الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
71 - حدثناه أبو القاسم عبد العزيز، قال: نا أبو الفتح القواس ولنا منه إجازة، قال: قرئ على أبي إسحاق إبراهيم بن حماد، نا أبو يحيى الناقد، قال: نا أبو صالح بن عبد الله الربذي، قال: نا معاوية بن عمار، نا أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: إن آدم لما هبط إلى الهند ورأسه يكاد ينال السماء، وأن الأرض شكت إلى ربها ثقل آدم قال: فوضع الجبار، جل اسمه، يده عليه فانحط سبعين باعا، وهبط معه الفحل والأترج والموز، قال أبو يحيى الناقد: يقولون: الفحل الذكر من النخل. وهذا يدل على تغير خلقته عما كانت عليه.

وجواب آخر: وهو أن هذا يسقط فائدة التخصيص لأن حواء لم يغير خلقها لما أخرجها من الجنة فوجب أن يكون لهذا التخصيص فائدة.

جواب آخر: وهو أنه قد روي: "خلق آدم على صورة الرحمن"، وهذا يمنع رجوع الهاء على آدم. فإن قيل: فالهاء عائدة على آدم، ويكون المراد به أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أفادنا بذلك إبطال قول أهل الدهر إنه لم يكن إنسان إلا من نطفة ولا نطفة إلا من إنسان فيما مضى، ويأتي وليس لذلك أول ولا آخر وإن الناس إنما ينقلون من نشوء إلى نشوء على ترتيب معتاد، فعرفنا تكذيبهم، وأن آدم خلق على صورته التي شوهد عليها من غير أن كان عن نطفة قبله وعن تناسل، أو تنقل من صغر إلى كبر كالمعهود من أحوال أولاده، قيل: هذا غلط لأنه يسقط فائدة التخصيص بآدم لأن الملائكة خلقوا من غير نطفة ولا تناسل وكذلك عيسى خلق من غير نطفة قبله وغير تناسل، وقد قال تعالى: ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) [ ص: 87 ] ولأنا قد استفدنا إبطال قول الدهرية من غير هذا الموضوع وهو قوله خلقته من طين.

وجواب آخر: وهو أنه قد روي: "خلق آدم على صورة الرحمن" وهذا يمنع رجوع الهاء على آدم.

فإن قيل: الهاء عائدة على آدم ويكون فائدته إعلامنا أنه لم يكن حادثا عن توليد عنصر أو تأثير طبع أو فلك أو ليل أو نهار إبطالا لقول الطبائعيين، أن بعض ما كان عليه آدم من هيئاته وصورته لم يخلقه الله، عز وجل، بل كان فعل الطبع أو تأثير فلك، فبين بذلك أن الله تعالى هو الخالق لآدم على ما كان فيه من الصور والتركيب، وإبطالا لقول القدرية أن من صفات آدم ما لم يخلقه الله وإنما خلقها آدم لنفسه.

قيل: هذا غلط لما بينا وهو أنه يسقط فائدة التخصيص بآدم لأن بقية البشر هذا المعنى موجود فيهم، وأن الله تعالى هو الخالق وأنه لا صنع للطبيعة فيها والفلك فيه، ولأنه قد روي في لفظ آخر: "خلق آدم على صورة الرحمن".

فإن قيل: إنما خص آدم بذلك تنبيها على أن من شاركه من المخلوقات في معناه، قيل: هذا غلط لما بينا من أن خلق عيسى في معنى خلق آدم بقوله: ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ) فلا معنى لتخصيصه بذلك، ولأن قوله: "خلق آدم على صورة الرحمن" يمنع من ذلك.

فإن قيل: الهاء عائدة على آدم ويكون فائدة إشارة إلى ما تقدم أن الله خلق السعيد سعيدا والشقي شقيا، فلما خلق آدم وقد علم أنه يعصي ويخالف، وكتب ذلك عليه قبل أن يخلقه عرفنا ما سبق من قضائه وأنه هكذا خلقه على ما علم منه، قيل: هذا غلط لما بينا أنه يسقط فائدة التخصيص بآدم لأن ولد آدم مخلوق على ما سبق قضائه من الشقاء والسعادة ولأنه قد روي في لفظ آخر: "خلق آدم على صورة الرحمن".

فإن قيل: عود الهاء على آدم أولى لأنه أقرب المذكور، قيل: الهاء قد تعود تارة إلى الأقرب وتارة إلى الأبعد، قال تعالى: [ ص: 88 ] ( لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه ) فالهاء في قوله: ( وتسبحوه ) عائدة على اسم الله تعالى، وإن كان أبعد في اللفظ وذكر الرسول أقرب، ولأنه لو قال قائل: ولد لفلان، ولد على صورته، عقل من ذلك صورة الأب وإن كان هو الأبعد في الخطاب، ولم يرجع ذلك إلى صفة الولد وإن كان هو الأقرب.

التالي السابق


الخدمات العلمية