الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولكن نقل عنه المروزي ، أنه إذا ساق الهدي ، فالقران أفضل ، فمن أصحابه من جعل هذا رواية ثانية ، ومنهم من جعل المسألة رواية واحدة ، وأنه إن ساق الهدي ، فالقران أفضل ، وإن لم يسق فالتمتع أفضل ، وهذه طريقة شيخنا ، وهي [ ص: 134 ] التي تليق بأصول أحمد ، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يتمن أنه كان جعلها عمرة مع سوقه الهدي ، بل ود أنه كان جعلها عمرة ولم يسق الهدي .

بقي أن يقال : فأي الأمرين أفضل ، أن يسوق ويقرن ، أو يترك السوق ويتمتع كما ود النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله .

قيل : قد تعارض في هذه المسألة أمران .

أحدهما : أنه - صلى الله عليه وسلم - قرن وساق الهدي ، ولم يكن الله سبحانه ليختار له إلا أفضل الأمور ، ولا سيما وقد جاءه الوحي به من ربه تعالى ، وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم .

والثاني قوله : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ) . فهذا يقتضي أنه لو كان هذا الوقت الذي تكلم فيه هو وقت إحرامه ، لكان أحرم بعمرة ولم يسق الهدي ، لأن الذي استدبره هو الذي فعله ، ومضى فصار خلفه ، والذي استقبله هو الذي لم يفعله بعد ، بل هو أمامه ، فبين أنه لو كان مستقبلا لما استدبره ، وهو الإحرام بالعمرة دون هدي ، ومعلوم أنه لا يختار أن ينتقل عن الأفضل إلى المفضول ، بل إنما يختار الأفضل ، وهذا يدل على أن آخر الأمرين منه ترجيح التمتع .

ولمن رجح القران مع السوق أن يقول : هو - صلى الله عليه وسلم - لم يقل هذا ؛ لأجل أن الذي فعله مفضول مرجوح ، بل لأن الصحابة شق عليهم أن يحلوا من إحرامهم مع بقائه هو محرما ، وكان يختار موافقتهم ليفعلوا ما أمروا به مع انشراح وقبول ومحبة ، وقد ينتقل عن الأفضل إلى المفضول ، لما فيه من الموافقة وتأليف القلوب ، كما ( قال لعائشة : لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين ) ، فهذا ترك ما هو الأولى لأجل الموافقة والتأليف ، فصار هذا هو الأولى [ ص: 135 ] في هذه الحال ، فكذلك اختياره للمتعة بلا هدي . وفي هذا جمع بين ما فعله وبين ما وده وتمناه ، ويكون الله سبحانه قد جمع له بين الأمرين ، أحدهما : بفعله له ، والثاني : بتمنيه ووده له ، فأعطاه أجر ما فعله ، وأجر ما نواه من الموافقة وتمناه ، وكيف يكون نسك يتخلله التحلل ولم يسق فيه الهدي أفضل من نسك لم يتخلله تحلل ، وقد ساق فيه مائة بدنة ، وكيف يكون نسك أفضل في حقه من نسك اختاره الله له ، وأتاه به الوحي من ربه .

فإن قيل : التمتع وإن تخلله تحلل ، لكن قد تكرر فيه الإحرام ، وإنشاؤه عبادة محبوبة للرب ، والقران لا يتكرر فيه الإحرام ؟

قيل : في تعظيم شعائر الله بسوق الهدي ، والتقرب إليه بذلك من الفضل ما ليس في مجرد تكرر الإحرام ، ثم إن استدامته قائمة مقام تكرره ، وسوق الهدي لا مقابل له يقوم مقامه .

التالي السابق


الخدمات العلمية