الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
192 - وقال في رواية حنبل: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "يضع قدمه" نؤمن به ولا نرد على رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

فقد نص على الأخذ بظاهر ذلك لأنه ليس في حمله على ظاهره ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما تستحقه لأنا لا نثبت قدما جارحة ولا أبعاضا، بل نثبت ذلك قدما صفة كما أثبتنا يدين ووجها وسمعا وبصرا وذاتا، وجميع ذلك صفات، وكذلك القدم والرجل، ولأنا لا نصفه بالانتقال والمماسة لجهنم، بل نطلق ذلك كما أطلقنا الاستواء على العرش والنظر إليه في الآخرة.

وقد احتج أبو بكر بن خزيمة في كتاب "التوحيد" على إثبات الرجل بقوله تعالى: ( ألهم أرجل يمشون بها ) وبقول أمية:

رجل وثور تحت رجل يمينه والنسر للأخرى وليث مرصد

وإن رسول الله صدقه فقال: صدق أمية بن الصلت.

وقد اعترض عليه بعضهم في هذا الدليل، وقال: لو كان التمسك بظاهر الآية صحيحا، لوجب القول بإثبات الأرجل والأيدي والأعين والآذان على وجه الجمع، لأن أرجل اسم جمع، وقد أجمع المسلمون على إنكار ذلك، وكذلك الآذان، قال هذا القائل: فعلم أن الله تعالى أراد به رد الكافرين عن عبادة الأصنام، وعرفهم أنكم تأنفون من عبادة من له رجل يمشي بها ويد يبطش بها وعين يبصر بها وأذن يسمع بها، فكيف تعبدون من ليس له شيء من ذلك [ ص: 197 ] يقرعهم على عبادة الأصنام التي هي جماد وموتان ليس لها فعل ولا قدرة ولا سمع ولا بصر.

وهذا الذي ذكره هذا القائل لا يمنع الاحتجاج بالآية، لأن الدليل قد دل على نفي إثبات هذه الصفات التي هي الأذن وجمع الأرجل فنفيناه، وبقي ما عدا ذلك على ظاهره، وهذه طريقة ظاهرة على أصول الفقهاء، وإن الدليل إذا تناول شيئين فقام الدليل على إسقاط أحدهما، لم يوجب ذلك إسقاط باقيه، كذلك هاهنا.

فإن قيل: يحمل قول أمية على أنه إذا أراد يمين العرش ويساره، قيل: هذا غلط لوجهين: أحدهما: أن صفة اليمين واليسار في حقيقة اللغة إنما يضاف إلى الذات دون الجمادات. والثاني: أن هاهنا كناية ومكني، فيجب أن ترجع إلى المقصود بالذكر هو الله سبحانه، كما لو قال: فلان عن يمين الخليفة، لا ينصرف ذلك إلى غيره.

فإن قيل: معنى القدم هاهنا المتقدم من المشركين يضعه في النار، لأن العرب تقول للشيء المتقدم: قدم، وعلى هذا تأويل قوله تعالى: ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ) أي سابقة صدق، قال وضاح اليمن:

صل لربك واتخذ قدما     ينجيك يوم العثار والزلل

أراد بذلك ما تقدم من الشرف، وما يفتخر به، [ ص: 198 ] قيل: هذا غلط لوجهين: أحدهما: أن قوله: "يضع قدمه" هاء كناية، وهاء الكناية ترجع إلى المذكور، والمذكور في الخبر لله سبحانه، وفي لفظ آخر" الجبار"، وفي لفظ آخر" رب العزة"، فوجب أن يرجع إليه، فأما المتقدم من الكفار فلم يتقدم ذكرهم، فلا يجب رجوع الهاء إليهم. والثاني: أن هذا يسقط فائدة التخصيص بالنار، لأن المتقدم بفعل الخير يضعه في الجنة، فلو كان المراد بالقدم المتقدم لم يكن لتخصيصه بالنار فائدة، فوجب حمله على ظاهره ليفيد فائدة.

وأما قوله سبحانه: ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) فقد روي عن زيد بن أسلم المراد به محمد، صلى الله عليه وسلم.

وقيل: المراد به الثواب روي بذلك عن ابن زيد وغيره. [ ص: 199 ]

وإنما حمل القدم هناك على السابق من الرسول والثواب، لأن في ظاهر اللفظ ما دل عليه، وهو قول سبحانه: ( قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ) وإنما قالوا ذلك في الرسول، وكذلك قوله تعالى: ( وبشر المؤمنين ) إنما يبشرون بما سبق لهم من الأعمال، فهناك ما دل على أن المراد بالقدم السابقة وليس في الخبر ما يدل على ذلك، بل فيه ما يدل على خلاف ذلك من الوجه الذي ذكرنا.

فإن قيل: فقد روي بكسر القاف: قدمه، وإذا كان كذلك كان معناه ما ذكرنا من التقدم من المشركين، قيل: هذا غلط لأنه لا يحفظ عن أحد من أصحاب الحديث أنه رواه بالكسر، فلا يجوز دعوى ذلك، والذي يدل على بطلانه ما ذكرنا.

فإن قيل: المراد بالقدم هاهنا: خلق من خلق الله تعالى يخلقه الله تعالى يوم القيامة، فيسميه: قدما، ويضعه الله من طريق الفعل والملك يضعه في النار فتمتلئ منه.

وقيل المراد: قدم بعض خلقه فأضاف ذلك إليه كما يقال: ضرب الأمير اللص، فيضاف إليه على معنى أنه يأمره.

قيل: هذا غلط لما تقدم من الوجهين، أحدهما: أن هاء الكناية ترجع إلى المذكور المتقدم، والذي تقدم ذكره هو الله سبحانه. والثاني: أنه يسقط فائدة التخصيص بالنار، لأنه قد ينشئ خلقا يوم القيامة فيدخلهم الجنة فتخصيص النار بذلك لا معنى له.

فإن قيل: قوله: "فيضع الجبار" جنس الجبابرة وهم الكفرة المعاندون.

وقيل: المراد به إبليس وشيعته لأنه أول من استكبر، فقال تعالى: ( إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين ) ، [ ص: 200 ] قيل: هذا غلط، لأنا قد روينا في الحديث: "يضع الله قدمه" وفي لفظ آخر: "فيضع رب العزة قدمه" وهذا صريح في أن المراد بالجبار هو الله رب العزة.

وجواب آخر وهو أن في الخبر تقول: "قط بعزتك وعظمتك"، وهذه صفة تختص الله سبحانه، لأن هذا قسم منها بالله سبحانه، خرج منها مخرج الخضوع والتذلل، ولا يكون هذا منها بوضع الجبابرة ومن يستحق العذاب لأنها سحق لهم، ولأنه قال لا تمتلئ حتى يضع الله رجله فيها، والرجل لا يعبر بها عن الجبابرة، والمتقدم من المشركين.

ولأن قوله: "لا تمتلئ" تعظيما لحالها وشدة غيظها، قال تعالى: ( تكاد تميز من الغيظ ) وما هذا صفته لا يكفه وضع بعض الجبابرة من الكفار، وإنما يكفيه قدم الصفة، ولأنه قال: "ينزوي بعضها إلى بعض" يعني مجتمع، وهذا لا يوجد ببعض خلقه، لأن النار تسحقه، كما قال: ( فسحقا لأصحاب السعير ) وإنما تجتمع من قدم الصفة.

فإن قيل: الحديث الذي روي فيه: "يضع رجله" لم يروه إلا بعضهم على الشك، فرواه الدارقطني بإسناده، عن أنس، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "يلقى في النار وتقول: هل من مزيد حتى يضع رجله فيها. أو قال: قدمه فتقول: قط قط"، فذكره على لفظ الشك فاحتمل أن يكون لما التبس عليه اللفظ، وتوهم أن القدم لا يكون إلا رجلا ذكر بدل القدم الرجل، قيل: هذا غلط، لأنا قد روينا هذا اللفظ بإسناده عن أبي هريرة من غير شك في اللفظ.

فإن قيل: فنتأول الرجل على نحو تأويلنا القدم، إما أن يريد رجل بعض خلقه فأضافه إليه ملكا وفعلا، أو يراد به رجل المتجبرين من خلقه، ولأنه قد قيل: [ ص: 201 ] الرجل للجماعة الكثيرة، ولأن العرب تقول: مر بنا رجل من جراد أي قطعة منها، قيل: هذا غلط لما تقدم، وهو أن هاء الكناية يرجع إلى المذكور المتقدم ولأنه صرح باسمه الأعظم.

فإن قيل: حمل الخبر على ظاهره يوجب رد القرآن، لأن الله سبحانه يقول: ( لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها ) فأخبر أن الإلهية: لا تردها، وفي جواز وضع القدم فيها إيراد لها، وقال تعالى: ( لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ) وظاهر الخبر يقتضي أنها تمتلئ بالقدم، وهذا خلاف ظاهر القرآن، فوجب تأويله، قيل: هذا غلط، لأن حمله على ظاهره لا يوجب رد القرآن، وذلك أن قوله تعالى: ( لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها ) معناه: ما وردوها على وجه الخوف والفزع والعقوبة، قال تعالى: ( وإن منكم إلا واردها ) وأراد على وجه الخوف، ثم قال تعالى: ( ثم ننجي الذين اتقوا ) وهذا المعنى معدوم في حقه سبحانه.

وأما قوله تعالى: ( لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم ) فنحن نقول بظاهره، وأنها تمتلئ به وبمن تبعه، لكن بعد وضع القدم وانزواء بعضها إلى بعض، ولا نقول إنها تمتلئ بالقدم.

فإن قيل: فقدم الصفة لا يجوز وصفها بالوضع في المكان، وإنما قدم الجارحة، وذلك لا يليق بصفاته، قيل: لا يمتنع إطلاق ذلك لا على وجه الحد والجهة والحلول، كما جاز وصف الذات بالعلو على العرش لا على وجه الحد والجهة، وإن كنا نعلم أن [ ص: 202 ] العلو غير السفل، ولهذا نصفه بالعلو ولا نصفه بالسفل، ثم لم يوجب ذلك وصفه بالجهة وكذلك رؤيته.

فأما قوله: قط قط: أي حسبي، وقد ورد هذا مفسرا في بعض الألفاظ، وهذا كما تقول العرب:

امتلأ الحوض وقال قطني     مهلا قليلا قد ملأت بطني

وقد قيل: إن ذلك حكاية صوت جهنم.

"حديث آخر في هذا المعنى"

التالي السابق


الخدمات العلمية