الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الرابع .

إذا وطئ بعد التحلل الأول : لم يبطل حجه ، لأنه قد حل من جميع [ ص: 235 ] المحظورات إلا النساء ، أو جاز له التحلل منها ، وقد قضى تفثه كما أمره الله وما خرج منه وقضاه ، لا يمكن إبطاله . نعم يبطل ما بقي منه كما سنذكره .

ولأنه بعد التحلل الأول : ليس بمحرم ، إذ لو كان محرما لما جاز له قتل الصيد ، ولا لبس الثياب ، ولا الطيب ، ولا حلق الشعر ، لكن عليه بقية من الإحرام ؛ هو تحريم الوطء ومجرد تحريم الوطء لا يبطل ما مضى قبله من العبادة .

ومعنى قولنا : إذا وطئ بعد التحلل الأول : أي بعد رمي جمرة العقبة ، سواء ذبح وحلق ، أو لم يحلق ولم يذبح ، وسواء قلنا : التحلل يحصل بمجرد الرمي ، أو لا يحصل إلا به وبالحلق . هذا هو المنصوص عن أحمد ، وهو الذي عليه قدماء الأصحاب ، ومن حقق هذا منهم ، مثل : الخرقي ، وأبي بكر ، وابن أبي موسى ، وغيرهم ، فإنهم كلهم جعلوا الفرق بين ما قبل رمي جمرة العقبة وما بعدها من غير تعرض إلى الحلق .

قال - في رواية أبي الحارث - في الذي يطأ ولم يرم الجمرة : أفسد حجه ، وإن وطئ بعد رمي الجمرة فعليه أن يأتي مسجد عائشة فيحرم بعمرة ، فيكون أربعة أميال مكان أربعة أميال ، وعليه دم .

وهذا لأننا إن قلنا : التحلل الأول يحصل بالرمي وحده فلا كلام ، سواء قلنا : الرمي واجب ، أو مستحب .

وإن قلنا : يحصل بالرمي والحلق . والوطء قبل الحلق كالرمي قبل الحلق في [ ص: 236 ] العمرة وذلك غير مفسد أيضا ، لأنه جاز له الخروج من هذا الإحرام بالحلق .

وإذا جاز الخروج بفعل ما ينافيه لم يكن الإحرام باقيا على حاله ، وإلى هذا أشار أحمد في رواية أبي الحارث ، فقال : الإحرام قائم عليه ، فإذا رمى الجمرة انتقض إحرامه .

وأما القاضي - في المجرد - وأصحابه : فعندهم إذا وطئ قبل الحلق وقلنا : هو نسك واجب فسد حجه ؛ لأنه وطئ قبل التحلل الأول ، وهذا يضاهي قولهم : تفسد عمرته إذا وطئ فيها قبل الحلق .

وإن قدم الحلق قبل الرمي ووطئ بعده ....

وإن طاف قبل الرمي والحلق والذبح ، ثم وطئ : لم يفسد نسكه ؛ لأنه لم يبق عليه ركن وقد تحلل ، وقد طاف في إحرام صحيح وعليه دم فقط ، ويحتمل أنه لا دم عليه ، ويتوجه أن يلزمه الإحرام من التنعيم ليرمي في إحرام صحيح .

ولو أخر الرمي وسائر أفعال التحلل عن أيام منى : لم يتحلل ، فلو وطئ فسد حجه أيضا نص عليه في رواية ابن القاسم وسندي فيمن لم يرم جمرة العقبة إلى [ ص: 237 ] الغد ووطئ النساء قبل الغد : فسد حجه ، فقيل له : إنهم يقولون : إذا كان الوطء بعد خروج وقت الرمي فليس هو بمنزلة من وطئ قبل الرمي ، فقال : أليس قد وطئ قبل الرمي ، وإنما يحل الوطء بالرمي .

قال القاضي وابن عقيل : فقد نص على أن التحلل لا يقع بخروج وقته ، وإنما يحصل بفعل التحلل ؛ لأنها عبادة ذات أفعال ، فلم يقع التحلل منها إلا بفعل التحلل كالصلاة لا يقع التحلل منها إلا بفعل التحلل وهو السلام ، بخلاف الصوم ، فإنه فعل واحد فيقع التحلل منه بخروج وقته . وإذا ثبت أن التحلل ، لا يقع بخروج وقت التحلل ، فإذا وطئ قبل أفعال التحلل ، وهو الرمي والطواف ، والحلاق : فيجب أن يفسد حجه ، كما لو كان الوقت باقيا .

وهذا لأن فوات وقت الرمي لا يوجب حصول التحلل بمجرد مضي الوقت ، كما أن فوات وقت الوقوف لا يوجب حصول التحلل من الحج بمضيه ، بل يتحلل بغير الرمي من الحلق والطواف ، كما يتحلل من فاته الحج بالطواف والسعي .

التالي السابق


الخدمات العلمية