الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والفرق بين القارن والمتمتع السائق من وجهين ، أحدهما : من الإحرام ، فإن القارن هو الذي يحرم بالحج قبل الطواف ، إما في ابتداء الإحرام ، أو في أثنائه .

والثاني : أن القارن ليس عليه إلا سعي واحد ، فإن أتى به أولا ، وإلا سعى عقيب طواف الإفاضة ، والمتمتع عليه سعي ثان عند الجمهور . وعن أحمد [ ص: 132 ] رواية أخرى : أنه يكفيه سعي واحد كالقارن ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسع سعيا ثانيا عقيب طواف الإفاضة ، فكيف يكون متمتعا على هذا القول .

فإن قيل : فعلى الرواية الأخرى ، يكون متمتعا ، ولا يتوجه الإلزام ، ولها وجه قوي من الحديث الصحيح ، وهو ما رواه مسلم في " صحيحه " ، عن جابر قال : لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا . طوافه الأول هذا ، مع أن أكثرهم كانوا متمتعين . وقد روى سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل قال : حلف طاووس : ما طاف أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لحجه وعمرته إلا طوافا واحدا .

قيل : الذين نظروا أنه كان متمتعا تمتعا خاصا ، لا يقولون بهذا القول ، بل يوجبون عليه سعيين ، والمعلوم من سنته - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه لم يسع إلا سعيا واحدا ، كما ثبت في الصحيح ، عن ابن عمر ، أنه قرن ، وقدم مكة ، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ، ولم يزد على ذلك ، ولم يحلق ولا قصر ، ولا حل من شيء حرم منه ، حتى كان يوم النحر ، فنحر وحلق رأسه ، ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول ، وقال : هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم . ومراده بطوافه الأول الذي قضى به حجه وعمرته : الطواف بين الصفا والمروة بلا ريب .

وذكر الدارقطني ، عن عطاء ونافع ، عن ابن عمر ، وجابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما طاف لحجه وعمرته طوافا واحدا ، وسعى سعيا واحدا ، ثم قدم مكة ، فلم يسع بينهما بعد الصدر . فهذا يدل على أحد أمرين ، ولا بد إما أن يكون قارنا ، [ ص: 133 ] وهو الذي لا يمكن من أوجب على المتمتع سعيين أن يقول غيره ، وإما أن المتمتع يكفيه سعي واحد ، ولكن الأحاديث التي تقدمت في بيان أنه كان قارنا صريحة في ذلك ، فلا يعدل عنها . .

فإن قيل : فقد روى شعبة ، عن حميد بن هلال ، عن مطرف عن عمران بن حصين ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( طاف طوافين ، وسعى سعيين ) . رواه الدارقطني عن ابن صاعد : حدثنا محمد بن يحيى الأزدي ، حدثنا عبد الله بن داود ، عن شعبة . قيل : هذا خبر معلول وهو غلط . قال الدارقطني : يقال : إن محمد بن يحيى حدث بهذا من حفظه ، فوهم في متنه ، والصواب بهذا الإسناد : أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قرن بين الحج والعمرة ، والله أعلم . وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يدل على أن هذا الحديث غلط .

وأظن أن الشيخ أبا محمد بن قدامة ، إنما ذهب إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان متمتعا ، لأنه رأى الإمام أحمد قد نص على أن التمتع أفضل من القران ، ورأى أن الله سبحانه لم يكن ليختار لرسوله إلا الأفضل ، ورأى الأحاديث قد جاءت بأنه تمتع ، ورأى أنها صريحة في أنه لم يحل ، فأخذ من هذه المقدمات الأربع أنه تمتع تمتعا خاصا لم يحل منه ، ولكن أحمد لم يرجح التمتع ؛ لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - حج متمتعا ، كيف وهو القائل : لا أشك أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان قارنا ، وإنما اختار التمتع لكونه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو الذي أمر به الصحابة أن يفسخوا حجهم إليه وتأسف على فوته .

التالي السابق


الخدمات العلمية