن يرجع إلى ما تقدم ذكره، والذي تقدم ذكره: اليدان بقوله: "ثم ضرب بيديه فخرج كل طيب في يمينه" وجب أن يكون ذكر اليمين صفة لما تقدم ذكره من اليدين.

فأما النعم فلم يجر لها ذكر، ولأن النعم لا توصف باليمين وضدها.

فإن قيل يحمل قوله: "ثم ضرب بيديه ثم خلط بينهما" على معنى أنه لما خلق الذرية خلقها نوعين طيبا وخبيثا، وميزهما وجعل محل الطيب جانب اليمين عند يمين السعادة والتوفيق، وجعل محل الخبيث جانب اليسار من آدم أو من الملك الذي أمره بخلط الطينة ثم خلطهما بأن جعل الطيب في محل الخبيث، والخبيث في المحل الطيب، قيل: هذا غلط لأنه قد ثبت أنه خلقه بيديه فوجب أن يكون الخلط والضرب عائدا إليهما لأن بهما حصل الخلق، ولأنه لا يجوز حمله على الطائفتين لأن الطائفتين لا يقع عليهما اسم يدين ولا يمين.

واعلم أن الخبر أفاد أن آدم، عليه السلام، كان أصله طينا على هذا الوجه هذه المدة، ويشبه أن يكون ما روي في الخبر: "أن النطفة تكون علقة أربعين يوما، ثم تكون مضغة مثلها، إلى أن ينفخ فيها الروح"، فكانت مدة تغير آدم من هيئة إلى هيئة كنحو مدة تغير النطفة، وإن كان أمر النطفة مفارق لطينة آدم من وجوه أخر اهـ.

"حديث آخر"

التالي السابق


الخدمات العلمية