الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
227 - وقد أطلق أحمد القول بذلك فيما خرجه في "الرد على الجهمية" فقال: قد أخبرنا أنه في السماء فقال: ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا ) وقال، عز وجل: ( إليه يصعد الكلم الطيب ) وقال: ( إني متوفيك ورافعك إلي ) وقال: ( بل رفعه الله إليه ) وقال: ( يخافون ربهم من فوقهم ) وقال: ( ذي المعارج ) وقال: ( وهو القاهر فوق عباده ) فقد أخبر الله سبحانه أنه في السماء، وهو الله على العرش.

فقد أطلق أحمد القول بذلك، واحتج بهذه الآيات على جواز القول به،
وسنعيد الكلام في موضع آخر إن شاء الله، ولأنه ليس في ذلك ما يحيل صفاته، ولا يخرجها عما تستحقه، وذلك أنا لا نقول هو في السماء على وجه الإحاطة، بل نطلق ذلك كما أطلقنا جواز رؤيته، لا على وجه الإحاطة، وإن لم يكن ذلك معقولا في الشاهد، وكما قالوا في قوله: ( على العرش ) معناه: عال عليه، ولم يوجب ذلك كونه في جهة، وإن كنا نعلم أن العلو غير السفل.

فإن قيل: لا يجوز السؤال عنه بأين هو لأنه ليس في جهة، وإنما يصح السؤال عمن هو في جهة، ولا يصح الجواب عنه بأنه في السماء، لأن في حقيقته للظرف والوعاء ولا يجوز وصفه بذلك، قيل: هذا غلط لأنه لا يمتنع جواز السؤال عنه، ولا يفضي إلى الجهة، وجواز الجواب عنه بأنه في السماء لا يفضي إلى الوعاء، كما جاز إطلاق القول بأنه عال على العرش ولم يفض إلى الجهة، وإن كنا نعلم أن العلو غير السفل، وكذلك جاز القول برؤيته لا في جهة وإن لم يكن مرئيا في الشاهد إلا في جهة، [ ص: 234 ] كذلك هاهنا، وكذلك الحركة في الجسم، وإن لم تكن حالة فيه.

فإن قيل: هذه اللفظة قد تستعمل في السؤال عن المكان فيقال: هو في البيت أم في المسجد؟ وتستعمل في الاستعلام عن المنزلة فيقال: أين فلان منك ومن الأمير؟ وقد تستعمل في الاستعلام للفرق بين الرتبتين فيقولون: أين فلان من فلان، يعني بذلك، في الرتبة والمنزلة فيحتمل أن يكون قوله: أين الله استعلاما لمنزلته وقدره عندها، وفي قبلها، وأشارت أنه في السماء، أي رفيع الشأن عظيم المقدار، على معنى قوله القائل إذا أراد أن يخبر عن منزلة رجل: منزلة فلان في السماء، أي هو رفيع الشأن، قيل: هذا غلط، لأن الحقيقة في هذه اللفظة أنها استفهام عن المكان دون المنزلة والرتبة، وإنما تستعمل في ذلك على طريق المجاز فكان حملها على الحقيقة أولى.

وجواب آخر: وهو أنه لو كان استفهاما عن المنزلة لأنكر عليها جوابها بما يرجع إلى غير ما سألها، فلما لم ينكر ذلك امتنع صحة هذا التأويل.

وجواب آخر: وهو أن الأمة كانت من الطغام، ولا يضاف إليها المعرفة بحمل المكان على الرفعة وعلو المنزلة.

فإن قيل: فإذا لم يكن سؤالا عن المنزلة لم يبق إلا أنه سؤال عن المكان، وأنتم لا تثبتون ذلك، قيل: بل هو سؤال عن كونه في السماء لا على وجه الحلول.

فإن قيل: يحتمل أن يكون قولها في السماء معناه: فوقها، كما قال تعالى: ( فسيحوا في الأرض ) معناه عليها، وكذلك قوله تعالى: ( ولأصلبنكم في جذوع النخل ) معناه عليها، يبين صحة هذا قوله تعالى: ( يخافون ربهم من فوقهم ) فوصف نفسه بذلك وقوله: ( وهو القاهر فوق عباده ) [ ص: 235 ] فدل على أنه فوق السماء وفوق ما خلق، قيل: هذا غلط لوجوه، أحدها: أن هذا يسقط فائدة التخصيص بالسماء، لأنه فوق الأشياء كلها فلا معنى لتخصيصه بالسماء، إذا كان المراد به الفوق. الثاني: أنه إن جاز أن يطلق القول بأنه فوق السماء فوق العرش، ولا يفضي إلى الجهة وإن كنا نعلم أن الفوق ضد السفل جاز إطلاق القول بأنه في السماء ولا يفضي إلى الجهة. الثالث: إنما يجب الامتناع من ذلك لو كنا نقول ذلك على وجه الحد والظرف، فإما ونحن نمتنع من ذلك لم يمتنع إطلاق ذلك عليه.

فإن قيل: إن جاز أن تطلقوا هذا القول، وأنه في السماء لا على وجه الإحاطة والجهة، فأطلقوا القول في الأرض وفي كل مكان، لا على وجه الإحاطة والجهة، كما أطلقه النجار وجماعة من المعتزلة، بمعنى أنه مدبر فيها وعالم بها، كقولهم: فلان في نبا داره، معناه: مدبر لها، [ ص: 236 ] قيل: هذا غلط لأننا لا نطلق من ذلك إلا ورد به السمع، والسمع ورد بإطلاق ذلك في السماء وعلى العرش، ولم يرد في غير ذلك.

فإن قيل: قد ورد القرآن بذلك قال تعالى: ( وهو الله في السماوات وفي الأرض ) وقال تعالى: ( ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) قيل: في هذه الآيات ما دل على أنه ليس المراد به الذات، لأنه قال: ( وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم ) فأخبر أنه يعلم سرنا وجهرنا الواقعين في السماوات والأرض، إذ هي محال السر والجهر، ولهذا لا يجوز الوقف على قوله: ( وهو الله في السماوات وفي الأرض ) وإنما الوقف على قوله: ( وهو الله في السماوات ) وكذلك قوله: ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) معناه علمه بسرنا وجهرنا.

فإن قيل: فيجب أن تحمل قوله: ( وهو الله في السماوات ) على العلم، كما حملت قوله: ( وفي الأرض ) على العلم، قيل: الآية هكذا تقتضي أن المراد بها علمه ما في السماوات وفي الأرض، ونحن لسنا نمنع أن يكون علمه ما في السماوات وفي الأرض، لأن في الآية قرينة [ ص: 237 ] دلت على العلم، وغيرها من الآيات والأخبار مطلقة ليس فيها ما دل على العلم، فحملناها على ظاهرها، على وجه لا يفضي إلى الحد والجهة.

التالي السابق


الخدمات العلمية