الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

ثم أفاض - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة قبل الظهر راكبا ، فطاف طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة وهو طواف الصدر ، ولم يطف غيره ، ولم يسع معه هذا هو الصواب ، وقد خالف في ذلك ثلاث طوائف : طائفة زعمت أنه طاف طوافين طوافا للقدوم سوى طواف الإفاضة ، ثم طاف للإفاضة ، وطائفة زعمت أنه سعى مع هذا الطواف لكونه كان قارنا ، وطائفة زعمت أنه لم يطف في ذلك اليوم ، وإنما أخر طواف الزيارة إلى الليل ، فنذكر الصواب في ذلك ، ونبين منشأ الغلط وبالله التوفيق .

قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : فإذا رجع أعني المتمتع كم يطوف ويسعى ؟ قال يطوف ويسعى لحجه ويطوف طوافا آخر للزيارة ، عاودناه في هذا غير مرة فثبت عليه.

قال الشيخ أبو محمد المقدسي في " المغني " : وكذلك الحكم في القارن والمفرد إذا لم يكونا أتيا مكة قبل يوم النحر ولا طافا للقدوم ، فإنهما يبدآن بطواف القدوم قبل طواف الزيارة نص عليه أحمد - رحمه الله - واحتج بما روت عائشة - رضي الله عنها - ، قالت : " فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ثم حلوا ، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى ؛ لحجهم " ، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة ، فإنما طافوا طوافا واحدا ، فحمل أحمد - رحمه الله - قول عائشة ، على أن طوافهم لحجهم هو طواف القدوم ، قال : ولأنه قد ثبت أن طواف القدوم مشروع فلم يكن طواف الزيارة مسقطا له كتحية المسجد عند دخوله قبل التلبس بالصلاة المفروضة .

وقال الخرقي في " مختصره " : وإن كان متمتعا ، فيطوف بالبيت سبعا وبالصفا والمروة سبعا كما فعل للعمرة ، ثم يعود فيطوف بالبيت طوافا ينوي به [ ص: 251 ] الزيارة وهو قوله تعالى : ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) [ الحج : 29 ] فمن قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متمتعا كالقاضي وأصحابه عندهم هكذا فعل ، والشيخ أبو محمد عنده أنه كان متمتعا التمتع الخاص ، ولكن لم يفعل هذا ، قال : ولا أعلم أحدا وافق أبا عبد الله على هذا الطواف الذي ذكره الخرقي ، بل المشروع طواف واحد للزيارة كمن دخل المسجد ، وقد أقيمت الصلاة فإنه يكتفي بها عن تحية المسجد ، ولأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه الذين تمتعوا معه في حجة الوداع ، ولا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به أحدا ، قال : وحديث عائشة دليل على هذا ، فإنها قالت : " طافوا طوافا واحدا بعد أن رجعوا من منى ؛ لحجهم " وهذا هو طواف الزيارة ولم تذكر طوافا آخر . ولو كان هذا الذي ذكرته طواف القدوم ، لكانت قد أخلت بذكر طواف الزيارة الذي هو ركن الحج الذي لا يتم إلا به ، وذكرت ما يستغنى عنه ، وعلى كل حال فما ذكرت إلا طوافا واحدا ، فمن أين يستدل به على طوافين ؟

وأيضا ، فإنها لما حاضت فقرنت الحج إلى العمرة بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم تكن طافت للقدوم ، لم تطف للقدوم ، ولا أمرها به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولأن طواف القدوم لو لم يسقط بالطواف الواجب لشرع في حق المعتمر طواف القدوم مع طواف العمرة ؛ لأنه أول قدومه إلى البيت ، فهو به أولى من المتمتع الذي يعود إلى البيت بعد رؤيته وطوافه به . انتهى كلامه .

قلت : لم يرفع كلام أبي محمد الإشكال وإن كان الذي أنكره هو الحق ، كما أنكره والصواب في إنكاره ، فإن أحدا لم يقل : إن الصحابة لما رجعوا من عرفة ، طافوا للقدوم وسعوا ، ثم طافوا للإفاضة بعده ، ولا النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا لم يقع قطعا ، ولكن كان منشأ الإشكال أن أم المؤمنين فرقت بين المتمتع والقارن ، فأخبرت أن القارنين طافوا بعد أن رجعوا من منى طوافا واحدا ، وأن الذين أهلوا بالعمرة طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى ؛ لحجهم وهذا غير طواف الزيارة قطعا ، فإنه يشترك فيه القارن والمتمتع فلا فرق بينهما فيه ولكن الشيخ أبا [ ص: 252 ] محمد ، لما رأى قولها في المتمتعين : إنهم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى ، قال : ليس في هذا ما يدل على أنهم طافوا طوافين والذي قاله حق ، ولكن لم يرفع الإشكال فقالت طائفة هذه الزيادة من كلام عروة ، أو ابنه هشام ، أدرجت في الحديث ، وهذا لا يتبين ، ولو كان فغايته أنه مرسل ولم يرتفع الإشكال عنه بالإرسال .

فالصواب : أن الطواف الذي أخبرت به عائشة ، وفرقت به بين المتمتع والقارن هو الطواف بين الصفا والمروة ، لا الطواف بالبيت ، وزال الإشكال جملة ، فأخبرت عن القارنين أنهم اكتفوا بطواف واحد بينهما ، لم يضيفوا إليه طوافا آخر يوم النحر ، وهذا هو الحق ، وأخبرت عن المتمتعين أنهم طافوا بينهما طوافا آخر بعد الرجوع من منى للحج ، وذلك الأول كان للعمرة وهذا قول الجمهور ، وتنزيل الحديث على هذا موافق لحديثها الآخر وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يسعك طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة لحجك وعمرتك " ، وكانت قارنة يوافق قول الجمهور .

ولكن يشكل عليه حديث جابر الذي رواه مسلم في " صحيحه " : لم يطف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا ، طوافه الأول . هذا يوافق قول من يقول يكفي المتمتع سعي واحد ، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد - رحمه الله - نص عليها في رواية ابنه عبد الله وغيره وعلى هذا ، فيقال عائشة أثبتت وجابر نفى ، والمثبت مقدم على النافي .

أو يقال مراد جابر من قرن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وساق الهدي كأبي بكر وعمر وطلحة وعلي - رضي الله عنهم - وذوي اليسار فإنهم إنما سعوا سعيا واحدا .

وليس المراد به عموم الصحابة ، أو يعلل حديث عائشة ، بأن تلك الزيادة فيه مدرجة من قول هشام وهذه ثلاث طرق للناس في حديثها والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية